رسالة إلى جماعة الإخوان

 

الأرقام المتداولة في مصر ليست دقيقة، بل متفاوتة جدًّا، في ما يتعلق بأعداد المعتقلين والمسجونين من المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، سواء أكانوا منتمين، أم متعاطفين، أم مشتبَه بهم، أو حتى لا صلة لهم من قريب أو بعيد إلا أن هذه هي التهمة، هناك أرقام تتحدث عن 60 ألفًا، وأخرى تشير إلى أكثر أو أقل، كل ذلك بسبب انعدام الشفافية تمامًا تجاه هذه القضية من ناحية، ومن ناحية أخرى نتيجة تعدد الوجهة لهؤلاء وأولئك.

هناك من صدرت بحقهم الأحكام، وهناك المحبوسون احتياطيًّا على ذمة قضايا، وهناك من لا يزالون داخل مقار الأجهزة الأمنية على ذمة تجهيز القضايا، وهناك أيضًا المُخفَون قسرًا، ولا أحد من ذويهم يعلم أين هم، وهناك من فارقوا الحياة في أي من الميادين وما زال ذووهم يعتقدون أو يأملون أن يكونوا على قيد الحياة، وهناك من لا يزالون على قيد الحياة، بينما ذووهم يعتقدون أنهم في عداد الوفيات، أي أن الجهات الرسمية أو الأمنية قد تكون هي الأخرى تعاني من عملية تضارب الأرقام.

المشروع القومي لأسرته

في كل الأحوال نحن أمام أزمة، لا يمكن ولا ينبغي تجاهلها، ولا تعنينا هنا جماعة الإخوان في حد ذاتها، كما لا تعنينا الجهات الأمنية المسؤولة عن هذه الأوضاع، ما يعنينا هم هؤلاء المعتقلون والمسجونون والمُخفَون جميعًا أيًّا كان عددهم، أو أيًّا كان وضعهم في السجون والمعتقلات تحت أي بند وبأي شكل من الأشكال، ذلك أن أي مواطن من هؤلاء وأولئك ترك خلفه قصة إنسانية تصلح أن تكون عملًا دراميًّا من طراز مؤلم، أيًّا كان عمره، في سن الشباب حيث كان يمثل المشروع القومي لأسرته، أو في سن متقدمة، بعد أن أصبحت أسرته عرضة للتشرد والتسول، ناهيك عن ضياع مستقبل هذا وذاك في آن واحد.

يجب أن ندرك من خلال ما يجري، أن الإرادة السياسية متأرجحة في ما يتعلق بالإفراج عن هذا العدد الذي تتفرد به مصر، والأمر لا يحتاج إلى حوار وطني، ولا إلى لجنة متخصصة، ولا إلى مساومات ومفاوضات، ولا أي شيء من هذا القبيل، الأمر فقط يحتاج إلى إرادة، إلى قرار، إلى مجرد العودة إلى قانون الحبس الاحتياطي السابق المقدر بستة أشهر حدًّا أقصى، واحترامه، رغم أن ستة أشهر مدة طويلة عندما يتعلق الأمر بنوعية معظم القضايا المنظورة حاليًا، سواء أمام نيابة أمن الدولة، أو ما تُسمى محكمة المشورة، ناهيك عن أن كل ما يدور من حوارات يستهدف وبكل وضوح ما يُسمى التيار المدني، في إشارة إلى أن تيار الإسلام السياسي، أو التيار الديني في مجمله، ليس له أي نصيب ولو من عملية الحوار في حد ذاتها.

إذَن، نحن أمام عشرات الآلاف من البشر، أو من المواطنين، أو من الأيدي العاملة، تم عزلهم عن الحياة في ظروف أقل ما يقال عنها إنها سيئة، عدد كبير منهم قارب السنوات العشر في السجون، منذ 2013 حتى الآن، وسوف يستمر بهم الحال على هذا المنوال إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، لا يعلم إلا الله وحده متى وكيف، وهو الأمر الذي كان يتطلب التحرك الفوري والسريع من جماعة الإخوان تحديدًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رحمة بهؤلاء وزوجاتهم وأطفالهم وأمهاتهم وآبائهم، وذلك في غياب الضمير المحلي والدولي في آن واحد.

