الأزمة السودانية ومخرج الاتفاق الإطاري

فالفريق البرهان، متمسكٌ بالبقاء في السلطة بأي سبيل. وجميعنا يذكر أنه قال في أول ظهور إعلامي له، أن والده رأى في المنام انه سيحكم السودان. ولم يكن بحاجة لذكر تلك الرؤيا في تلك المقابلة، لولا أنها مسيطرة على وعيه وعلى خططه المستقبلية.

عبد الفتاح البرهان

 

منذ اندلاع الثورة السودانية الثالثة، في 19 ديسمبر 2018، بقي السودان رازحًا، إلى يومنا هذا، تحت نَيْرِ أزمةٍ متطاولةٍ شديدةِ الوطأة. ومعلومٌ من تاريخ الثورات، أن أي ثورةٍ لن تبلغ مراميها ما لم تتحقق لها ما تسمى: “الكتلة الحرجة”. وهذا المصطلح مأخوذٌ أصلاً من علم الفيزياء. فالكتلة الحرجة في الفيزياء تعني أقل كمية من المادة المطلوبة لإنتاج تفاعلٍ نووي متسلسل. وجرى نقل المصطلح إلى عالم السياسة، حيث أصبح يعني في مسار أي ثورة، القدر اللازم من الاتفاق والاجماع وسط الشعب، لكي تستمر الثورة حتى تحقق كل أهدافها. لكن، ما أكثر ما اختلف الثوار حول أهداف ثورتهم. أي، حول ما يمكن تحقيقه منها في لحظة الثورة، وما يمكن تحقيقه منها في زمن لاحقٍ، يطول أو يقصُر، بل وما لا يمكن تحقيقه منها في المستقبل المنظور. فالفهم الواقعي لقدرات وطاقات قوى النظام القديم المراد تغييره، ينبغي أن يجعل قوى الثورة مدركةً لحقيقةِ أن فعل التغيير سيرورة تستمر في الزمن. وهي سيرورةٌ يصل بها الثوار إلى أهدافهم على مراحل. فالثورة ليست حدثًا يقلب الأمور رأسًا على عقب، لحظة الحدوث. فهذا لا يحدث إلا في حالات الثورات المسلحة العنيفة. وحتى في حالات الثورات المسلحة العنيفة، يحدث الانقسام وسط كتلة الثوار.

حدث الانقسام في كتلة الثوار في الثورة الفرنسية، وفي الثورة الروسية، وفي الثورة الصينية، وفي غير هذه من الثورات، وهذا من طبيعة الأشياء. وكل هذه الثورات اتسمت بالعنف. أما في حالات الثورات السلمية، كالثورة السودانية، التي لا تزال فصولها تتابع منذ لحظة اندلاعها، منذ أربع سنين، وإلى الآن، فإن قلب الأحوال التي صنعها النظام القديم، رأسًا على عقب، يبدو، بناءً على ما جرى حتى الآن، أمرًا غير ممكنٍ. ورغم ذلك، فقد اختارت كتلةٌ سياسية أسمت نفسها كتلة “التغيير الجذري”، ألا تقبل بأي حلٍّ تفاوضيٍّ مع العسكر. تضم هذه الكتلة كلاً من الحزب الشيوعي السوداني، وعددًا من لجان المقاومة الشبابية، وهي الفاعل الأصلي في الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، إضافةً إلى بعض أحزاب البعث، التي انضمت إلى الكتلة، عقب رفضها التوقيع على الاتفاق الإطاري مع العسكريين. ترى هذه الكتلة أن اقتلاع النظام القديم اقتلاعًا كاملاً ممكنٌ عبر الاستمرار في التظاهرات في الشارع، والتصعيد الذي يمكن أن يبلغ درجة الاضراب السياسي والعصيان المدني.

