الجماعة الإسلامية ولائحة الإرهاب الأمريكية

الشيخ عمر عبد الرحمن

مرة أخرى عادت الجماعة الإسلامية المصرية إلى واجهة الأحداث بعد رفع الإدارة الأمريكية اسمها من لوائح الإرهاب مع أربع جماعات وتنظيمات أخرى.

القرار الأمريكي لم يكن مفاجئا، بل جاء متأخرا سنوات طويلة كان يجب أن يخرج فيها القرار، إذ بحسب تسريبات ويكيليكس فإن القرار كان من المفترض صدوره عام ٢٠٠٨ في إطار المراجعات الدورية لكن نظام مبارك عطل القرار وضغط لعدم خروجه إلى النور، فقد كان يهدف إلى إبقاء الجماعة رهن الحصار الأمني وعدم السماح لها بممارسة أي نشاط.

مبادرة وقف العنف التي أطلقها قادة الجماعة من محبسهم في سجن ليمان بالقاهرة في يوليو ١٩٩٧ وما تلاها من مراجعات فكرية وفقهية، كانت الحدث الأبرز في محيط الحالة الإسلامية مطلع هذه الألفية خاصة أن تفعيلها تأخر أكثر من أربع سنوات لأسباب مختلفة، كما أتى عقب تفجيرات ١١ سبتمبر التي حُمّل تنظيم القاعدة مسؤولية تنفيذها.

فبينما كان العالم يقف على أطراف أصابعه خلف الولايات المتحدة في حربها ضد “الإرهاب” تلك الحرب العشوائية التي أثارت جدلا كبيرا حتى الآن في مدى إسهامها في تجفيف منابع الإرهاب أو تأجيجه كما حدث لاحقا عبر محطات متتابعة وصولا إلى النسخة الأشد رداءة وقسوة وأعني تنظيم داعش. خرجت مراجعات الجماعة الإسلامية إلى النور من خلال إصدارات متتابعة نبهت إلى أنه بالفعل هناك حجر ألقي في الماء الراكد.

القرار الأمريكي المتأخر جاء ليذكر الأوساط البحثية والمهتمة بالمنتج الفكري الهام الذي أفرزته مراجعات الجماعة الإسلامية والذي تسبب تعامل نظام مبارك السلبي معه في تقليل الاستفادة منه، إذ لجأ النظام حينها إلى إستراتيجية غريبة تعتمد على تسويق الكتب وما تم إنتاجه دون السماح لمن أخرجوها بالحديث أو الظهور الإعلامي أو شرح تجربتهم إلا من خلال لقاءات صحفية محدودة عبر صحفيين محسوبين على النظام آنذاك أمثال مكرم محمد أحمد الذي حضر بنفسه لقاء قادة الجماعة مع أفرادها في سجن وادي النطرون في إطار زيارتهم للسجون، ودون مكرم ملاحظاته ومشاهداته كاملة في مجلة المصور وجاءت في مجملها إيجابية ومتحمسة للتجربة.

كما ساهم أحمد موسى أثناء عمله بجريدة الأهرام في الترويج للمراجعات بقوة، وكان أول صحفي يتطرق معه وزير الداخلية السابق حبيب العادلي إلى المبادرة في حوار بجريدة الأهرام على صفحة كاملة. والمفارقة أن موسى الآن يهاجم القرار الأمريكي بعصبية مصطنعة متهما الجماعة بالإرهاب، ونسي دعمه لها في الماضي حتى ولو كان آنذاك يتحرك بأوامر فوقية.

التأثير الداخلي والخارجي لمراجعات الجماعة

تعد مراجعات الجماعة الإسلامية الأولى من نوعها داخل الحركة الإسلامية شكلا وموضوعا، فالجماعة التي خاضت صراعا مريرا مع الدولة على مدار قرابة ثلاثة عقود قررت في لحظة معينة التوقف ومراجعة الذات بعد أن أيقن قادتها أن الأزمة تحولت إلى صراع من أجل الصراع، وأن الأمر يستلزم وقفة جادة مع الذات لبيان الأسباب التي أدت إلى تعقد الأزمة بهذه الصورة، خاصة أن من يتابع مسيرة الجماعة في الثمانينيات يعلم أنها كانت تحقق مساحات كبيرة يوما بعد آخر بسبب معارضتها القوية والصريحة لنظام مبارك ودعوتها المصريين إلى الثورة على ذلك النظام، الأمر الذي تحقق بعد حوالي أربعة عقود.

