سيد قطب بين العمامة والسيناريست

بلال فضل

 

سعدت بمتابعة السجال الثقافي الدائر على صفحات التواصل الاجتماعي بين السيناريست بلال فضل والشيخ عصام تليمة حول تقييم سيرة المُفكر سيد قطب ومسيرته، وقد بدأ الأستاذ بلال فضل السجال بعنوان مثير، وهو “هل كان سيد قطب إرهابيًّا؟ الحقيقة آه”، ثم جاء رد الشيخ عصام تليمة عليه تحت عنوان: “ردًّا على بلال فضل.. سيد قطب ليس إرهابيًّا”.

هذا النقاش أثار تفاعلًا عريضًا بين الجمهور العربي، وهذا أمر حسن أن تستحوذ الموضوعات الثقافية على مساحة من اهتمامات الشباب العربي، وتدفعهم للبحث والعودة للكتب والمصادر وإعمال الفكر النقدي فيما يُطرح عليهم من أيديولوجيات ومشاريع فكرية.

وبعد متابعتي لهذا السجال وجدت أن كلًّا من السيناريست والشيخ قد اتسم سجالهما بخصائص مشتركة عند تقييمهما للمفكر سيد قطب، هذه المُشتركات تجعل العائد من هذا السجال يكاد يكون معدومًا، وتعيق الاستفادة من تراث سيد قطب، ويمكن حصر هذه المشتركات في:

الانطلاق من المدخل الجزئي للحكم

فقد ركز “فضل” في طرحه حول أفكار سيد قطب على كتاب واحد من كتبه، هو كتاب (معالم على الطريق)، واستعان بآراء عدة لباحثين مختلفين أيديولوجيًّا عن سيد قطب، محاولًا إثبات تهمة الإرهاب على “قطب”، وقد استخدم “تليمة” المنهج نفسه في الدفاع عن فكر سيد قطب، فردَّ على نصوص بلال فضل بنصوص أخرى وباحثين آخرين تناولوا بالتقييم سيدَ قطب (نص مقابل نص)، وهذا المدخل الجزئي لا يُوصل لفهم شامل لمشروع سيد قطب.

غياب سيد قطب الإنسان

بلال وعصام تعاملا مع سيد قطب كونه مفكرًا مصمتًا وليس إنسانًا متعدد الأبعاد والأطوار والمراحل والسمات، له ذات وكيونية تتأثر بالزمن والمكان والأحداث والصراع الأيديولوجي في عصره، فكما يقولون: “المُفكر ليس فوق الزمان والمكان”، لذا فإن تناول أفكار المفكرين وإنتاجهم بعيدًا عن فهم السياقات الاجتماعية يقود إلى أحكام متسرعة، ويُوقع أيضًا في دفاعات غير منطقية عن مسيرتهم.

ضياع البوصلة

بعد سماعي لحوار عصام وبلال لم يتضح لي الهدف والغاية من تناول بلال لموضوع الحكم على سيد قطب هل كان إرهابيًّا أم لم يكن؟ ولم يفصح الشيخ عصام تليمة عن سبب اهتمامه بالدفاع ونفي تهمة الإرهاب عن سيد قطب، فالحكم بتورط قطب في الإرهاب والجزم بذلك يصلح أن يكون قضية جنائية في قاعات المحاكم ودفاتر أجهزة الأمن، ورد عصام على بلال بعدم تورط قطب في الإرهاب بالأدلة هو أيضًا يصلح دفوعًا في مذكرة محامٍ يدافع عن “قطب” في المحاكم، وهذا سياق مختلف عن نقد الملامح الثقافية والفكرية لكتابات قطب أو غيره.

المنهجية الإنسانية:

ما تقدم من مشتركات بين بلال فضل وعصام تليمة عند تناول تراث سيد قطب يجعلنا نتساءل هل يُوجد بديل ثقافي ثالث يوفر لنا منهجية نافعة تساعدنا في الوقوف بإنصاف وموضوعية عند التعاطي مع القامات الفكرية وإنتاجها؟

الإجابة: نعم.

ثمة منهجية إنسانية تنظر بها المجتمعات الجادَّة إلى نخبها الثقافية الكبيرة، وهذه المنهجية من خلال الخبرة والتجربة صالحة لتناول المفكرين الكبار بشكل عامٍّ من مختلف الأيديولوجيات والمذاهب والمجالات، فهي تصلح للنظر في تراث الفيلسوف حسن حنفي، والدكتور نصر حامد أبو زيد، والمُفكر علي شريعتي، والأستاذ عبدالوهاب المسيري، والشيخ محمد رشيد رضا، والفيلسوف نيتشه وهايدجر، والإمام محمد عبده، والكاتب فرج فودة، إلخ.

