أوراق روسيا ونقاط قوتها

بوتين

في حسابات موازين القوى بين الدول لا تقتصر على ذكر ما تملكه أي دولة من أسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل، بل يلزم لها ما تعول عليه من ميزات أخرى تعطيها أفضلية على خصومها، ولعل أبرز هذه الميزات هي “التحالفات”، فحتى الولايات المتحدة التي تمتلك ترسانة عسكرية قادرة على تفتيت الكوكب لا تخوض حروبها منفردة، بل ضمن تحالفات، وهي مهتمة دائمًا بتشكيل تحالفات جديدة تكون عونًا لها وقت الحاجة، فكما شكّلت حلف الناتو سابقًا لمجابهة الاتحاد السوفييتي، أعادت مؤخرًا تأسيس حلف جديد عُرف باسم “أوكوس” الأنجلوساكسوني يضم الدول الناطقة بالإنجليزية -أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا- لمجابهة الصين، لذا التحالفات والاستعانة بالأصدقاء هي واحدة من أساسيات المواجهة العسكرية تاريخيًا، والآن.. هناك أيضًا تحالفات مع جماعات ومنظمات ومليشيات مسلحة توجد في بلد معين أو بلدان عدة، ومثال ذلك حزب الله بالنسبة لإيران، الجيش الأحمر الأيرلندي كان في السابق أداة لدول عدة لضرب الإنجليز، وبالمثل المنظمات الكردية المسلحة في العراق وشمال سوريا، كذلك بعض الشركات الخاصة تضطلع بمثل هذه الأدوار لصالح دول أخرى كشركة “بلاك وتر” الشهيرة التي كانت أداة أمريكية في العراق.

وبعيدًا عن التحالفات يعد الاقتصاد وما تملكه الدول من شركات هي أداة تُوَظَّف عسكريًا في وقت الحاجة لضرب الخصوم وإرهاقهم اقتصاديًا، وأيضًا طرق التجارة والمجال الجوي والطرق البحرية والممرات المائية، كل ما سبق ذكره من (التحالفات/ المليشيات/ الشركات المسلحة/ الاقتصاد…) يدخل ضمن حسابات موازين القوة في أوقات الحروب، وتعد نقاط قوة للدولة التي تحسن توظيفها.

“نقاط القوة الروسية وما تملكه من أوراق تستطيع زعزعة أمن العالم”

أولًا: التحالفات الروسية مع كوريا الشمالية، التي لا تتوقف عن إزعاج أمريكا والغرب ودول الجوار المتحالفة مع واشنطن عبر تجاربها النووية وأسلحة الدمار الشامل، فحتى القنبلة الهيدروجينية امتلكتها كوريا الشمالية، وعلى رأس النظام رجل يصفه الكثيرون بالمجنون، وهو لن يتوانى عن تقديم الدعم لحليفته موسكو إن أرادت ذلك، خاصة أن الكوريين الشماليين يقولون باستمرار إنهم يمتلكون أسلحة قادرة على ضرب قلب الولايات المتحدة نفسها، وفي هذا ضمان لموسكو من أن واشنطن لن تبحر بعيدًا في استفزازها.

إيران هي الأخرى في طريق امتلاك أسلحة نووية، كما تمتلك أوراق قوة لن تبخل بها عن موسكو إذا ما طلبت منها ذلك، مثال المليشيات الطائفية التي تعج بها المنطقة في العراق وسوريا ولبنان وصولًا إلى اليمن.

كوبا وفنزويلا، دولتان لاتينيتان ترعاهما موسكو منذ القدم، وعلى رأس كل بلد منهما نظام اشتراكي يدين بالولاء للروس، وحتى إن كانتا غير قادرتين على ضرب أمريكا أو الدخول في حرب معها إلا أنهما قد تكونان قواعد عسكرية متقدمة للروس، كما حصل سابقًا فيما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية.

صربيا، البلد الأوربي الوحيد الذي خرجت فيه مظاهرات تؤيد حرب الروس على الأوكران، والنظام فيها لن ينسى وقفة موسكو معهم عقب حروب البلقان في التسعينيات، وهم جاهزون دائمًا لرد الجميل.

