شهامة امرأة وأحلام اليقظة في زمن صحافة التريند

فتاة منيا القمح

 

أرادت “الفتاة” أن تكون نجمة أو بطلة، وحديثا للناس مثل الفرسان النبلاء، أصحاب الشهامة والمروءة.. بينما هي شاردة في التفكير لنيل ما تريد، قادتها النفس بعيدا عن العقل، وساقتها إلى “أحلام اليقظة”، حيث الميدان رحب، يتسع للبطولات حتى لو كانت من وحي الخيال، كما في بعض الأفلام الهندية والأمريكية، التي يأتي أبطالها بأفعال خارقة. أتحدث عن “فتاة” عشرينية، ممرضة سابقا، تُدعى “أماني” من إحدى قرى محافظة الشرقية الكائنة على مسافة 100 كيلومتر تقريبا شمال العاصمة المصرية القاهرة.. البداية كانت من صفحة على فيسبوك باسم “منيا القمح ميديا”، نشرت قصة بطولة نادرة قامت بها أماني.

رواية مُفككة.. وصورة قديمة وملابس صيفية

“الصفحة” في ما نشرت، قالت إن أماني ابنة قرية ميت سهيل التابعة لمركز منيا القمح، كانت تُقلها مركبة “توك توك”، عندما شاهدت جمعا من الناس يقفون متفرجين على شاطئ ترعة كوبري أبو طبل، ويوالون التصوير لسيارة سقطت في الترعة، وبها أربعة أطفال وامرأتان. “أماني” توقفت واستلت “قطعة حديد”، قفزت بها إلى الترعة، لتكسر زجاج السيارة، وتسحب الركاب الستة، بل وأجرت لهم جميعا الإسعافات الأولية، وأنقذتهم من الموت، ثم نقلتهم إلى المستشفى، هكذا قالت.

إلى هنا انتهت رواية صفحة منيا القمح البادي عليها أنها مُفككة، تخاصم المنطق، لا يدعمها أي مقطع فيديو مع أن المئات كانوا حضورا، يلهون بالتصوير حسب رواية البطلة، بل إن الصورة التي استعانت بها الفتاة تأكيدا لروايتها، هي لسيارة غارقة، وحولها على الترعة جمهرة من المواطنين، بعضهم يرتدي “ملابس صيفية”، بما يعني أن الصورة قديمة والتُقطت صيفا وليس شتاءً.

 إشادة رئيسة المجلس القومي للمرأة.. وامرأة بـ”100 رجُل”

لاحقا، تبيّن أن الحكاية كلها مُلفقة ومُفبركة، فلا هناك بلاغات بسقوط سيارات في الترع، ولا المستشفيات استقبلت الحالات المزعوم إنقاذها، كما تراجعت محافظة الشرقية عن تكريمها بعدما انكشف زيف القصة كلها، مثلما أن رئيسة المجلس القومي المصري للمرأة الدكتورة مايا مرسي، حذفت “تدوينه” لها، نشرتها على صفحتها الرسمية، إشادة ومدحا للفتاة وبطولتها ومسلكها الإيجابي. قبل أن يتبين كذب قصة فتاة منيا القمح التي إن صحت، فهي تُجسد شهامة امرأة بـ”مئة رجُل” كما تم وصفها. كانت غالبية المواقع الصحفية المصرية، وبعض الفضائيات، قد نشرت الحكاية وتوسعت فيها مع إسباغ أوصاف الفروسية والنبل والشجاعة والشهامة على الفتاة، لتملأ الحكاية الدنيا في زمن “صحافة التريند”.