عقبة الدولة الموازية

من أساليب الهيمنة غير المسبوقة، فيما أعلم، أسلوب خلق دولة موازية، تجعل الدولة الأم مجرد قوقعة فارغة. هذه الدولة الموازية هي التي تجعل التحدي للثورة السودانية تديًا غير مسبوق، إضافة إلى كونه بالغ الضخامة، وشديد التعقيد. ولذلك، فإنني أرى أن كتلة الجذريين تتجاهل، أو تغض الطرف، عن كثيرٍ من الحقائق الموضوعية، التي تجعل التطلع إلى اقتلاعٍ جذريٍّ نهجًا غير عملي. ومن بين هذه الحقائق ضخامة الدولة الموازية وصعوبة تصفيتها تماما في فترة انتقالية محدودة المدى الزمني.  فقد عمل نظام الإسلاميين منذ وصوله إلى السلطة، عبر الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989، على النظام الديموقراطي القائم، على تحطيم بنية العمل النقابي، واستتباعها. كما خلق أيضًا حاضنةً شعبيةً تمثلت في حزبه الأوحد “المؤتمر الوطني”. وعبر ثلاثين عامًا من الحكم منفردين، وضع الإسلاميون عناصرهم في كل مفاصل الدولة؛ على مستوى الوزارات، وعلى مستوى الحكم المحلي، وعلى مستوى القيادات النقابية المهنية، وعلى مستوى كافة أجهزة الإعلام الرسمي، وعبر عديد الصحف التي انشأوها. باختصارٍ شديدٍ، قام حزب المؤتمر الوطني الحاكم بخلق دولةٍ موازيةٍ، مستقلةً تمامًا عن الدولة الأم. وامتلك بهذا النهج، أموالاً طائلةً عبر ما أسماه قادته: “التمكين” و”التجنيب”؛ أي تحقيق الثراء العريض للموالين والإفقار المتعمد للمعارضين، ووضع الموالين في كل أجهزة الدولة. بهذا أصبحت أموال الدولة تدور في الظلام، في يد الدولة الموازية، بعيدًا عن عين أجهزة الدولة الأم للرقابة المالية، والمراجعة، والمحاسبة.

بالاستيلاء الكامل على مقدرات الدولة وإخفائها عن الأعين، تمكن النظام من انتهاج أسلوب الإغراء بالأموال فجرَّ كثيرًا من الطرق الصوفية، ومن الإدارات الأهلية، المتمثلة في القبائل والعشائر، وعبر ترديد الخطاب الديني التعبوي، إلى جانبه. وتمكن بهذا الأسلوب من خلق حاضنةٍ شعبيةٍ له، لا يستهان بحجمها ومقدراتها. وقد صاحبت كل تلك الأساليب، قبضةٌ أمنيةٌ ٌمشدَّدةٌ، ضيقت الخناق على العمل المعارض. فقد مارس النظام منذ وصوله إلى السلطة في عام 1989، أسلوب تشريد العاملين في أجهزة الدولة، من وظائفهم لكونهم مشكوكٌ في ولائهم له. وقد قام بذلك تحت ما سُمِّيَ “الفصل من العمل للصالح العام”. بسبب ذلك خرجت أعدادٌ مقدرةٌ من الطبقة المهنية والعمالية المستنيرة من البلاد، بحثًا عن أرزاقها في الخارج. كما مارس النظام أسلوب الاعتقالات الطويلة دون توجيه تهمة، كما مارس أساليب التعذيب البشعة، وغير ذلك من الأساليب القمعية.

أيضًا، عبر ذات النهج تمكن النظام من شق الأحزاب الكبيرة ذات الثقل الجماهيري، وهما حزبي الأمة والاتحادي الديموقراطي، فنشأت منها فروع رضيت أن تشارك النظام في الحكم هامشيًا، قنوعًا بالمغانم. فكل نظامٍ قامت عليه ثورةٌ، يكون، بالضرورة مالكًا للكثير من الأدوات التي يقاوم بها فعل الثورة. والأنظمة الأكثر نجاحًا في مقاومة الثورة التي تنشأ ضدها، هي الأنظمة الاستبدادية، خاصةً الأنظمة المستندة إلى أيديولوجيا دينية؛ كنظام الإنقاذ في السودان، ونظام طالبان في أفغانستان، ونظام الملالي في ايران. هذه الأنظمة تعمل منذ لحظة وصولها إلى السلطة على امتلاك كل ما من شأنه أن يبطل فعل الثورة ضدها. وما من نظام استبدادي إلا وصنع لنفسه حاضنةً شعبية، وبيروقراطية، واقتصادية، تصبح بحكم مصالحها في النظام القائم، ثورةً مضادة مقاومةً، لفعل الثورة والحؤول دون تحقيق أهدافها بالكامل.

