توفير البديل لا العويل

وعد ابنته بأنها إذا نجحت في امتحان مرحلة الأساس سيشتري لها جوالا حديثا، وسيشركها في أقوى باقات الإنترنت لتتابع مسيرتها التعليمية وتقضي به وقت فراغها في مسلسلات الكرتون والألعاب، ولم تخيّب البنت ظن والدها فقد أحرزت مجموعا كبيرا وكانت الأولى على مستوى رفيقاتها، بقي على الوالد أن يفي بوعده، لكنه وجد اعتراضا شديدا من أهله وأسرته متعللين بأن الجوال الحديث سيُفسد أخلاقها ويذهب بدينها.

هذه النظرة عند الكثيرين لما يرونه من تأثير الجوال المرتبط بالإنترنت في تغيير سلوك أبنائهم ووسموه بالغزو الفكري والثقافي، ومِن تتبُّع الجانب المظلم أو النواحي السلبية للإنترنت فإننا نجده قد حل مكان الأم والأب وأصبح يقوم بعملية التربية، وذلك من خلال الدراسات التي أظهرت التأثير الواضح في تغيير سلوك متابعي المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب وغيرها من الأطفال، نظرا لما يشاهدونه من محتوى ينشر العنف والإباحية من خلال البرامج التي أثبتت التغيير الواضح في سلوك هؤلاء الأبناء إلى الأسوأ.

فما يُقدَّم للأطفال هو عبارة عن إغراق شامل للثقافة الغربية التي تشكل الحضور الأكبر على شبكة الإنترنت الذي أوجد طفلا هشا في بنيته الفكرية، ضعيفا في تفاعله مع المجتمع، بعيدا عن ساحة التنافس المدرسي، وما تقدّمه المواقع العربية والإسلامية للأطفال يمثل حالة من البؤس الشديد في عرض المادة ومحتواها.

الصوت والصورة

والشاهد على ذلك أني أشرفت على دراسة لإحدى الباحثات عنوانها “دور مجلات الأطفال الإلكترونية في التنشئة الاجتماعية”، وحقيقة لم تجد الباحثة أي مجلة إلكترونية متخصصة للأطفال في السودان، بل هي إسهامات فردية من صانعي محتوى يخاطبون الأطفال دون الالتزام بشروط ما يُقدَّم إليهم أو مراعاة طبيعة النشر الإلكتروني.

وازداد الأمر سوءا عندما وسّعنا دائرة البحث فوجدنا أن المواد المقدمة على شبكة الإنترنت للأطفال على نطاق الوطن العربي يمكن أن تصفها بالندرة، أضف إلى ذلك أن المحتوى الذي تقدمه بعض الجهات الإعلامية أشبه بأن يكون مسخا وخادما للثقافة الغربية وغير مفيد للطلاب أو حتى الأطفال، وهذا ما جعل كثيرا من المؤسسات التربوية والتعليمية تقف عاجزة عن أداء دورها وتصدر شكوى أشبه بالعويل.

لكن الناظر بعين التفاؤل يجد أن المحتوى الرقمي الموجه إلى الأطفال الذي تبثه المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي -إضافة إلى الألعاب الإلكترونية خاصة في التعليم- يحمل الكثير من الخير إذا أُحسِن استخدامه، فالتطور التقني أوجد نوعا من القرب بين مقدم المادة والأطفال بما يُعرف (بالتفاعلية) وخاصة إذا تم توظيفها في المادة التعليمية، معنى ذلك أن التعليق و”الدردشة” والحوار يكون في الحال، ويستطيع المدرس أن يتابع ما يريد توصيله إليهم، وأصبح بالإمكان معرفة ردود الفعل للمادة المقدمة.

