هذا ما جنته الأموال الساخنة على مصر وتركيا؟

البنك المركزي المصري

خلال الشهور القليلة وتحديدًا الربع الأول من هذا العام شهدت عدة دول انخفاضًا في قيمة عملتها المحلية مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى بعد قرار البنك الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة، تلك الدول من بينها على سبيل المثال مصر وتركيا والأرجنتين، ووفق المؤشرات الاقتصادية الرسمية لتلك الدول ورغم تباين حجم الأزمة فإن السبب الرئيس بعد القرار الأمريكي كان هو هروب ما يسمى الأموال الساخنة أو التدفقات النقدية للاستثمار ورأس المال السريع الذي جنت منه الدول الثلاث خاصة مئات المليارات السريعة اجتذابًا إليها عندما نحت هذه الدول رفع أسعار الفائدة وطرحت مليارات في سندات وأذون خزانة قصيرة الأمد، ومع هجرت هذه الأموال إلى الولايات المتحدة، وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية أدى ذلك إلى أزمة في تلك الدول ولدت إجراءات اقتصادية اختلفت تأثيراتها إيجابًا وسلبًا في الاقتصاد المحلي، ومن بينها خفض سعر العملة المحلية تلقائيًّا مع تحرير سعر الصرف كما وقع في تركيا أو ما يسمى بـ”التعويم” كما وقع في مصر.

وللعلم فإن تحرير سعر الصرف في العالم مدار وليس محررًا، وإن كان يتفاوت من دولة لأخرى، ومن المؤكد أنه في مصر مدار بقدر كبير جدًّا ولا يعبر عن السعر الحقيقي في تضارب الجنيه مع باقي العملات وفق مراكز الأبحاث الاقتصادية الدولية ومن بينها وكالة فيتش.

وقد زاد الطين بلة قرار الفيدرالي الأمريكي هذا الأسبوع رفع سعر الفائدة مرة أخرى خلال ثلاثة أشهر.

ليكون الجميع أمام معضلة تعيشها دول جذب الاستثمار السريع والأموال الساخنة ومنها مصر وتركيا وأمامهم في ذلك عدة حقائق تتعلق بالأرقام الرسمية في الدولتين من حيث التعامل مع الدولار، وتحصيله باعتباره عملة صعبة تستخدم للاستيراد والتجارة الدولية لكلا الدولتين.

تصدر مصر ما يقارب 31 مليار دولار فقط بينما تحصل تركيا من التصدير على ما يتجاوز 225 مليار دولار، وقد استهدفت مصر وفق الإحصاءات الرسمية قرابة 13 مليار دولار من عائدات السياحة بعد وباء كورونا بينما تخطت تركيا 24 مليار دولار، وتشير الإحصاءات المستهدفة إلى تخطيها 30 مليار دولار الأشهر المقبلة.

الناتج الإجمالي المحلي للدولتين متباعد، فتركيا من ضمن دول مجموعة العشرين الأقوى اقتصادًا وتحتل مرتبة بين 17 و19 في تصنيف الاقتصاد العالمي خلال السنوات الثلاث الماضية بينما تتصدر مصر قائمة العالم النامي ودول العالم الثالث.

حاجة مصر للدولار ولا سيما لاستيراد المواد الرئيسية من غذاء ووقود فضلًا عن تصدرها قائمة الدول المستوردة للأسلحة في المنطقة، تجعل موقفها المالي صعبًا للغاية.

فقد اضطر البنك المركزي المصري إلى رفع سعر الفائدة بعد القرار الصادر من البنك الفيدرالي الأمريكي في المرة الأولى وهو يتجه تقريبًا إلى نفس الخطوة مع الزيادة الثانية مما يشعل التضخم ويضاعفه في البلاد، وعلى العكس وكما يبدو فإن الإدارة التركية غير عابئة بتحصيل الأموال الساخنة وفق قراراتها الأخيرة على لسان الرئيس التركي رجب أردوغان فقد خفضت تركيا سعر الفائدة في قرار اعتبر صادمًا ومخالف للتوقعات وهو سباحة عكس التيار العالمي.

وهنا نجد الفارق بين الحلول المصرية والتركية للتغلب على أزمة الأموال الساخنة لدولتين يصنفهما الاقتصاديون ضمن دول تعد على أصابع اليد الواحدة من مدمني الاقتراض الساخن.