محاولة كسر عظم الثورة

لقد نجحت ثورة ديسمبر 2018 في إزاحة الرئيس البشير من السلطة. غير أن الذين تسلَّموا الحكم من الرئيس المخلوع عمر البشير، من الناحية العملية، هم جنرالاته الذين تربُّوا على يديه، وحملوا عبر ثلاثين عامًا نفس عقيدته الإسلاموسياسية، ونفس أساليبه في الانفراد بالسلطة والثروة. كما أنهم يعتمدون على ذات الحاضنة السياسية التي اعتمد عليها. ولذلك فقد استمروا في توظيفها للاستمرار في السلطة، لكن في سياقٍ جديد، وعبر مناورات عديدة بالغة التعقيد، يبعدون بها هذه الحاضنة، ليرفعوا من آمال الثوار، تارةً، ويقربونها تارةً أخرى، ليدخلوا اليأس والقنوط إلى نفوس الثوار، وقد مارسوا في ذلك مختلف التكتيكات.

قام جنرالات السودان بفض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة وجرت مذبحة القيادة العامة البشعة في 3 يونيو2019. وقد كانت المذبحة متلفزة، أعقبها ما يشبه الاستباحة للمدينة. وكان الغرض وراء ذلك بث الرهب في النفوس وكسر عظم الثورة. أعلن الجنرالات، عقب المذبحة، تعليق المفاوضات مع المدنيين. ويعني ذلك وفقًا لخطتهم، التوجه إلى الانتخابات، وبأسرع فرصةٍ ممكنةٍ، لتديرها حاضنتهم السياسية والاجتماعية، على ذات النسق الذي كان يديرها به الفريق البشير وحزبه الأوحد، المؤتمر الوطني، لتخرج الانتخابات بنتيجةٍ مرسومةٍ سلفا.

لم تكسر مذبحة القيادة العامة عظم الثورة كما توقع الجنرالات. فقد خرجت الجماهير بأعدادٍ بالغة الضخامة، في 30 من يونيو؛ أي بعد سبعة وعشرين يومًا من المذبحة. وهو ما أرغم الجنرالات للعودة إلى التفاوض، من جديد. وانتهت المفاوضات العسيرة بين المدنيين والعسكريين، بكتابة وثيقةٍ دستوريةٍ حاكمةٍ للفترة الانتقالية، جرى التوقيع عليها في 17 أغسطس 2019. وقد باركها ممثلون للمجتمعين الدولي والإقليمي، كانوا منخرطين في متابعتها. وبعد أربعة أيامٍ من التوقيع على الوثيقة الدستورية، أدى عبد الله حمدوك، الذي اختارته قوى الحرية والتغيير رئيسًا للوزراء، القسم أمام الفريق عبد الفتاح البرهان، في 21 أغسطس 2019. وقد لقي تسلُّم عبد الله حمدوك لرئاسة الوزارة الانتقالية، قبولاً شعبيًّا كبيرًا للغاية.