وتتطلب هذه المنهجية من الراغب في تقييم الشخصيات الفكرية أن يراعي ستة محاور مهمة، هي:

أولًا: تعرُّف مشروعِ المُفكر الرئيس

فلكل مُفكر -غالبًا- مشروع رئيس وحلم وتطلُّع لأفق جديد دفعه الواقع الذي نشأ فيه إليه، فقام من أجله بتحبير الصفحات وخوض النقاشات والحوارات، وربما قاده هذا الحلم للاشتباك مع السلطة والجماهير والتضحية بنفسه من أجل حلمه وفكرته، فليس من الإنصاف عند تناول سيرته ومنتجاته الفكرية ألَّا يعرف الناقد له أو المدافع عنه ما مشروع الرجل وحلمه الذي من أجله كتب وألّف ودوَّن وناضل؟ فلا يمكننا -مثلًا- نقد مسار الفيلسوف علي شريعتي من خلال النظر فقط في كتابه: “دين ضد الدين” دون النظر إلى مشروع علي شريعتي وحلمه في تثوير المجتمع الإيراني الشيعي، ودفعه لنيل حريته من نظام الشاه.

ثانيًا: التحرر من ضيق الأيديولوجيا

الذين ينتمون للماضي ومعاركه وسجالاته غالبًا عندما يتناولون الشخصيات الفكرية الكبيرة ينظرون إليها من تجاعيد الماضي وآلامه، ويقيمون صروح نقدهم على أطلال الأيديولوجيا، ويجعلون أفكارهم المُسبقة هي بوصلتهم سواء في الهجوم أو في الدفاع عن الشخصيات الفكرية، فغالبًا الناقد ذو الأيديولوجية الإسلامية لن يكون منصفًا مع تراث المُفكر فرج فودة، ولا الكاتب الناصري سيكون عادلًا مع كتابات سيد قطب، لذلك من المهم جدًّا عند تناول جهود المفكرين أن يتسم الناقد بالانحياز للحقيقة، ويتحلى بالموضوعية، ويكون شعاره: “ولا تبخسوا الناس أشياءهم”.

ثالثًا: رصد مشاريعه المنفتحة على المستقبل

النخب الواعية عند تناولها لتراث مُفكر من المفكرين يركزون على النافع والصالح في كتابات هذا المؤلف أو ذاك الكاتب الصالحة للاستفادة منها في حياة المجتمع وآلامه، ويكون همهم الرئيس هو إقامة الأركان لا هدم البُنيان، فالنخبة الثقافية الألمانية عندما تتناول تراث الفيلسوف الشهير نتشه، الذي له كتابات غير منصفة للمرأة والحداثة والتنوير وفلسفة الأخلاق (يمكن الوقوف على موقف نتشه من هذه القضايا بالعودة لكتاب الدكتور فؤاد زكريا عن نتشه) تتغاضي عن كل ما تقدم، وتركز على أفكار نتشه المنفتحة على المستقبل، والباعثة على الأمل، وبعث الروح في المجتمع الألماني، لذلك من النادر أن تجد طرحًا في المجتمع الثقافي الألماني يتناول نتشه بوصفه إرهابيًّا، أو معاديًا للمرأة، أو شخصًا رجعيًّا تسبب في سقوط المجتمع في فترات الظلام والتخلف، وذلك يرجع لأن العقل الثقافي الألماني مسكون بآمال المستقبل وتطلعاته، وغير مشغول بمعارك الماضي.

إذا أردنا إسقاط ذلك على المُفكر سيد قطب سنجد عند قطب كثيرًا من الأفكار المفيدة والنافعة التي تصلح للانطلاق منها نحو المستقبل، منها على سبيل المثال: فكرة أن هناك توافقًا بين الفطرة والكينونة والوحي، وأن هناك منطق التكوين ومراد التكوين، وأن الفطرة الإنسانية فاعلة وترسل رسالتها للناس بأنها في حاجة إلى منظور كلي للوجود والحياة، يقول قطب استكمالًا لهذه الفكرة بأن لو لم يكن الإسلام وحيًا لجاء به الإنسان نفسه لكي يقدر على التعامل مع تحديات الحياة.

هذا الفكرة الواعدة تجعل الإنسان مركزيًّا في التصور الديني، وتجعل الدين خادمًا لممكنات الإنسان، وليس العكس.