فيلم “بطل من ورق”..  والفتاة وتدوير القصة

القصة تُذكّرني بفيلم “بطل من ورق”، من أفلام الحركة والإثارة، أنتجته السينما المصرية عام 1988، بطولة ممدوح عبد العليم (1956-2016) وصلاح قابيل (1931-1992) وأحمد بدير وآثار الحكيم.. وفيه موظف “آلة كاتبة” مريض نفسيا، قبل ظهور الحاسب الآلي، وقع بيده سيناريو فيلم يتضمن سرقة مجوهرات وأموال وتفجيرات، فشرع في تنفيذ السيناريو تفصيليا وارتكاب جرائم، للفت الأنظار إليه، وتتويج نفسه بطلا، والنشر عنه في الصحف.. مؤلف السيناريو أبلغ البوليس، وقام بتأليف نهاية أخرى للفيلم، قدّمها للجاني، للإيقاع به. من الناحية النفسية، فإن مسلك الفتاة، ربما إعادة تدوير لقصة قرأتها أو سمعتها سابقا، أو من وحي خيالها، كما فعل موظف الآلة الكاتبة في “بطل من ورق”، بتنفيذه السيناريو على أرض الواقع.. فقد ألّفت أو ابتدعت “رواية”، قامت فيها بدور البطولة المطلقة من دون منافس، متفوقة على آلاف البشر المتفرجين حسب روايتها، دون أن يتحركوا لإنقاذ النساء والأطفال الذين أنقذتهم هي.

أحلام اليقظة والهروب إلى الخيال.. لا لوم للفتاة

من زاوية اجتماعية، فإن سرعة انتشار القصة المفبركة للفتاة، تعكس تلهُّف الناس وتشوقهم إلى نماذج للبطولة والفروسية والتضحية من أجل الغير، والإيجابية، عوضًا عن التدهور الأخلاقي الذي يعيشونه، في ظل شيوع قيم الفردية والانتهازية والنفاق والزيف والتزوير، ومنطق “نفسي وليهلك الجميع من بعدي”، و”أنا مالي”، مع معاناة الكثيرين من إحباطات حياتية ومعيشية نتيجة الغلاء وتردي الأحوال. قد يكون من حق الفتاة أن تعيش “أحلام اليقظة”، ولها العذر على كل حال، فهذا النوع من الأحلام، يمسك بتلابيب الشخص، ويأسره، هروبا من الواقع والملل والمصاعب الحياتية، إلى “الخيال” حيث لا مشكلات ولا عوائق، ومن ثم فليس لنا لوم الفتاة، ولا يجوز ممارسة جلدها وتأنيبها، فهي أحوج للأخذ بيدها لتجاوز متاعبها.

وسائل إعلام.. أم ببغاوات لترديد ما ينشره رواد التواصل الاجتماعي؟!

المشكلة الأهم، تكمن في انشغال وسائل الإعلام المصرية في الأيام الثلاثة الماضية، بقصة الفتاة، والبطولة المزعومة لها، ونشرها واستضافتها، دون التثبت من صحتها، حسب ما توجب القواعد المهنية، فـ”الصحافة” وإن كانت لا تستطيع تجاهل ما ينشره رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لما لبعضه من إفادة، فإن عليها التيقن أولا والتحقق من دقته وصدقيته، وليس مجرد النقل والترديد على شاكلة الببغاوات.

بدت المواقع الصحفية وبعض الفضائيات، كما لو أنها سقطت في كمين أو فخ أعدته الفتاة (البطلة المزيفة) بإحكام دون قصد منها.. جاء السقوط بلا أدنى تردد.. لِمَ لا؟ والحكاية جاذبة، تجنى الآلاف من المشاهدات، بما يعني انتشارا وأموالا للناشرين، فلم تتحوط هذه الوسائل الإعلامية لاحتمال كذب رواية الفتاة، رغم افتقادها المنطق.

هناك “طُرق مُستحدَثة” لاكتشاف التضليل، والتزييف في المعلومات والصور (ليس هنا مجالها)، وكان يمكن لهذه “المواقع” التيقن أولا باستخدام هذه الطرق، من حكاية الفتاة. كما أن للمواقع والفضائيات مراسلين في المحافظات، يمكن الاتصال بهم وتكليفهم أولا بالتحري عن مصداقية وسلامة الحكاية، لكنه “التريند” والاستسهال والاستهتار. المُخجل، أن وسائل الإعلام المتورطة في نشر قصة البطولة الوهمية لفتاة منيا القمح، لم تشعر بـ”العار” لنشر هذه القصة المفبرَكة والكاذبة، ولا اعتذرت لجمهورها عن هذه الفضيحة المهنية، لكنها “صحافة التريند”!

المصدر : الجزيرة مباشر