التيار الوطني المنشود وحراسة الديمقراطية “تركيا نموذجا “

في مثل هذا الشهر تحل الذكرى السادسة لتصدي الشعب التركي لمحاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو من العام 2016، وهو حدث شعبي يستحق الإشادة والاحتفاء والعزة والفخار، لأن تاريخ وحاضر الانقلابات العسكرية والتي تقع أغلبها في أفريقيا والمنطقة العربية لم تشهد هذا النوع من الإيجابية الشعبية غير المعهودة، لأن المعهود عندما تنزل الدبابات والأليات إلى الشارع بالتزامن مع البيان التليفزيوني بحدوث الانقلاب لا ينزل الشارع إلا المؤيد والداعم لهذه الجريمة القانونية والدستورية الشنعاء، لكن الجديد هو أن تملأ الشوارع بشلالات من البشر الرافضين للانقلاب بتصد وصمود واشتباك خشن ومنع الدبابات من السير والحركة وهو ما يذكرنا ببسالة وبطولة مدن القناة المصرية في التصدي للاحتلال، وقد تكرر عدة مرات منها العام 1956 والعام 1973، أكرر شلالات من البشر تصدت للدبابات والآليات وحاصرت بعض المناطق والوحدات بل والمرافئ والمطارات وليس مجرد اعتصامات وتظاهرات.

شلالات جارفة وتيارات شعبية زاحفة من كل الألوان والأطياف والأفكار والمذاهب والمعتقدات والأعمار، نزل الشعب التركي ليقول لقطاعات الجيش المنقلبة ولدول العالم المتآمرة “هنا الشعب” صاحب السيادة والكلمة والاختيار، وأن زمن الانقلابات العسكرية قد ولى بلا رجعة، وتصدى للانقلاب من هم مع أردوغان ومن هم ضده، من انتخبه ومن حاولوا إسقاطه، من يؤيدونه ومن يعارضونه، لكنهم جميعا يريدون تركيا الجديدة ومسارها الديمقراطي كلمة السر في التغيير والتدبير والحقوق والحريات والكرامة والمكرمات.

“المسار الديمقراطي هو الأسلوب الأمثل”.

نموذج من الوعي الفكري والعقلي والوجداني الراقي الذي بنته التجربة الديمقراطية منذ التسعينيات وما قبلها من الستينيات بالتزامن مع مرحلة الشهيد البطل عدنان مندريس، هذه الجموع البشرية متعددة الألوان والأفكار ورصيد التجربة والعقل الجمعي التركي أيقنت أن المسار الديمقراطي هو الأسلوب الأمثل لحل كل المشكلات التي يعانيها الشعب، وإن تأخرت بعض الحلول لكنها قادمة حتما، وإن الحكم العسكري لا يقدم حلولا ولا صلة له بالحياة المدنية وله مهمة وظيفية محددة من خلال مؤسسة تابعة للدولة كباقي المؤسسات، وليس مؤسسة سيادية ولا من فيها سادة على غيرهم.

“رسالة التيار الوطني العام بوضوح”

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب أفرزته التجربة والمسار الديمقراطيين حين اتسعت مساحات الحرية والحركة والتعبير والمشاركة والمسؤولية، واستطاع أن يوازن بين طرفي معادلة الحقوق والواجبات ولم يضحْ بالدولة ككيان ولا بالمسار الديمقراطي كمنهج ولا بقيادات التجربة كنموذج من أجل مطالب فئوية يمكن الصبر عليها بعض الوقت، ولا من أجل مكايدة سياسية للتخلص من أشخاص وكيانات على أمل أن تخلى الساحة للآخرين ثم يأتي العسكر ليأكلوا الثور الأبيض وبعدها يهلكوا البشر والشجر والحجر معا كعادتهم.

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب كان الحصن لحماية رئيس الدولة المنتخب حين طلب، والدعم لمؤسسات الدولة حين ارتبكت واهتزت، وحائط الصد بصدور عارية أمام تقدم كتائب الانقلاب المتمردة.

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب، قام بدور الدولة ومؤسساتها حين كان الاشتباك والارتباك والفوضى ودفع البعض دمه وروحه فداء لأمته وشعبه وأهله حتى لا ينهار الصرح الديمقراطي الذي عاشوا فيه حياة البشر والسادة وليس حياة العبيد.

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب، تكوّن بالتراكم خلال عقود، تيار يملك أدوات الوعي والمعرفة فلم يضلله إعلام ولم يغيب عقله فقر أو حاجة لذا لم يتنازل عن عقله ولم يبع ضميره.

التيار الوطني العام هو جملة العناصر والأفكار والقيم الموجودة في الشارع والحزب والجامع والجامعة والكنيسة ومؤسسات الدولة والأحزاب التي تحكم والتي تعارض معا، والموجود في الأجهزة الأمنية والمخابراتية والمؤسسة العسكرية نفسها، لذا لم يكن هناك إجماع من مؤسسة الجيش ولا مؤسسات الدولة على هذه الجريمة الدستورية والقانونية فكان الذين تصدوا للانقلاب أضعاف مضاعفة للذين قاموا به أو أيدوه.

التيار الوطني العام، أمل منشود لحماية إرادة الشعب حين تغيب المؤسسات، وحراسة المكتسبات حين تحضر المكائد والمؤامرات، وصمام أمأن ووثيقة ضمان ضد من يغلب عليه الهوى والمغامرات.

المصدر : الجزيرة مباشر