مخاطر الحرب الأوكرانية على رغيف الخبز العربي

ما يقلق العالم، أن روسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم، وأوكرانيا خامس أكبر مصدر

بعد ساعات من بداية اجتياح روسيا الحدود الأوكرانية، يوم الخميس 24 فبراير/شباط الماضي، ارتفعت أسعار القمح بنسبة 7% في بورصة شيكاغو التجارية. وفي بداية الأسبوع الثاني منها، زادت أسعار القمح مرة أخرى بنسبة 50% لتصل إلى 490 دولارًا للطن دون تكاليف الشحن. وفي أوربا ارتفعت العقود الآجلة للقمح بنسبة 10%، ثم زادت مرة أخرى بنسبة 30% لتصل إلى 410 يوروهات للقمح الفرنسي دون احتساب تكاليف الشحن البحري.

ما يقلق العالم أن روسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم، وأوكرانيا خامس أكبر مصدر. في العام الماضي، صدّرت روسيا 39 مليون طن من القمح، وصدّرت أوكرانيا ما يقرب من 18 مليون طن، وفقًا لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية. ولكن الحكومات العربية تعيش همًّا أكبر، لأنها تستورد نحو 60% من احتياجاتها من القمح من أوكرانيا وروسيا.

بمعنى أن كل ثلاثة أرغفة خبز يتناولها المواطن العربي، يأتي اثنان منها من روسيا وأوكرانيا. ورغم أن سكان الدول العربية يشكّلون 5% من سكان العالم، فإنهم يستوردون 20% من القمح المتداول في السوق الدولية، بما يصل إلى 38 مليون طن.

رغيف الخبز هو سلعة أساسية في معظم دول العالم، ولكنه أصبح سلعة سياسية في المنطقة العربية، وكان شرارة ثورات الربيع العربي. ومن ناحية المخاطر، فإن اعتماد الدول العربية على روسيا وأوكرانيا فقط لتأمين رغيف الخبز ينطوي على مخاطرة تجارية كبيرة، ويمكن أن يؤدي إلى احتجاجات شعبية كبيرة أيضًا.

في بداية الحرب أوقفت روسيا صادرات القمح الأوكراني تمامًا. وفرضت الولايات المتحدة وأوربا عقوبات اقتصادية على روسيا، وتوقفت عمليات شحن القمح تمامًا من موانئ روسيا وأوكرانيا الثمانية على البحر الأسود، وبذلك خسرت الدول العربية واردات القمح من الدولتين.

واقع عربي مرير

مصر أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، استوردت وحدها 13.1 مليون طن السنة الماضية، بما يمثل 6% من مجموع صادرات القمح العالمية بقيمة 4 مليارات و670 مليون دولار، 91% منها جاءت من روسيا وأوكرانيا، بواقع نحو 8.9 ملايين طن من روسيا بنسبة 68%، ومن أوكرانيا 3 ملايين طن بنسبة 23%.

قبل بداية الأزمة بأسابيع معدودة، قال وزير المالية المصري محمد معيط إن الخزانة العامة تكبدت نحو 12 مليار جنيه (762.3 مليون دولار) إضافية لشراء الحصة المقررة من القمح بسبب ارتفاع الأسعار العالمية. ولكن يبدو أن التكلفة ستتضاعف لأن السعر قفز بعد الحرب على أوكرانيا إلى الضعف تقريبًا.

وفي اليوم التالي لاندلاع الحرب، قال وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام لوكالة رويترز إن بلده يستورد 60% من احتياجاته من القمح من أوكرانيا، والاحتياطي يكفي شهرًا واحدًا على أقصى تقدير. أما اليمن -غير السعيد- فيشتري ربع وارداته من القمح من أوكرانيا، وتشتري ليبيا نصف احتياجاتها.

السودان، الذي أنفقت جامعة الدول العربية أموالًا ضحمة ليكون سلة غذاء العرب، فإذا هو يعجز عن إطعام نفسه، فيستورد نصف احتياجاته من القمح من روسيا. ومع بداية الحرب زار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان حميدتي روسيا المعزولة دوليًّا، وهو ما يفسر حجم القلق على واردات الخبز الذي أشعل الثورة السودانية.

