من يضمن عدم انقلاب الجيش على الاتفاق الإطاري في السودان؟

القضية ليست خروج البرهان وحميدتي من القصر الجمهوري بموجب التزامات شخصية، إذ يمكنهما التحكم في الأمور من أي مكان، من بيت الضيافة أو من وزارة الدفاع

البرهان وحميدتي بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري مع قوى مدنية لبدء مرحلة انتقالية جديدة

 

الكاميرا التي وثّقت حفل توقيع الاتفاق الإطاري في القصر الرئاسي السوداني، لم تجد صورة تعبّر بها عن حفاوة بهذا الاتفاق المنقوص، وحتى التصفيق الذي حاول أن يضفي جوّا من الحماس كان باردا ومفتعلا، قبالة أقوال وتعهدات ترددت كثيرا في هذا المكان، من الأشخاص أنفسهم، ولم تتحول إلى برامج وخطوات جادة تُنهي حالة الفوضى والجمود السياسي، أو تقدّم للشارع السوداني وجوها غير تلك التي عرفها طوال سنوات الانتقال.

الطريق إلى السلطة المدنية

الاتفاق الإطاري الذي تم بين المكون العسكري ومكون مدني، تحدّث عن قيام سلطة مدنية بالكامل، وانسحاب الجيش من العملية السياسية، وتحديد أجل الفترة الانتقالية بـ(24) شهرا، إلى جانب حظر تشكيل ميليشيات عسكرية، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش وفق جدول زمني يُتفق عليه، وأن تقوم قوى الثورة بتكوين الحكومة، فضلا على تفكيك بنية نظام الإنقاذ.

جميع تلك القضايا ليس هنالك خلاف حولها، وهى لا تؤسس لانتقال ديمقراطي حقيقي، وتعزز الشقاق بين القوى السياسية، بينما أُرجئت قضايا مهمة -مثل العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية ومعاش الناس- إلى مرحلة لاحقة، وربما يتم تجاوزها في صفقة سرية، بين البرهان وقوى الحرية والتغيير، تقضي بتسليم السلطة مقابل السكوت عن العدالة والانتهاكات، فضلا عن أن الوثيقة الإطارية لم تحدد موعدا لاتفاق نهائي، وتركت شأن المستوى السيادي للعسكر، وهو مستوى فضفاض، سيحتكر السلطة الفعلية للبرهان ونائبه حميدتي، داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مما يعني أن هذا الاتفاق ينطوي على أسرار وتنازلات خطيرة يتكتمون عليها، هى التي جعلت البرهان يبلع حديثه السابق بعدم الجلوس إلى قوى الحرية والتغيير وتوقيع تسوية سياسية.

مناورة تكتيكية

البرهان رهن تسليم السلطة أيضا إلى توافق بين القوى المدنية، وهو المستحيل بعينه، في بلاد كما قال أحد الكتاب “إذا غضب أحدهم من أخيه، قال له يا ابن الكلب”، كما أن الفترة الانتقالية ستبدأ في اليوم الذي يؤدي فيه رئيس الوزراء المدني الجديد اليمين الدستورية، وهو شخص في رحم الغيب، آليات ترشيحه غير متفق عليها، وملامحه غامضة، وبذلك فإن ما حدث في القصر الرئاسي، ربما يكون مجرد مناورة تكتيكية لكسب المزيد من الوقت.

التسوية التي تجري بين العسكر والمدنيين في مطابخ أجنبية، وترعاها البعثة الأممية وبعض السفارات الغربية والخليجية، تكرس لإنتاج الازمة الوطنية باحتكار السلطة، ورهنها لمصالح الخارج، وتعارضها بعض القوى الثورية والشبابية مثل لجان المقاومة، وأحزاب ذات ثقل جماهيري مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل برئاسة مولانا محمد عثمان الميرغني، والحزب الشيوعي البارع في إثارة الشارع، وإرباك الساحة السياسية، وحركات مسلحة لديها قوات عسكرية داخل المدن، إلى جانب مكونات عشائرية يصعب تجاهلها، مثل الطرق الصوفية ومؤتمر البجا والعموديات المستقلة، بقيادة الناظر محمد الأمين تِرك، الذي أغلق من قبل شرق السودان، وعزل الموانئ الرئيسية في ولاية البحر الأحمر تماما، ويمكن أن يقدِم على الخطوة ذاتها إذا تم تجاهل مطالبهم، التي تركزت هذه المرة، في تقديم مرشح من شرق السودان لرئاسة الوزراء.