شيطنة الفترة الانتقالية

حنى الجنرالات رأسهم لعاصفة ضغوط الشارع والمجتمعين الدولي والإقليمي، لكنهم لم يتخلوا عن هدفهم الثابت المتمثل في إفشال الثورة؛ جملةً وتفصيلا. فطفقوا يمارسون تكتيكات جديدة لتخريب الفترة الانتقالية. من هذه التكتيكات خلق الأزمات التموينية في السلع الأساسية كالخبز والوقود وغاز الطهي وغير ذلك. فسلاسل إمداد السلع إلى منافذ البيع تتحكم فيها شركات تتبع أصلاً لرأسماليي النظام البائد. أيضًا، اتجه الجنرالات وجهاز أمنهم وشرطتهم إلى خلق سيولة أمنية لم يعرفها السودانيون في كل تاريخهم؟ فقد نشطت عصابات تسمى “تسعة طويلة”، في نهب حقائب السيدات، وتليفونات المارة، في وضح النهار. وعادة ما تحمل هذه العصابات السكاكين والسواطير، وأحيانًا المسدسات. كما جرت إثارة النزعات الإثنية في المدن التي يسكنها سودانيون من إثنيات مختلفة، ظلوا متعايشين في سلامٍ، منذ عشرات السنين. فحدثت في هذه المدن مصادمات إثنية اتسمت بالعنف الشديد. كما حدثت مصادمات قبلية في كردفان ودارفور اتسمت هي الأخرى بالعنف الشديد. وقد لقى المئات، وربما الآلاف، في هذه الاضطرابات العنيفة حتفهم. كما جرى تكرار الاتهامات لقوى الحرية والتغيير بأنها إقصائية وتريد الانفراد بالسلطة. وجرى أيضًا نقد بالغ الكثرة للجنة إزالة التمكين تضمن الكثير من تشويه السمعة المتعمد. فاللجنة قد شرعت في استرداد الأموال والعقارات التي حيزت بصورة غير قانونية وهو أمر يهدد القدرات المالية والتنظيمية لفلول النظام القديم. كما ظلت تترد وباستمرار مقولة أن أداء اللجنة ذو طبيعة ثأرية، ولا يقوم على أسس قانونية. كما قام زعيم قبائل البجا، في شرق السودان، محمد الأمين ترك، وهو عضو سابق حزب الرئيس البشير المؤتمر الوطني، وبمباركة واضحةٍ من الجنرالات، بإغلاق الطريق الرابط بين ميناء بورتسودان وبقية القطر. كما قام بإغلاق الميناء أيضًا، الأمر الذي أوقف حركة الصادر والوارد.

في هذه المرحلة شاركت، أيضًا، القوى الحزبية الداعمة للثورة، في إضعاف حكومة حمدوك. وعلى سبيل المثال، قال الإمام الراحل، السيد، الصادق المهدي، قبل أن يتسلم حمدوك منصبه: “إذا فشلت حكومة حمدوك فسوف نذهب إلى انتخابات مبكرة”. ويبدو أن السيد الصادق المهدي كان يعتقد، أنه يملك الرصيد الجماهيري الكافي لكسب الانتخابات. ولذلك فإن الفترة الانتقالية لم تكن تهمه، فيما يبدو. بل، وربما تغيِّر، إن طالت مدتها، من موازين القوى، بما لا يكون في صالح حزبه. أيضًا، شق الحزب الشيوعي تجمع المهنيين أحد القوى الكبيرة التي شكلت كتلة الحرية والتغيير. وما لبثت الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان شريكًا في كتابة الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، مع قوى الحرية والتغيير، أن خرج من كتلتها. وشرع في نقد حكومة عبد الله حمدوك. وقد أسهم خروج الحزب الشيوعي من قوى الحرية والتغيير، في خلق انقسام داخل لجان المقاومة التي تدير الحراك في الشارع.

انقلاب 25 أكتوبر 2022

خلاصة الأمر، تكاثرت المعاول على حكومة حمدوك من الجنرالات الذي يحركون مختلف المعاول، ومن ضمنها فلول النظام القديم، وقيادات الحركات المسلحة الموقعة على وثيقة سلام جوبا. كما عملت معاول أخرى تنتمي إلى قوى الثورة نفسها في تحطيم حكومة عبد الله حمدوك. تحت مختلف الضغوط، حل عبد الله حمدوك، عقب اتفاق سلام جوبا حكومته الأولى غير الحزبية، وشكَّل حكومةً جديدةً، جرى إدخال قادة الحركات المسلحة فيها. وهنا اهتبلت الأحزاب المنضوية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير الفرصة لتتسلل إلى كراسي الوزارة. هنا ازدادت الشقة بين لجان المقاومة في الشارع وبين قوى الحرية والتغيير. وازدادت نغمة أن قوى الحرية والتغيير انصرفت عن مهام الثورة وارتضت نهج المحاصصة الحزبية الذي يخدم المصالح الحزبية والشخصية للحزب.