تركيا ليست أحسن حالًا

اجتذبت مصر قرابة 450 مليار دولار أمريكي منذ أحداث يوليو 2013م وفق تصريحات رسمية لمحافظ البنك المركزي المصري طارق عامر، وهذه الأموال الساخنة التي اجتذبتها مصر كانت عن طريق رفع سعر الفائدة على السندات بالجنيه المصري وليس الدولار، مع ضمان تحويل أرباح المستثمر الأجنبي بنفس سعر الصرف الذي دخل به مصر.

وهو ما يعد ضمانًا للمستثمر بعدم خسارة فارق السعر إذا ما تهاوت العملة المصرية مقابل الدولار، فالغرض لم يكن الاستثمار كما يبدو ولكن كان اقتراض الدولة للدولار بسعر فائدة يقترب من الصفر، ثم يطرح سندات بالجنيه بفائدة أعلى بكثير، مما يوفر للدولة الدولار ويعطي المضارب بأمواله الأجنبية فائدة مضاعفة بنسبة أعلى من الاستثمار العادي.

ولكن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عندما أصدر قراره بدأ بسعر الفائدة على الدولار، مما وجه صفعة للدول التي تلعب هذه اللعبة مع الأموال الساخنة، فتحولت الأموال الساخنة بعيدًا عن الدول المقترضة السالفة الذكر وكان ذلك كارثيًّا على التضخم بعيدًا عن الأزمة العالمية وتبعات الحرب الروسية في أوكرانيا.

أما تركيا فليست أسعد حالًا من مصر وإن كان اقتصادها المتنوع مع قدرتها على الإنتاج يجعل الحلول أفضل وأسهل، ويعتبر الاقتصاديون قرار الرئيس التركي بخفض سعر الفائدة خطأً اقتصاديًّا، فهو يصرف عشرات المليارات عن البلاد كانت تتدفق في صورة أموال ساخنة، لكن فلسفة القرار كما وصفها تقوم على التخلص من الاستثمارات غير الحقيقية ويقصد بذلك الأموال الساخنة والاعتماد على الاستثمارات الحقيقية التي تعود بالفائدة على الاقتصاد.

وهو قرار من شأنه إحداث تنمية لكن على الأمد البعيد وليس الحالي، وهو بالطبع لا يساعد على حل الأزمة الحالية، فالسندات وأذون الخزانة التي تطرحها الدولة للاستثمار في الأموال الساخنة هي عبء مضاف وسلبي على الاقتصاد ولا تعود باستثمار حقيقي، لكنها تساعد الحكومة على الحلول القصيرة الأجل.

ومن هنا فإن كارثة استنزاف الرصيد الدولاري لأي دولة دون وجود مصدر للإنتاج يعزز تعويض المفقود في ظل تلك الأزمات الاقتصادية العالمية، ودون وجود نمو حقيقي وليس رقميا ينعكس على الاقتصاد بوجود بدائل ترفع القدرة على الإنتاج مع هجرة الأموال الساخنة التي تعرضت لها بعض الدول، تهدد هذه الدول ومن بينها مصر التي تخطى دينها العام حاجز 91% من الناتج المحلي وفق تقديرات العام الماضي، ويمثل دين الحكومة من الدين العام الخارجي 85% على العكس من تركيا التي يمثل دينها العام الخارجي أقل من نصف ناتجها المحلي ويمثل دين الحكومة قرابة 33% من الدين العام الخارجي، ولديها احتياطي من العملة الأجنبية يتنامى. ومع ذلك فإن تركيا تشهد أزمة اقتصادية صعبة لا تقل ضراوة عن الأزمة المصرية وإن كان كما أسلفنا لدى تركيا مقومات مختلفة ستساعدها على استعادة اقتصادها مع تلك الأزمات.

الخلاصة:

مما لاشك فيه أن الأزمة الاقتصادية الحالية التي تتعرض لها دول عديدة في المنطقة تحتاج إلى خطط وحلول سريعة لتدارك الأزمة الطاحنة من بينها زيادة الإنتاج لتعويض الاحتياجات الأساسية، وعليه فإن أي إنفاق في غير محله يعتبر كارثة اقتصادية، والحديث عن مشروعات كبرى سيكون من ضمن استنزاف الموازنة العامة، كما أن أي دولة لا تستطيع توفير العملة الأجنبية التي تحتاج إليها لاستيراد احتياجاتها الأساسية ولا تطبق سياسة التقشف في اقتصادها، هي مقبلة بلا شك على أزمة أكبر تفجر في النهاية دمارا اقتصاديا لا تؤمن عقباه وهذا ما لا نتمناه.

المصدر : الجزيرة مباشر