 

معنويات مرتفعة

لا أنكر أبدًا أن معظم مَن في السجون يتمتعون بمعنويات قد تكون مرتفعة، يقينًا منهم بأن بعد العسر يسرًا، وأن الفرج قادم لا محالة، وهو إيمان يُحسَدون عليه، وذلك بالتوازي مع أنباء وشائعات متواترة -أعتقد أنها مقصودة وممنهجة- بأن مفاوضات تجري على قدم وساق من أجل الإفراج عنهم، وهي أنباء أعتقد أنها غير صحيحة أبدًا في ضوء انعدام الإرادة التي أشرنا إليها سابقًا، وفي الوقت نفسه عدم وجود مبادرة إخوانية على مستوى الأزمة.

إلا إنني لم أستطع الوقوف على مصدر هذه الأنباء المتعلقة بالمفاوضات، أو بمعنى أصح الشائعات، هل هم الإخوان أنفسهم أم الجهات الأمنية؟ المصلحة هنا تصبح مشتركة وللمرة الأولى، ذلك أن قيادات الإخوان في الخارج يمكن أن تبعث برسائل: أنكم في دائرة اهتمامنا ولا تقصير في ذلك، لذا كنا نسمع كثيرًا اسم القيادي (ابراهيم منير) الذي كان يعيش في بريطانيا قبل وفاته، أو (يوسف ندا) الذي يعيش في سويسرا، أو (محمود حسين) من تركيا، على اعتبار أنهم قاموا أو يقومون بعملية التفاوض، بينما يمكن أن تسعى الجهات الأمنية أيضًا إلى تهدئة المعتقلين بهذا النوع من الشائعات، حتى لا يكون اليأس ومِن ثم الصدام سيد الموقف في هذا السجن أو ذاك.

في كل الأحوال، نحن أمام أمر واقع يتمثل في وجود عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، كان يجب التحرك من أجل إنقاذهم بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو قيام جماعة الإخوان بتجميد نشاطها في مصر إلى أجل غير مسمى، أو لسنوات، إنقاذًا لهؤلاء وأُسرهم في آن واحد، وهو إجراء ليس في حاجة إلى مفاوضات مسبقة مع السلطة للوقوف على مدى قبوله من عدمه، ذلك أنه سيضع السلطة في كل الأحوال في موقف لا تُحسَد عليه داخليًّا وخارجيًّا في آن واحد، وسيحقق الهدف ولو جزئيًّا.

ولا يكفي في هذا الصدد ما يتواتر عن الإخوان من تعهّد بأنهم لن يسعوا إلى ما أطلقوا عليه (المزاحمة السياسية على السلطة في المستقبل)، وما شابه ذلك، لأننا في هذه الحالة أمام كلام مرسَل وحديث فضفاض لن يجد من يتبناه أو يبني عليه أو يتحمس له، لأن السلطة تعي تمامًا أن وجود الإخوان على الساحة تحت أي عنوان يتعلق بالدعوة أو النشاط الاجتماعي، إنما هي قضية وقت فقط “لإعادة تنظيم الصفوف”، وهو تعبير سمعه الداني والقاصي من السلطة الرسمية بوضوح، مقرونًا بمخاوف لم تستطع السلطة إخفاءها.

مصالحة في الداخل وثقة مع الخارج

أعتقد أن النظام في مصر في حاجة إلى مصالحة في الداخل وثقة مع الخارج، بالتالي لن يمانع أبدًا في التفاعل مع أي إجراء حاسم في هذا الإطار، إلا أن الجماعة يجب أن تعترف بالهزيمة أمامه، وليس بالندية في هذه المرحلة تحديدًا، ذلك أن التاريخ في كل الأحوال يكتبه المنتصرون، حتى لو كانت الهزيمة من خلال ضربة جزاء غير صحيحة، أو من خلال حكام دوري كرة القدم المحليين الذين يدور حولهم الجدل دائمًا، وفي وجود (حكام فار) دوليين سجلوا كل كبيرة وصغيرة، وما جدوى (الفار) بعد انتهاء المباراة؟

أرى أن الكرة في ملعب الجماعة، وأعي أن هذا الطرح يُغضب البعض، إلا إنني أناشدهم إعمال العقل والضمير، إنقاذًا أيضًا لآلاف اللاجئين والمهاجرين الذين لا يستطيع بعضهم تجديد جوازات السفر أو استخراج أي من الأوراق الرسمية، وإنقاذًا لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الذين فقدوا عائلهم حتى أصبحوا يتامى وأرامل وثكالى رغم وجود العائل على قيد الحياة، ضعوا أنفسكم مكان من يعيشون خلف القضبان من شباب وشيوخ، ضعوا أنفسكم مكان النساء والفتيات اللاتي ضاقت بهن السجون والمعتقلات، بعد ذلك يمكنكم إصدار الأحكام، ومِن ثم اتخاذ القرار.

المصدر : الجزيرة مباشر