تكاثر النقد لحكومة حمدوك، وتكاثرت شيطنتها من مختلف الجهات. وحين بلغت تلك الشيطنة والعزلة المدى المطلوب، عمل الجنرالات مع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا على إقامة اعتصام معارض لحكومة حمدوك، أمام القصر الجمهوري. ووجد ذلك الاعتصام كل التسهيلات المطلوبة من الجنرالات. ففي حين كانت قوى الأمن تمنع شباب الثورة من التقدم نحو القصر الجمهوري على مدي شهور طويلة، وتمارس قمعهم بعنف بلغ حد القتل المتكرر، تركت ما أسمت نفسها “قوى الحرية والتغيير التوافق الوطني” تقيم اعتصامها أمام بوابة القصر الجمهوري دون أن تقذف عليهم ولا علبة واحدة من القنابل المسيلة للدموع، بل قامت بحراستهم. طالب ذلك الاعتصام بعد ايامٍ من بدئه، وبصريح العبارة، من الجنرالات بالقيام بانقلاب عسكري على حكومة حمدوك. وبالفعل قام الجنرالات بانقلاب عسكري في 25 أكتوبر 2021، جرى به حل حكومة حمدوك ومجلس السيادة، وأصبح الجنرالات هم المسيطرين. قام الانقلابيون باعتقال عدد من قيادات الحرية والتغيير، وجرى حبس عبد الله حمدوك في منزله. كما علق الجنرالات عددًا من بنود الوثيقة الدستورية.

رفض الشارع الانقلاب منذ الوهلة الأولى، وعلقت القوى الدولية المساعدات التي وعدت بها. ووجد الجنرالات أنفسهم في عزلة دولية وإقليمية شبيهة بتلك التي قادت نظام الرئيس عمر البشير إلى الانهيار، في نهاية المطاف. تحت ضغط تلك العزلة، حاول الجنرالات إعادة حمدوك مرة أخرى إلى المشهد، عبر ضغوط شديدة عليه، وربما عبر تضليلٍ مورس عليه، بسبب حجب المعلومات عنه، مده بمعلومات مضللة، في فترة عزلته وحبسه القهري في منزله. وبالفعل، بعد شهر واحد من الاحتجاز المنزلي، خرج حمدوك إلى الملأ ليوقع في 20 نوفمبر 2021، اتفاقًا جديدًا مع الجنرالات، زاد من ابتعاد الشارع وقوى الحرية والتغيير عنه. وقد نص الاتفاق على العمل على بناء جيشٍ موحد، وأن يكون “مجلس السيادة هو المشرف على الفترة الانتقالية، دون التدخل المباشرة في العمل التنفيذي. كما تضمن الاتفاق إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام عمر البشير مع مراجعة أدائها. كما نص الاتفاق على أن الوثيقة الدستورية لعام 2019، المعدلة في عام 2020، هي المرجعية الأساسية لاستكمال الفترة الانتقالية. وقد أكد حمدوك، أيضًا، في حديثه الذي ألقاه قبل التوقيع أن غرضه من الاتفاق هو حقن دماء الشعب، وتوفير طاقات الشباب للبناء والتعمير. غير أن قتل شباب الثورة في الشوارع استمر. وفي ظل العزلة المطبقة التي وجد حمدوك نفسه فيها، لم يجد مناصا من تقديم استقالته في 2 يناير 2022، والخروج من الملعب السياسي. باستقالة حمدوك، واستمرار المعارضة في الشارع، وجد الجنرالات أنفسهم، إضافة إلى عزلتهم المتنامية عن أكثرية الشعب السوداني، بسبب العنف المفرط والمراوغات المتكررة، أنهم معزولين، أيضًا؛ دوليًا وإقليميًا، وغير قادرين على فعل شيء تجاه أزمات البلاد السياسية والاقتصادية المستحكمة.