رابعًا: قياس تأثيره في تغيير وجهة نظر المجتمع للأشياء والأفكار

تقييم القامات الفكرية ومشاريعها ومعرفة مكامن القوة ونقاط الضعف فيها يحتاج إلى جهود متضافرة، وتخصصات متداخلة مثل: علم الاجتماع، والفلسفة، وعلم النفس، والإعلام. خاصة إذا أردنا الوقوف على معرفة تأثير مؤلف من المؤلفين ومشروع فكري أو أيديولوجي في المجتمع ونخبته، فمعرفة تأثير المؤلف والمثقف على الناس سلبًا أو إيجابًا جانب مهم لفهم تجربته ومساره، فالنظر مثلًا للمجتمع الأوربي كونه مجتمعًا متقدمًا تقنيًّا فقط دون معرفة أثر فلاسفة الأنوار والحداثة في إخراج المجتمع من الكراهية إلى التسامح والتعايش يقودنا إلى تصور غير دقيق عن سر نهضة المجتمع الأوربي، لذلك محور معرفة أثر الكاتب والمُفكر وقت حياته وبعد مماته مهم جدًّا للاستفادة من تجربته، لذلك ستجد المتعجل في تناول سير المفكرين غالبًا ما يستشهد بكتبه فقط ومدى انتشارها، دون أن يعرج على أثر هذا المُفكر في الواقع والناس.

خامسًا: الوقوف على كل ما كتب المُفكر

كتب المُفكر سيد قطب قرابة خمسة وعشرين كتابًا في مجالات شتَّى، في الأدب، والفن، والشعر، والقصص، والروايات، والفكر الإسلامي، وتفسير القرآن، وفي الفكر الإنساني، وهذا يتطلب من الناقد له قبل الحديث والتقييم الشامل أن يعيش مع كامل كتبه بالدراسة والفهم ومعرفة السياقات الفكرية والسياسية التي كُتبت فيها هذه الكتب، والوقوف على أهم الأفكار البارزة فيها، بالإضافة إلى معرفة مراحل تطور سيد قطب أديبًا ومفكرًا، والاطلاع على السجالات الفكرية التي نتجت عن هذه الكتب، ومن الذي قام بالردِّ عليها؟ وتفنيد الأفكار التي وردت فيها، وهذا المحور والجانب إلى الآن لم أجد ناقدًا عربيًّا قدم فيه طرحًا متماسكًا، فمجمل ما هو متاح في نقد سيد قطب يرتكز على كتاب أو اثنين من كتبه فقط!

سادسًا: معرفة الإطار السياسي الذي برز فيه وموقفه منه

المفكرون الكبار في حياة الأمم والشعوب يتأثرون ويؤثرون في المجال السياسي بشكل ملحوظ، فمنهم من تؤسس أفكاره نظمًا سياسية جديدة، ومنهم من يناضل من أجل إسقاط نظم سياسية قائمة، ومنهم من يعارض السلطة القائمة، ومنهم من يساندها، والمفكر كما تقدم ليس فوق الزمان والمكان، وبالمناسبة كل من الفقيه والمُفسر ليس بعيدًا عن مجال تأثير نظم الحكم وما تفرضه من إكراهات وإغراءات، لهذا على الراغبين في فهم مسيرة المفكرين وأصحاب المشاريع الفكرية أن يطلعوا على الإطار السياسي الذي برز فيه المُفكر، ويعرف موقفه منه، وعلاقته به، وما مدى تأثير هذا في إنتاجه الفكري والثقافي، من أجل الفهم ومعرفة الظروف التي دفعت المُفكر لكتابة إنتاجه، ومن ثَمَّ القدرة على تعرف الأفكار التي ينبغي تجاوزها في تراث هذا المفكر، والأفكار التي ينبغي الإمساك بها واستكمال مسيرتها، فالفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر على الرغم من موقفه المُعادي لليهود، وتأكد معادته للسامية وفق ما جاء في دفاتره السوداء المنشورة في العام 2014، وقبوله منصب رئاسة إحدى الجامعات في عهد النازية (عهد هتلر)، إلا أن النخبة المثقفة الألمانية -وحتى اليهوديَّة- لم تدعُ إلى مقاطعة كتبه ولا وصمه بالإرهاب والرجعية والتخلف، بل الغريب أن أشهر تلاميذه وأنجبهم ينتمون إلى الآن للديانة اليهودية، والسبب في ذلك يرجع إلى أن النخب الألمانية واليهودية تعرف السياق السياسي الذي برز فيه الفيلسوف، وتفرق بين ما كُتب في ظروف إنسانية تغيب فيها الحكمة والدقة، وما بين المشروع الرئيس للفيلسوف والمثقف.

وفي الختام أعتقد أن الاستفادة من خطوات هذه المنهجية الست ربما تقودنا إلى الإنصاف مع قاماتنا الفكرية العربية، ويساعد الأجيال الجديدة على الاستفادة من الجهود والمشاريع الفكرية العربية باختلاف مشاربها وتنوعاتها ومذاهبها الأيديولوجية والمذهبية، بعيدًا عن الفجوات الأيديولوجية الضيقة، ويجعل عيوننا متجهة نحو المستقبل رغبة في صناعة واقع ومستقبل واعد ينتصر للعقل والإنسان والحقيقة.

المصدر : الجزيرة مباشر