المغرب أيضًا يستورد نحو 4.8 ملايين طن، جزء منها من فرنسا والباقي من روسيا وأوكرانيا. العراق يستورد 3.3 ملايين طن، معظمها من روسيا وأوكرانيا. والسعودية التي اكتفت ذاتيًّا لسنوات مضت، تستورد 3.2 مليون طن معظمها من أوكرانيا. والإمارات تستورد 1.8 مليون طن، وتونس الخضراء تستورد 1.6 مليون طن، 80% منها تأتي من أوكرانيا. وليبيا تستورد 43% من احتياجاتها من أوكرانيا، بما يقارب 650 ألف طن سنويًّا والمخزون لا يكفي سوى شهرين.

مستقبل الأزمة

قبل اجتياح روسيا أوكرانيا بأسبوع واحد فقط، وضع خبراء تجارة السلع الأساسية في رابوبنك ثلاثة سيناريوهات لتداعيات الأزمة. الأول: حرب مدمرة قصيرة. الثاني: حرب وعقوبات ضد موسكو. الثالث: حرب وعقوبات ضد روسيا وإجراءات ضد الدول التي تشتري السلع منها. وتوقع الخبراء ارتفاع أسعار القمح بنسبة 30%. ولكن بعد أقل من أسبوعين من الحرب، زاد سعر القمح في الولايات المتحدة -ثاني أكبر مصدر للقمح- بنسبة 50%، وفي أوروبا -ثالث أكبر مصدر- بنسبة 30%.

وقال الخبراء إنه إذا استمرت العقوبات حتى شهر يوليو/تموز المقبل، حيث يبدأ موسم حصاد القمح، فسيؤدي ذلك إلى أزمة عالمية كبرى في سوق الحبوب والخبز، وسيتضاعف سعر القمح مرة أخرى. ولا يمكن للمزارعين في نصف الكرة الأرضية الشمالي توسيع المساحة المزروعة بالقمح إلا في نهاية سنة 2022، ولن يستعيد سوق القمح توازنه قبل حلول منتصف عام 2023 فقط، حيث يتم حصاد المحصول. وحذروا من أن سيناريو الحرب والعقوبات الدولية ضد روسيا “ستكون أسوأ” على الحبوب والزيوت النباتية والأسمدة.

لماذا من روسيا وأوكرانيا؟!

اعتماد الدول العربية على استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا دون غيرهما له أسباب عدة. السبب الأول لهذه السياسة الخاطئة، هو انخفاض أسعار القمح من الدولتين، بسبب انخفاض الجودة التي ترجع إلى زيادة المحتوى الرطوبي، ونسبة الإصابة بالحشرات والفطريات، وانخفاض نسبة البروتين. في العادة تقل جودة القمح الصادر من منطقة البحر الأسود عن القمح الصادر من الولايات المتحدة وكندا بما يتراوح من 50 إلى 100 دولار في الطن الواحد.

لهذا السبب غيرت الجزائر مواصفات القمح المستورد لتتمكن من شراء القمح الروسي مرة أخرى بعد انقطاع خمس سنوات، والاعتماد كليًّا على الفرنسي الأعلى في الجودة والسعر. الجزائر تنتج 3.2 مليون طن وتستورد 7 ملايين طن، تمثل 4.3% من واردات القمح العالمية. وكذلك خفضت مصر الاشتراطات قبل سنوات طمعًا في شراء القمح الروسي والأوكراني بسعر منخفض، رغم أنه يحتوي على فطر الإرجوت الذي يسبب الإجهاض للإنسان والحيوان. وكانت القوانين المصرية لا تسمح مطلقًا بدخول هذه النوعية من القمح أراضيها.

السبب الثاني، هو انخفاض تكاليف الشحن البحري للقمح من روسيا وأوكرانيا إلى النصف تقريبًا، بالمقارنة بتكاليف الشحن البحري من المناشئ البعيدة في كندا والولايات المتحدة. فبينما تصل تكلفة شحن طن القمح من الولايات المتحدة إلى 35 دولارًا، تقل تكلفة الشحن من روسا وأوكرانيا إلى نحو 20 دولارًا للطن. بعد الحرب زادت أسعار النفط إلى 110 دولارات للبرميل، مما أدى إلى زيادة تكلفة الشحن بمقدار 10 دولارات للطن تقريبًا.

