ملامح العالم الفوضوي

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

أصبح العالم فوضويا يشبه الغابة، لأنه ببساطة لا توجد فيه سلطة مركزية تنظم سلوك الدول فيما بينها، فإذا أرادت دولة أن تعتدي على أخرى فليس ثمة سلطة يمكن أن تمنعها من ذلك، ولهذا فإن الدول تعيش في حالة خوف دائم بعضها من بعض، ولا يثق بعضها في بعض، والمعيار الأساسي الذي يتحكم في سلوك الدول هو منطق “توازن القوى”، بمعنى أنك آمن على نفسك بقدر ما تمتلك من وسائل القوة، وكذلك فأنت معرض للخطر بقدر ما أنت ضعيف، وطبيعة النظام السياسي في دولة ما لا تؤثر كثيرا في سلوك الدولة، فسواء كان النظام ديمقراطيا أو دكتاتوريا فلن يحدث ذلك فرقا كبيرا، لأن الجميع محكوم بتوازن القوى. فالقوة هي قانون البقاء، والهدف الأسمى لأي دولة في هذا العالم أن تكون هي القوة المهيمنة والمسيطرة على الدول الأخرى، فلكي تأمن على نفسك يجب أن تكون أقوى من الآخرين، والقوة الفائقة الواضحة هي أعظم أمان وهي التي تضمن السلامة، ومن أنماط السلوك الدائم للدول في هذا العالم الفوضوي رغبتها الدائمة في إضعاف الدول الأخرى، لأنها ببساطة لا تشعر بالأمان، ولكي تشعر بالأمان فلا بد من أن تقوي نفسها بطريقتين، أن تقوي نفسها ذاتيا وتسعى لإضعاف الدول الأخرى حتى لا تصل إلى مرحلة تصبح فيها مكافئة، أو أقوى منها فتعتدي عليها لاحقا.

“الشعور بفائض القوة”

أصبح من النادر أن تقتنع دولة ما بأوضاعها الحالية، فكل دولة تسعى لتغيير أوضاعها كلما أتيحت لها الفرصة، خاصة إذا شعرت بأن لديها فائضا من القوة يمكنها من ذلك، كإعادة النظر في توسيع حدودها، أو السعي لامتلاك نفوذ في الدول المجاورة، أو إعادة النظر في المعاهدات التي تقيد حركتها في محيطها، ومثال ذلك روسيا، فروسيا في 2004 لم تعترض على انضمام دول البلطيق الثلاث إلى حلف الناتو، رغم أن هذه الدول كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي ومن نفوذها التقليدي، لأنها كانت ضعيفة وخارجة لتوها من تجربة انهيار الاتحاد، لكنها بدأت تتحرك منذ 2008 ضد خطط الناتو لضم جورجيا، ثم تحركت أكثر فأكثر في 2014، ثم في 2022 ضد أوكرانيا، والسبب أنها أصبحت في وضع أقوى يمكنها من إعادة النظر في أوضاعها السابقة، والأمثلة كثيرة على فكرة الشعور بفائض القوة والرغبة في تصحيح الأوضاع، تركيا مثال آخر، إذ صارت تصحح أوضاعها في البحر المتوسط واتجاه اليونان ودول الشرق الأوسط، وكذلك رغبتها في إعادة النظر في الاتفاقات والمعاهدات التي تلت الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى انهيار وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، فتحركات تركيا لتحسين أوضاعها سلوك يعكس فائض قوة لديها الآن.