كذلك يمكن تقديم المادة بطرق عدة، منها إضافة الصوت والصورة والفيديو (مشروع الوسائط المتعددة)، فنجد أنه بالإمكان الاستحواذ على جميع حواس الطفل وزيادة إقناعه بالمحتوى المراد إيصاله.. زيادة على ذلك أن تأثير المادة القصصية يكون قويا عند ترجمة القصة الجامدة عن طريق تحريك النص بالوسائط المتعددة (إضافة الصوت والصورة والحركة) يزيد من الفهم والإقناع وسرعة التأثير. والمؤكد أن المواد الدراسية إذا تم تشكيلها عن طريق الوسائط المتعددة فيمكن أن نسلك بها طريقا جديدا في توصيل المادة التعليمية، وإضافة بُعد جديد، وهو مسايرتها لما كان يراه في المواقع الإلكترونية، وهو ما اعتادت عليه عيناه. ومن السهولة بمكان أن نضيف إلى المادة عنصر التخيل، فتتغير بذلك نظرته إلى المواد الدراسية، فيعيش في الماضي مع مادة التاريخ، ويرى جمال الكون مع مادة الجغرافيا، ويُجري التجارب ويدخل المختبر وهو جالس في بيته مع  مادة العلوم، بل ما أجمل أن يشاهد حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وكأنه معهم، هذه المشاهد يمكن عرضها عن طريق أفلام الكرتون، فتدعم خيال الطفل وتجذبه، ثم ينتقل الأمر إلى تهذيب السلوك وتعليم الأخلاق والقيم الفاضلة بواسطة برامج الجرافيك أو الأبعاد الثلاثية على سبيل المثال.

لكن قبل تصميم المادة التعليمية المقدَّمة إلى الأطفال، يجب أن تكون هذه المواد مرتبطة ببيئتهم، ملبّية لاحتياجاتهم وقدراتهم وكذلك مواهبهم وإبداعاتهم، وأن تراعي كذلك مراحلهم العمرية.

العويل للنساء

تبقى مسؤولية الأسرة أن تغيّر من النظرة السالبة لاستخدام هذه الجوالات حتى وإن كانت مرتبطة بالإنترنت، متى ما وفرنا البديل وأحسنّا في تجويده، فلا داعي للخوف ما دام الطفل مستفيدا من وقته مع هذا الجهاز، بل يمكن أن يكون سندا لأولياء الأمور في تربية أبنائهم، ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات التربوية التي يجب أن تتحرك بسرعة وتعي دورها وتسخّر كل إمكاناتها في توفير البدائل للأطفال، فتعدّ برنامجا واضحا في تحديد ماذا تريد إيصاله من مادة تربوية، وتدرب فنيين للتعامل مع المحتوى التربوي الذي يُعرض في المواقع الإلكترونية أو شبكات التواصل الاجتماعي، بل حتى يمكن تصميم ألعاب إلكترونية تخدم أهداف التربية.

القضية الأساسية لتوظيف مواد التنشئة الاجتماعية أن تكون في شكل مقبول وجاذب، ثم يأتي دور المؤسسات التعليمية في تحويل المادة الدراسية إلى أشكال تحريرية مختلفة مع التركيز على أسلوب القصة والمسابقات وإدخال الترفيه في المقررات حتى نساير شكل المادة التي اعتاد أطفالنا على مشاهدتها. كما يجب على صانعي المحتوى الإعلامي الذي يوجه للأطفال أن يعرفوا أن نظرة التلقي والتأثير لدى الأطفال قد تغيرت، وأن المفقود الآن هو المحتوى الهادف المرتبط بالأهداف السامية، وأن يكون واضحا في معناه، ويُقدَّم بطريقة جاذبة يحاول فيها صانع المحتوى الاستفادة من كل إمكانات النشر الإلكتروني، وأن يقدّم المحتوى بلغة الأطفال التي يفهمونها.

متى ما فهمنا طبيعة عصرنا وكنا فاعلين في تقديم البدائل، سنترك العويل للنائحات. فالثورة التقنية والمعلوماتية جعلت من السهل أن يكون الجميع قادرين على صناعة المحتوى بواسطة هذا الجوال المرتبط بالإنترنت.

المصدر : الجزيرة مباشر