مونديال قطر 2022.. القوة الناعمة تعيد صياغة الصورة العربية

كان احتضان العاصمة القطرية الدوحة للنسخة الثانية والعشرين من بطولة كأس العالم إحدى أدوات تأكيد القوة الناعمة لقطر على المستويين الإقليمي والدولي.

لقد تمكنت قطر بعد سنوات طويلة من أن يُصبح لها دور فاعل ومؤثر في المنطقة؛ من خلال توظيف وإدارة مواردها، وإقامة علاقات جيدة مع الدول الكبرى، مع المحافظة على استقلالية القرار القطري، ورفض أي إملاءات خارجية.

تعد قطر من أبرز الدول الخليجية والعربية التي تستثمر في القوة الناعمة، وقد اعتمدت لأجل ذلك على توظيف العديد من أدوات القوة الناعمة، ومنها: الإعلام والثقافة والتعليم والرياضة والسياحة والاستثمار والعمل الخيري.

إضافة إلى ذلك، فقد برز دور الوساطة القطرية في النزاعات؛ حيث تُعد الدوحة قبلة لكثير من دول العالم لبحث ونقاش العديد من الملفات الساخنة على الساحتين العربية والإقليمية. وقد لعبت الدوحة أدوارا فاعلة في العديد من النزاعات عبر الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف، والحرص على إنجاح المفاوضات، واستخدام قدراتها المالية لإنجاح اتفاقيات الوساطة.

كأس العالم والنموذج القطري

الاستثمار في الرياضة من أدوات القوة الناعمة، التي تحرص الدول على الاستفادة منها. وقد نجحت قطر في تعظيم قوتها الناعمة بالاستثمار الرياضي بشكل لافت للانتباه.

لقد قدمت قطر نموذجا يُحتذى به، من خلال النجاح في تنظيم بطولات وفعاليات عديدة سابقة على تنظيم كأس العالم، كان أبرزها: بطولة العالم لألعاب القوى عام 2019، وبطولة كأس العالم للأندية، وبطولة الخليج، إضافة إلى العديد من البطولات في الرياضات المختلفة. كما فازت قطر باستضافة بطولة الألعاب الآسيوية لعام 2030.

وبحسب الإحصائيات الرسمية، فقد استضافت قطر ما يزيد على 500 فعالية رياضية دولية منذ عام 2005، في مختلف الألعاب الرياضية. وإلى جانب ذلك أقامت قطر منشآت رياضية، ومرافق تدريبية وعلاجية على طراز عالمي، تجتذب الأندية العالمية على مدار السنة، مثل أكاديمية أسباير الرياضية، ومستشفى سبيتار المتخصص في طب العظام والطب الرياضي.

نجاح قطر في استضافة كأس العالم للكرة، والتنظيم الرائع غير المسبوق للبطولة، كانا استكمالا للنجاحات، وتتويجا للمسيرة القطرية في الاستثمار الرياضي -التي أضافت إلى المجال أكثر مما أضاف المجال إليها- وتأكيدا للنموذج القطري المتميز.

انقلاب ثقافي

لقد مثلت استضافة قطر وتنظيمها لكأس العالم -أكبر بطولة رياضية كونية- انقلابا ثقافيا عالميا، عبر تصدير القيم الإسلامية والعربية، والتأكيد على الهوية الحضارية الإسلامية العربية.

المراقب لمسيرة الدوحة على مدار 12 عاما، منذ الفوز بحق استضافة بطولة كأس العالم، وحتى الوصول إلى اللحظة المبهرة للافتتاح، وما شاهده العالم من التنظيم غير المسبوق، يدرك أن الأمر ليس الغرض منه إحداث ضجة إعلامية حول قطر، بل إن الأمر هو تمدد للقوة الناعمة عبر العالم، وتأكيد للهوية العربية والإسلامية.

وبحسابات الربح والخسارة، فإن قطر هي الرابح الأكبر من تنظيم بطولة كأس العالم، ومعها العالم العربي.

ولئن كان العالم يشهد حاليا تحولا نحو تعدد القطبية، فإن تنظيم بطولة كأس العالم في قطر يُعد بمثابة تحول نحو تعدد القطبية الثقافية، ونهاية لعصر الاستعلاء والاحتكار الغربي في المجال الثقافي والرياضي، الذي حصر العالم العربي في زاوية المتلقين، وإيذانا بانطلاق عربي إلى صفوف الفاعلين والمؤثرين في المشهد العالمي.