 

“الدفاع عن مناطق النفوذ”

الدول الكبرى سواء العالمية أو الإقليمية تدافع دائما عن مصالحها من خلال مناطق نفوذ خارج حدودها، وبالتالي فإن هذه الدول لا تدافع عن نفسها من داخل حدودها فقط ولكن من خارجها كذلك، فكل دولة لها مناطق نفوذ وتعلن على الملأ أن هذه منطقتي لا تقتربوا منها، وترى أن أي اعتداء على مناطق نفوذها سبب كاف للحرب مع دول أخرى تسعى للاعتداء على هذه المناطق الحيوية بالنسبة لها، والأمثلة كثيرة وأشهرها عقيدة مينترو عام 1823 التي تحدثت عن اعتبار الدول الواقعة في الأمريكتين مناطق نفوذ حيوية للولايات المتحدة الأمريكية ولا يمكن السماح للقوى الأوربية الاستعمارية في ذلك الوقت بأن تحتل ما تشاء من هذه الدول أو أن تغير الأنظمة السياسية فيها بحيث تأتي بأنظمة موالية للدول الأوربية، وكذلك عقيدة كارتر في أوائل السبعينيات وأواخر الثمانينيات فهي مشابهة جدا لعقيدة مينترو خلاصتها أن منطقة الخليج العربي كاملة هي منطقة نفوذ حيوية للولايات المتحدة وأي تدخل من أي قوى أجنبية فيها يستوجب أن تتدخل الولايات المتحدة ولو بالقوة العسكرية للدفاع عن هذه المنطقة الحيوية من العالم. وما كان يقلق الولايات المتحدة وقتها هو التخوف من أن يفكر الاتحاد السوفيتي في دخول المنطقة واحتلال أجزاء منها، والاستيلاء على منابع النفط التي كانت تعني الكثير للولايات المتحدة وحلفائها في هذه الفترة من التاريخ.

مثال آخر، أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر عام 1962، تخضع لمبدأ حماية مناطق النفوذ لكل دولة كبرى، فما حدث أن كوبا التي تبعد 150 كيلومترا من الشواطئ الأمريكية، وكانت حليفة للاتحاد السوفيتي استطاعت أن تعقد اتفاقا سريًّا مع الاتحاد السوفيتي، بموجبه وضع السوفيت صواريخ نووية في الجزيرة الكوبية، فأصبحت الصواريخ السوفيتية على بعد حوالي 150كلم فقط من الشواطئ الأمريكية، هذه الخطوة كانت ردًّا على أمريكا لأن الأمريكان اخترقوا منطقة نفوذ سوفيتية ووضعوا صواريخ نووية على الأراضي التركية التي كانت قريبة جدا من حدود الاتحاد السوفيتي في الستينيات، فتنبهت الولايات المتحدة إلى ما حدث بعد عدة أشهر وحاصرت الجزيرة وكادت أن تندلع حرب نووية بين الجانبين، وانتهت هذه الأزمة بأن تلتزم كل دولة باحترام منطقة نفوذ الدولة الأخرى، وبالفعل سحب الاتحاد السوفيتي صواريخه من الجزيرة الكوبية، وسحبت الولايات المتحدة سرا صواريخها النووية من الأراضي التركية، ثم أعادتها بعد ذلك بسنوات.

وبعيدا عن الدول الكبرى والإمبراطوريات، نجد الدول الإقليمية تفكر بنفس المنطق، فمسألة حماية مناطق النفوذ حساسة للغاية وبسببها تندلع الحروب، كالحرب الروسية الأوكرانية الآن، حيث كانت مقدمات هذه الحرب قد بدأت بالفعل في 2008 وفي قمة بوخارست لحلف الناتو، حينما دعت الولايات المتحدة كلا من جورجيا وأوكرانيا إلى الانضمام لحلف الناتو؛ الأمر الذي أصاب الروس بصدمة وغضب كبير، وهدد بوتين وقتها باحتلال شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وتحطيم ما تبقى من الدولة الأوكرانية، وهو ما يحدث الآن، ومع ذلك استمرت الولايات المتحدة في سياسة تمهيد الأرض لانضمام أوكرانيا لحلف الناتو.

وبالتالي ففي ظل عدم احترام القواعد التي تحكم العلاقات الدولية والاعتداء على مناطق النفوذ الخاصة بكل دولة مع هذا النمط من السلوك تكثر الاستفزازات ويزداد القلق والتوتر جراء الشعور بالعدوان، ومعه تتحرك الآلة العسكرية لصد العدوان عليها، كما فعلت روسيا بغزو أوكرانيا.

المصدر : الجزيرة مباشر