العراق.. زوايا حرجة ونهايات مغلقة!

مقتدى الصدر لديه الجمهور الأوسع

 

جملة تحديات انطوى عليها المشهد العراقي ما بعد عام 2003، بدءًا من نظام المحاصصة الطائفية إلى تجربة الحكومات التوافقية إلى الدستور بعلله المتنوعة، الذي كُتب على خلفية احتلال وبوجوده، وما تبع المشهد العراقي من ضعف إداري وفساد مالي وتشريعي، عوامل معقدة أنتجت الاحتقان والصدام الداخلي والطائفي وظهور الإرهاب المتعدد الأوصاف.

وتحليل مخرجات الحدث العراقي اليوم يتطلب التأصيل والتاريخية ذات العلاقة.

الكتلة الكبرى خارج البرلمان

خرج نواب الكتلة الصدرية باستقالات جماعية استجابة لنداء زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر تاركين 73 مقعدًا في البرلمان العراقي، وهي الكتلة الكبرى المنوط بها دستوريًّا تشكيل الحكومة، وقد اختارت نظام الأغلبية البرلمانية على نظام الحكومات التوافقية السابقة التي أخفقت في تحقيق الحد الأدنى من طموحات الشعب العراقي على مدى ما يقرب من 20 عامًا.

التيار الصدري ليس وحده مَن طرح مشروع حكومة الأغلبية، إذ سانده في ذلك التحالف الذي شكّله مع أكبر كتلة سنية بزعامة رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ممثلًا بزعيمه مسعود برزاني.

مفاجأة لم تكن في الحسبان، مقتدى الصدر يوعز لنواب تياره السياسي بالانسحاب وتقديم استقالاتهم من البرلمان، تاركًا تساؤلات عدة ومواقف محرجة لحلفائه قبل مناوئيه وخصومه السياسيين في تحالف ما يُسمّى (الإطار التنسيقي) ممثلًا في دولة القانون وقائمة الفتح اللتين مُنيت كل منهما بتراجع كبير في الانتخابات الأخيرة عام 2021.

الصدر أكد أن الانسحاب من البرلمان جاء بهدف الإصلاح، لكن لم يوضح ما الفكرة الحقيقية من هذا الإصلاح إلا بما صرّح به في اجتماع لاحق بكتلته بعد الانسحاب، من أنه لا يستطيع العمل مع الفاسدين، ولن يعود إلى البرلمان ولن يشارك مع الفاسدين، إذا أعيدت الانتخابات مرة أخرى.

العملية السياسية والسفينة الغارقة

يرى كثيرون أن أحد أهم الأسباب التي دعت الصدر إلى الطلب من ممثلي تياره في البرلمان الانسحاب، هو استثمار الوقت المتبقي لمغادرة السفينة الغارقة بعد الإخفاق في تحقيق مشروع حكومة الأغلبية، رغم الفرصة الذهبية التي سنحت له بتشكيل تحالفه المختلف هذه المرة من حيث الالتقاء مع أكبر الكتل السنية ومثلها الكردية المشار إليهما، وأن البرلمان بوضعه الحالي لم يعد المحطة القادرة على التغيير بسبب تكرار الوجوه التي أدت الى فشل إنجازاته قبل الانسحاب.

وهناك معطيات كثيرة تشير الى أن الوضع قابل للتغيير، بل ومرشح لذلك، عن طريق معادلات الخارج المؤثرة والضاغطة على المشهد العراقي منذ الاحتلال عام 2003، وأقلّها محاولة إعطاء الثقة بحالة التغيير في العراق التي أثبتت عبر جميع مراحل ما بعد الاحتلال أنها كانت أكبر عملية نصب واحتيال سياسي يتعرض لها بلد، وهو ما تعرّض له العراق.

إجابات محرجة على هامش الاستقالات.. من يشكل الحكومة؟

الأطراف السياسية جميعها اليوم في حالة حرج، والإطار التنسيقي بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والمتحالفين معه لا يمتلكون الأغلبية ولا الثلثين بما يمكّنهم من تشكيل الحكومة، وهناك إشكالية الإجابة عن سؤال مفاده “مَن يتحالف مع مَن؟ وأثر فأس أحدهم ما زال أمام عين الآخر”، إضافة إلى ما يبدو واضحًا أن جماعة الإطار التنسيقي ليس لديها العمق السياسي أو الاستعداد والمرونة السياسية التي يجب أن تكون حاضرة في مثل هذا الظرف الحرج من متغيرات جديدة فرضتها ظروف المرحلة التي دخل بها العنصر الشعبي كمعادل لا يُستهان به.

الأمر الذي لم تعد مجدية معه محاولاتُ استدعاء وتأجيج خطاب المراحل القديمة، فالجماهير لم تعد تقتنع بهذا الخطاب ولا حتى الأطراف التي يحاول الإطار التنسيقي التحالف معها، وهو ما يعني -وفق تقدير العديد من الخبراء- أن الإطار التنسيقي سيشهد الفشل الكبير والمجازفة بمستقبله إذا حاول تشكيل الحكومة الميتة قبل ولادتها.

احتمال التغيير من خارج البرلمان.. “الثورة الشعبية”

يعود الحديث هنا إلى الإجابة عن سؤال مهم: الى أين سيذهب التيار الصدري الذي حقق الأغلبية في الانتخابات، ومثّل الكتلة الكبرى؟! والذي وقفت قوى (الإطار التنسيقي) أمامه وأربكت مشروعة سياسيًّا، خصوصًا أن مقتدى الصدر لديه جمهور مؤثّر وفاعل. والقول برجوع الصدر إلى العملية السياسية غير معقول، ومعنى هذا نسف ما قام به أو رفع لأجله شعار الانسحاب لأجل الإصلاح، الذي ترك بعده بلدًا بانتظار بركان شعبي قد يتفجر على أثر فشل سياسي ذريع.

قد يجد الصدر أن لديه الجمهور الأوسع، وهذا ما جعله -فعلًا- يحصد الأغلبية الفارقة من مقاعد البرلمان، وهو القادر على التغيير في أي لحظة، الأمر الذي يجعل خصومه مرتبكين غير قادرين على المواجهة وحدهم دون استدعاء الخارج.

ضمن هذا التصور، تصبح معادلة النزول إلى الشارع بهدف التغيير واردة جدًّا من ظاهر ما حدث ويحدث. لكن في المقابل، هناك آراء تتوقع عكس ذلك من زاوية النظر إلى كثرة التراجعات عن المواقف التي رافقت مسيرة التيار الصدري سياسيًّا. وأبعد من ذلك، لا يستغرب كثيرون من إمكانية أتباع التيار الصدري وقدرتهم على تحويل خطاب الشارع إلى خطاب يطالب بعدول نواب الكتلة الصدرية عن استقالاتهم، والعودة هذه المرة من البوابة الجماهيرية، لكن ذلك -حتمًا- لا يمنع التصور أن صدامات قد تحدث مع توقع النزول إلى الشارع من نتائج انسداد بل انهيار الحالة السياسية التي يصاحبها تردي الخدمات وانتشار الفساد وتعطل كثير من المصالح.

نعتقد أن هذا النظام بطريقته المتخلفة لا يمكن تغييره من الداخل لأنه غير قابل للتغيير، والمواجهة المقبلة قد تأتي مع تدخلات دولية كانت السبب الأول في وضع بذرة هذه العملية السياسية المعقدة، أو بثورة شعبية عارمة أو عصيان مدني، إذ لم تكن الثورات والاعتصامات السابقة إلا مقدمات لولادة لحظة التغيير الحقيقية عن طريق الشعب.

المصدر : الجزيرة مباشر