كما أنها اصطفت مع قضايا الشعب الحياتية كالغلاء وارتفاع أسعار الخبز، إضافة إلى قضايا الأمة كدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني، وجهاد الشعب الأفغاني ضد المحتل السوفيتي.

كما كان زعيم الجماعة العالم الأزهري الدكتور عمر عبد الرحمن يمثل صداعا مزمنا للنظام آنذاك بسبب جرأته ورفضه التوقف عن مهاجمة سياسات مبارك حتى بعد فرض الإقامة الجبرية، في اتساق مع موقفه الذي لازمه في فترتي حكم عبد الناصر والسادات.

وبينما كانت جماعة الإخوان تقف على يمين نظام مبارك، جاءت الجماعة الإسلامية على يساره بمعارضة شرسة دفعت ثمنها من حرية أعضائها، وبدأ ذلك باعتقالات محدودة كما وكيفا ثم تحول إلى اعتقالات مفتوحة دون تهمة، وتوسعت دائرتها لمجرد الاشتباه.

ورغم ذلك كان يمكن الجماعة الإسلامية أن تمضي في معارضتها السلمية لنظام مبارك لو أنها لم تستجب لاستفزازاته التي بدأها باغتيال المتحدث باسمها الدكتور علاء محيي الدين في أحد شوارع الجيزة أواخر عام ١٩٩٠ وهي الحادثة التي فتحت باب الجحيم على البلاد وحدث ما حدث بعدها من حوادث الثأر المتبادل. وفي مثل هذه المعركة لا بد أن ينتصر النظام الحاكم خاصة إذا كان في دولة كبيرة وقوية مثل مصر.

هنا يجب التذكير بأن اشتعال الصدام بين الجماعة والدولة أراح حسني مبارك من عبء الإصلاح السياسي الذي كان قد بدأ يستجيب له تحت ضغوط أحزاب المعارضة وكلف نائب رئيس الحزب الوطني حينها الدكتور مصطفى خليل بإدارة الحوار، الأمر الذي لم يكتمل بسبب تأجج الصدام المسلح؛ إذ اعتبر مبارك أنه لا صوت يعلو فوق صوت مواجهة “الإرهاب”، الأمر الذي وافقه فيه كالعادة كثير من اليساريين والناصريين الذين وجدوها فرصة مواتية للانتقام من التيار الإسلامي والإجهاز عليه (كما يحدث الآن) وعاد أولئك “الثائرون” على نظام السادات وعلى كامب ديفيد إلى “الحظيرة” التي أنشأها لهم وزير الثقافة فاروق حسني، وللعلم فإنه هو الذي نحت مصطلح “الحظيرة” ولست أنا.

لذا فلا أبالغ إن قلت إن وقف العنف مع مطلع الألفية وضع مبارك ونظامه مرة أخرى في مواجهة مع الشعب، وعاد سؤال الإصلاح ليتصدر المشهد مرة أخرى، وصولا إلى استحقاق ثورة يناير ٢٠١١ الذي تأخر لعقود بزعم مواجهة “الإرهاب”.

تأثير مراجعات الجماعة الإسلامية امتد إلى كثير من الدول العربية التي أرادت تكرار التجربة، فرأينا مراجعات الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، وتأثر بها الإسلاميون في المغرب وفي الخليج العربي خاصة في السعودية.

كما امتد التأثير إلى ما بعد رحيل مبارك فحافظت الجماعة على ذات النهج، بل عمدت إلى تطويره بالتحول إلى العمل السياسي من خلال تأسيس حزب “البناء والتنمية” الذي نجح في توصيل مرشحين له إلى مجلسي الشعب والشورى، ولعب دورا مشهودا في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء المتشاكسين، لكن التجربة انتهت بالانقلاب على التجربة الديمقراطية برمتها.

وعقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي لعبت الجماعة دورا مهما في منع انجراف الأوضاع إلى صدامات مسلحة، فرغم رفضها للانقلاب على الرئيس مرسي، فقد أكدت مرارا وتكرارا أنها ستظل محافظة على النهج السلمي.