بعد أربعة أيام من نشوب الحرب، طرحت الهيئة العامة للسلع التموينية في مصر مناقصة دولية لشراء القمح على أن يكون الشحن في منتصف شهر أبريل/نيسان المقبل. وتلقت الهيئة عرضًا للقمح الفرنسي بسعر 429 دولارًا للطن شاملًا تكلفة الشحن. وقالت الهيئة إنها ألغت المناقصة بسبب ارتفاع الأسعار.

العرض الفرنسي زاد بمقدار 27% عن آخر سعر اشترت به مصر القمح في 17 فبراير/شباط الماضي، وهو 338 دولارًا. وألغت الحكومة مناقصة للقمح في نفس يوم الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط بسبب ارتفاع السعر وامتناع المورّدين. وها هو السعر يقفز مرة أخرى بعد الحرب.

قبل الربيع العربي

في منتصف عام 2010، وقبل ثورات الربيع العربي بأشهر قليلة، دمر الجفاف الشديد والحرائق 20% من محاصيل الحبوب في روسيا. ونفى وزير الزراعة الروسي شائعات تقول إن روسيا ستحظر صادرات القمح التي وصلت إلى 21 مليون طن. وبعد يومين فقط، أعلن رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين -خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء- حظر روسيا تصدير القمح والدقيق والذرة والحبوب الأخرى.

وقال بوتين إنه اتخذ القرار لمنع الزيادات في الأسعار المحلية للغذاء، وتوفير احتياطيات للعام المقبل. بمعنى أن ما يحتاجه المواطن الروسي يحرم على المواطن العربي وعلى غيرهم من البشر. إنه التخطيط لاستباق الأزمة. وتوقعت صحيفة (آسيا نيوز) التي نقلت الخبر أن يؤدي الحظر إلى زيادة الأسعار العالمية للخبز، وقالت إنه يمكن أن يتسبب في تجويع مناطق بأكملها في الشرق الأوسط.

ولم تمر أشهر حتى وقعت أزمة الخبز في الدول العربية، ومات الناس في طوابير المخابز، ثم تفجرت ثورات الربيع العربي، وكان “رغيف العيش” أول مطالبها، ونجحت الجماهير في اقتلاع الأنظمة التي تعجز عن توفير رغيف الخبز فضلًا عن الإدام.

ثم نجحت الثورة المضادة بسرعة في إعادة الأنظمة القديمة بوجوه جديدة. ولم تتعلم الحكومات الجديدة من الدرس، وأهدرت فرص توفير رغيف الخبز طوال عقد كامل. وفشلت أو فرّطت في تبنّي سياسات تؤدي إلى الاكتفاء الذاتي من القمح، بل وأجهضت بأيديها التجارب الجادة للاكتفاء الذاتي من الخبز والإدام!

وزاد اعتماد الحكومات العربية على استيراد القمح من الخارج، لشراء الشرعية الدولية ودعم الدول المصدرة للقمح الفاسد. وانتكست الحكومات عن الوفاء بمطالب جماهير الربيع العربي في الخبز والحرية والعدالة الإجتماعية، وفشلت بعد عقد كامل من الثورة في الاكتفاء الذاتي من الخبز الذي تسبب في احتجاجات شعبية متكررة.

يقول علماء الاجتماع السياسي إن الديكتاتورية والانسداد السياسي والبطالة والفقر هي وقود الثورات الشعبية، لكن هذه الأحوال يمكن أن تستمر لسنوات وعقود دون وصول السخط الاجتماعي إلى مستوى الثورة الشعبية. ولكنهم يقولون أيضًا إنه في لحظة فارقة، عندما ترتفع أسعار السلع الغذائية إلى حد يفوق الغلاء قدرة الطبقة الوسطى من المجتمع، عندها تنطلق الاحتجاجات الشعبية، وتندلع الثورة وربما يسقط النظام السياسي. فهل تستفيق الأنظمة العربية من سكرتها، وتتعلم من أخطائها، وتتيح لشعوبها فرصة إنتاج خبزها بأيديها؟!

المصدر : الجزيرة مباشر