مونديال قطر ورسائل للإنسانية جمعاء

من قطر، من بلاد العرب نرحب بالجميع في بطولة كأس العالم 2022. بهذه الكلمات افتتح سمو الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني فعاليات بطولة كأس العالم متحدثا بلسان كل العرب، ومؤكدا على الهوية العربية الإسلامية.

ولقد حملت كلمات الأمير تميم بن حمد آل ثاني معاني ورسائل تجاوزت حدود الجنسيات والأعراق، حين قال: “بذلنا الجهد واستثمرنا في الخير للإنسانية جمعاء”.

كلمات سبقتها الأفعال على أرض الواقع، فهذه دوحة العالم قد غيرت المفاهيم، وأعلت الأخلاق، وترجمت معاني الإنسانية فرحة تنطق على وجوه الصغار والكبار، وفي مخيمات الشتات والمناطق المحرومة.

التأكيد على السلم والتكافل الإنساني

لقد عكس تنظيم قطر لبطولة كأس العالم السياسة العامة للدولة، التي تنتهج السلم والتكافل الإنساني قاعدة أساسية.

وعلى خلفية بطولة كأس العالم، وإدراكا من الإدارة القطرية لحجم الأزمات التي عاشتها بعض شعوب العالم العربي والإسلامي، وتأكيدا لقيم السلم والتكافل الإنساني التي تنطلق منها السياسة العامة للدولة، حرصت قطر على إقامة مناطق مشجعين للنازحين لمتابعة البطولة، في نحو ثماني بلدان هي: فلسطين والأردن والسودان والعراق ولبنان واليمن وتركيا وبنغلاديش؛ لتشارك هؤلاء فرحة أهم وأكبر بطولة عالمية.

مونديال التأكيد على الهوية والقيم الأخلاقية

مع بدء فعاليات المونديال جاء العالم كله إلى قطر، فقطر أصبحت وجه العالم ووجهته. ولقد دمجت قطر عبر بطولة كأس العالم بين الرياضة والعمل الخيري والإنساني، والعمل الدعوي، ورسمت بريشة عربية إسلامية لوحة معبرة عن قوتها الناعمة.

ولقد استطاعت القيادة القطرية أن تقف في وجه الحملة الشرسة التي أديرت ضد البلاد بسبب استضافتها للبطولة الأهم عالميا، وأدارت الأزمة سياسيا وإعلاميا بفاعلية ونجاح منقطع النظير.

كما أكدت قطر من خلال تنظيم مونديال 2022 أن هوية البلاد وقيمها الإسلامية ليست محلا للتفاوض أو التنازل، وأعلنت أنها حامية لدينها وتقاليدها، ولن تتنازل عن مبادئها.

ويمكن القول، إن مونديال قطر 2022 أظهر أزمة الغرب العميقة مع نفسه والعالم، ومع الفطرة الإنسانية -عبر محاولة نشر الشذوذ وفرضه على العالم- وجلى بوضوح الانحدار والتراجع الغربي، وبدا الغرب لأول مرة معزولا بعد أن كان يقود حملات عزل الدول والشعوب.

ومن ناحية أخرى استثمرت قطر هذا الحدث الرياضي، ووجود مئات الألوف من شتى أنحاء المعمورة في العاصمة الدوحة، ومئات الملايين من شعوب العالم حول الشاشات للدعوة إلى الإسلام، ونشر قيمه السمحة ومفاهيمه الصحيحة، ولم تدخر في ذلك جهدا أو مالا.

خاتمة

لقد وسع نجاح قطر في تنظيم بطولة كأس العالم 2022 بدون شك من تمدد القوة الناعمة للدولة القطرية، وأصبح صوت الدوحة يتردد صداه الآن في أرجاء المعمورة.

وإن نجاح القوة الناعمة القطرية وتمددها هو نجاح لتجربة عربية إسلامية، يعيد صياغة الصورة العربية، ويقدم نموذجا جديرا بالاهتمام والدراسة.

يحمل نجاح قطر في تنظيم المونديال بشكل غير مسبوق أبعادا تتجاوز حدود المجال الرياضي، إلى أبعاد أخرى سياسية وثقافية، وحضارية، في ظل تحولات عالمية، ويؤكد أن شعوب المنطقة العربية تمتلك القدرة على المساهمة الفاعلة في صنع الحضارة الإنسانية، وأنها في طريقها لاستعادة مكانها المناسب ومكانتها اللائقة في المنظومة العالمية.

المصدر : الجزيرة مباشر