المطامع الخارجية

البعثات الأممية والسفراء هم أصحاب هذا الاتفاق، ويُعَد من صنع أيديهم بدءا بكتابة الوثيقة الدستورية واحتضان المفاوضات إلى ترتيب مراسم حفل التوقيع، وقد وصفه رئيس بعثة (يونتامس) في السودان فولكر بيرتس بأنه خطوة مهمة لاستعادة السلطة المدنية، لكنه ليس مثاليا، بينما أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والإمارات والسعودية ومصر بيانات ترحيب، وأشادت بهذه الخطوة، وقد ظهر في قاعة الحفل ممثلون للبعثات الأجنبية، وجماعات المحاور والضغط الخارجي، لتذكرنا بمؤتمر سايكس بيكو عام 1916 لتقسيم العالم بين الدول الاستعمارية، لا سيما وأن السودان بموارده وثرواته أصبح فريسة تطارده كلاب الصيد الروسية والأمريكية.

صحيح أنه لا مفر من العودة إلى الحكم المدني، وهو أمر حتمي تتطلع إليه أجيال من السودانيين ذاقت مرارة الحرب والتشاكس السياسي والانقلابات العسكرية، وتريد أن تنعم بوطنها، كما أننا في حاجة إلى سلطة مدنية كاملة تخشى الحساب، ومؤسسات تشريعية وقضاء نزيه مستقل، بل نحن في حاجة إلى الدولة نفسها التي انهارت، ولجيش مهني قوي يحمي الدستور، ويقوم بواجباته في حفظ الأمن والاستقرار، وهذا بالضرورة لا تحققه صفقات ثنائية، ومساومة أنانية وعجلى.

الخوف من الانتخابات

ثمة حاجة إلى نقاش جاد وشفاف، من منطلق مشاركة أوسع لأطياف الشعب السوداني، لا تُقصي أحدا، بشكل يؤسس للتحول الديمقراطي المنشود، من دون السقوط في مائدة السلطة وزخرفها، وتوزيع الغنائم بين المتحاورين، والتأمين على حماية المصالح الخارجية، قبل مصالح السودانيين، وتجاهل الانتخابات بحجة أن الإسلاميين سيفوزون بها، وتلك حيلة للهروب من التنافس العادل، والكشف عن الأوزان الجماهيرية، إذ إن الشرعية الوحيدة المعترَف بها هى الشرعية الانتخابية، ولا يمكن لبلاد أن تعيش تحت وصاية الجيش في فترة انتقالية، تتجدد كل مرة، عبر الاتفاقات الإطارية.

القضية ليست خروج البرهان وحميدتي من القصر الجمهوري بموجب التزامات شخصية، إذ يمكنهما التحكم في الأمور من أي مكان، من بيت الضيافة أو من وزارة الدفاع، بل يمكنهما الانقلاب مرة أخرى على هذا الاتفاق، بأكثر من حجة وسبب، مثل الصراع السياسي، أو الاضطرابات الأمنية، أو تدهور الأوضاع المعيشية، لا سيما وأن الجيش هو الذي أطاح البشير في أبريل/نيسان 2019، وأصبح بذلك هو السلطة المؤسسة للانتقال، وما لم يتم التوافق بين القوى السياسية على إنهاء هذه الحالة الانتقالية المستمرة، وبناء علاقة جديدة بينهم، فلن تستقر الأوضاع أبدا، ولن يبقى من السودان غير اسمه وكوراثه.

المصدر : الجزيرة مباشر