بيلاروسيا، وهي الحليف الأقوى لموسكو والتي فتحت أرضها ومجالها الجوي لضرب جيرانهم الأوكران، هؤلاء أيضًا لن يتخاذلوا عن تلبية طلبات بوتين في حال أراد.

قارة آسيا (كازاخستان- أرمينيا- سوريا) للروس فيها حلفاء حتى الموت كما يقال، هم في جوارها الجنوبي ومن تركة الاتحاد السوفييتي على رأسهم كازاخستان التي أنقذها بوتين مؤخرًا من ثورة ضد نظامها الحليف للروس، وكذلك أرمينيا التي يساندها بوتين ويدعمها ويحميها من هجمات الأذريين، وإلى الجنوب من أرمينيا سوريا هي الأخرى نظامها “عميل” تحت إمرة بوتين والكريملن، ولن يتوانى عن تنفيذ أي أوامر قادمة من موسكو مهما كانت.

مجموعة فاغنر العسكرية، التي رسَّخت علاقات قوية مع أنظمة أفريقية، قد تكون ورقة قوة بيد الروس كما في سوريا وليبيا والسودان، وكذلك في أفريقيا الوسطى ومالي البلدين اللذين قدمت لهما الشركة خدمات كبيرة، وقد يكونان جاهزين في أي لحظة لرد الدَّيْن.

ومن هنا تكون تحالفات روسيا الموزعة حول العالم هي من أقوى أسلحة الروس لمواجهة أعدائهم، أو في حال اندلعت حرب شاملة ضدهم.

ثانيًا: المُقَوِّم الجيواستراتيجي (العامل الجغرافي والطبيعي والموقع)، تُعد روسيا دولة شاسعة المساحة، فهي أكبر دولة في العالم، ويحيط بها العديد من البحار كالبحر المتجمد الشمالي وبحر قزوين والبحر الأسود، وجميعها مساحات مائية قادرة على سدها وإغلاقها متى أرادت، كما تعد تضاريسها ومناخها أحد أبرز حراسها، وبالتالي تكون مهمة غزوها أو احتلالها مهمة أكثر صعوبة من غزو أو احتلال أي بلد آخر في العالم.

ثالثًا: الاقتصاد وما تملكه من ثروات، فروسيا كما وصفها السيناتور الأمريكي “جون ماكين” بالقول “هي ليست بلدًا فقط، بل هي محطة وقود”، من أكبر المصدرين للنفط والغاز في العالم، ومنها تخرج شرايين الحياة لأكثر من بلد على رأسها بلدان أوربية، وقد شاهدنا ماذا فعل بهم الروس في الأزمة الأوكرانية الحالية؟ وكيف وظّفوا هذه الورقة لخدمة مصالحهم والتخفيف من حدة العقوبات عليهم؟ كما تمكنت روسيا من خلال علاقاتها الاقتصادية من كسب حلفاء جدد على رأسهم دول في الخليج العربي والهند ودول في القارة الأمريكية الجنوبية هؤلاء جميعًا التزموا الحياد في أزمة أوكرانيا الأخيرة.

رابعًا: الدعم الصيني لروسيا، حيث شكلوا بديلًا للأسواق الأوربية بعد حزمة العقوبات الغربية على موسكو، والصين داعم سياسي لروسيا في المحافل الدولية، فكلاهما يمتلكان مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي، وهذا وحده قادر على إعطاء الروس دفعة معنوية وترهيب أعدائهم.

خامسًا: الترسانة العسكرية والنووية، ثاني أقوى جيش على الأرض، وأكبر ترسانة نووية عرفتها البشرية، بالإضافة إلى ما تمتلكه من تكنولوجيا عسكرية وصلت حتى الفضاء، أي أن روسيا أصلًا قادرة على صد أي هجوم من دون تفعيل قوتها الأخرى، فما بالك لو فعَّلت كل ما تملك من أوراق.

“الخلاصة”

هذا ليس مديحًا للقوة الروسية، ولكن من باب توضيح كيف تبنى الدول أسباب قوتها؟ فتنويع مصادر القوة هو أمر أساس ومطلوب، وهو يوفر سياجًا لأي بلد لحمايته وردع أعدائه، وهذا ما تنبهت له روسيا وغيرها وعملت على بنائه منذ سنوات.

المصدر : الجزيرة مباشر