ورفضت الجماعة من خلال وجودها في تحالف دعم الشرعية أي خروج عن هذا النهج، وأتذكر أني في مطلع عام ٢٠١٦ حضرت جلسة في إسطنبول ضمت كبار مسؤولي الإخوان وقال أحدهم حينها: نحن استفدنا كثيرا من نصائح الجماعة الإسلامية لنا وخاصة ما كان يرسله لنا الدكتور عصام دربالة رحمه الله من ضرورة الالتزام بالسلمية ومضار الانجرار إلى العنف على مستقبل الإخوان وقضية الشرعية برمتها وأوضاع البلد الداخلية.

لماذا لا تزال مراجعات الجماعة الإسلامية هي الأهم؟

رغم مرور قرابة عقدين من الزمان على تدوين مراجعات الجماعة الإسلامية، فإن الفوضى “المتعمدة” التي ضربت أطناب العالم العربي تزامنا مع الثورات المضادة في ٢٠١٣ أعادت الاعتبار إلى الحمولة الفكرية لمراجعات الجماعة التي نبهت في وقت مبكر إلى ما حدث لاحقا.

ففي وقت مبكر وتحديدا عام ١٩٩٧ رفضت الجماعة الإسلامية نهج تنظيم القاعدة في قتال البشر على حسب ديانتهم عقب إصدار تأسيس القاعدة لما عرف بـ”الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين”، وأعلنت الجماعة حينها عدم وجودها في تلك الجبهة وشرحت أسباب قرارها.

وفي أعقاب موجة التفجيرات التي شهدها العالم مطلع القرن الحالي التي بدأت من تفجير برجي التجارة في نيويورك في سبتمبر ٢٠١١ ثم امتدت إلى لندن ومدريد والدار البيضاء وبالي الإندونيسية والرياض، أصدرت الجماعة نقدا لإستراتيجية تنظيم “القاعدة” بينت فيه الأخطاء الإستراتيجية التي يرتكبها التنظيم والتي تدفع العالم الإسلامي إلى أتون معركة غير متكافئة لن تتوقف عند الملاحقات الأمنية فقط بل ستمتد إلى الغزو العسكري والفكري والعقدي.

كما أعادت الجماعة قراءة بعض الاجتهادات القديمة التي لعبت دورا فكريا في التأسيس للصدام المسلح وفي مقدمتها فتوى ابن تيمية في قتال الطوائف الممتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام، حيث نبهت إلى خصوصية الفتوى بالفئة التي قصدها ابن تيمية وهم التتار الذين دخلوا الإسلام ولم يلتزموا شرائعه، وأضافت أن تنزيل الفتوى على الواقع المعاصر ليس بالأمر اليسير بل يحتاج إلى جهد علمي جماعي لتحقيق مناط الفتوى.

ومن المضامين المهمة التي ساهمت بها الجماعة الإسلامية منذ نشأتها الأولى في سبعينيات القرن الماضي ولم تتأثر سلبا بسنوات المواجهة مع الدولة المصرية، مواجهة فكر التكفير مواجهة شرسة، اعتمدت فيها على تفكيك الفكر التكفيري ونقده نقدا علميا فنجحت في مواجهة ذلك الفكر بكل تداعياته الكارثية على الإنسان والمجتمع، ولعل ظهور تنظيم داعش في العراق وسوريا وامتداداته في أنحاء شتى بممارساته الوحشية، أثبت أهمية مواجهة ذلك الفكر قبل استفحاله.

ثم أما بعد..

فالقرار الأمريكي الذي جاء متأخرا أعاد التذكير بأهمية “الفريضة الغائبة” لدى قطاعات واسعة داخل الحركة الإسلامية، وأعني المراجعة وتصحيح الأخطاء، فلو لم تراجع الجماعة الإسلامية نفسها في وقت مبكر بكل شجاعة وتجرد، فلربما كانت اندفعت لتكرار العنف والمواجهات المسلحة عقب الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي، لكنها كانت قد استوعبت التجربة جيدا فلم تكرر الخطأ، ولم تتسبب في ضياع جيل وراء جيل.

المصدر : الجزيرة مباشر