مناورات جديدة

لم يدب اليأس إلى نفوس الجنرالات، رغم فشل محاولاتهم المتكررة في إجهاض الثورة، والسيطرة الكاملة على الأمور. ففي فترة الانقلاب ألغى البرهان قرارات لجنة إزالة التمكين التي أعادت الأموال المستولى عليها بطرق غير شرعية إلى خزينة الدولة. بل، وجه الأجهزة العدلية الموروثة من فترة حكم الرئيس البشير، والمعادية للثورة، بإلغاء قرارات لجنة إزالة التمكين. فقام الجهاز القضائي بإعادة المنظمات التي جرى حلها، وإعادة الممتلكات التي استُردَّت منهم، إليهم مرة أخرى. أيضًا، أعاد الجنرالات كل فلول النظام البائد الذين أبعدتهم لجنة إزالة التمكين، إلى مواقعهم في أجهزة الدولة المختلفة. أكثر من ذلك، جرى الإفراج عن بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني المحلول، والممنوع، قانونيًا، من ممارسة العمل السياسي في الفترة الانتقالية. وشرع هؤلاء، حال الإفراج عنهم، في العمل العلني ضد الثورة.

الشارع الموازي المصنوع

تحت ضغط الشارع الشعبي، المتمثل بصورةٍ رئيسية في فئة الشباب، وحراكهم المستمر الذي لم يتوقف على مدى أربع سنوات، بدأ الجنرالات يقولون إن لنا نحن أيضًا شارع يدعمنا. بذل الجنرالات المال في صناعة شارع موازي. وكانت أقرب القوى التي يمكن أن تقف في صف الجنرالات هي الحركات المسلحة. من هذه الحركات التي شاركت في اعتصام القصر الذي طالب بالانقلاب تشكل ما سُمي: “الحرية والتغيير التوافق الوطني”. وقد استخدم هذا التحالف نفس الاسم لقوى الحرية والتغيير بإضافة التوافق الوطني. والغرض من ذلك هو القول إن الثورة لا يقودها هذا الجسم الذي فاوض الجنرالات نيابة عن الثوار، منذ بداية الثورة، على الصورة التي ينبغي أن تجري بها الفترة الانتقالية، وهو الجسم المُسمَّى: “الحرية والتغيير المجلس المركزي”، وإنما هناك قوة أخرى تقود الثورة إلى جانب ذلك الجسم. وشرع الجنرالات يقولون أنهم سوف يعودون إلى الثكنات إن جلست هذه القوى مع بعضها وتوافقت على الكيفية التي تسير عليها الفترة الانتخابية. ويعلم الجنرالات أن قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي التي فقدت الكثير من رصيدها في الشارع لن تجلس مع هؤلاء الذي نادوا بالانقلاب. فإن هي فعلت فإنها سوف تفقد البقية الباقية دعم الشارع لها والوقوف وراءها. وبهذا خلق الجنرالات عقدة تعجيزية تعطل تقدم الأمور. كما قام الجنرالات بالمزيد من خلط الأوراق فحركوا الشيخ الطيب الجد، أحد شيوخ الطرق الصوفية، وهو عضو في الحركة الإسلامية، لتقديم مبادرة سميت “نداء أهل السودان”. ونشأ عقب ذلك، أيضًا ما سُمِي: “التيار الإسلامي العريض”. ثم ما لبث الجسم المسمى “الحرية والتغيير التوافق الوطني” أن غيَّر اسمه إلى “الحرية والتغيير التكتل الديموقراطي”. وقد ذكرت خبيرة الشؤون الإفريقية المصرية الدكتورة، أماني الطويل إن مصر هي التي صنعت هذا التكتل. وبالفعل، قامت مصر بإرسال زعيم طائفة الختمية في السودان، وزعيم الجزب الاتحادي الديموقراطي، السيد محمد عثمان الميرغني، المقيم في مصر منذ أكثر من عشر سنوات على متن طائرة مصرية خاصة، إلى السودان، لمنح التكتل الديموقراطي جرعة إنعاش. وانتدب السيد محمد عثمان ابنه جعفر للتوقيع مع “الحرية والتغيير التكتل الديموقراطي”. غير أن الحسن ابن السيد محمد عثمان الميرغني ابتعد عن خط والده، وهو الخط المصري في دعم الجنرالات، وذهب ليوقع الاتفاق الإطاري مع قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي. وهو اتفاق سار فيه الجنرالات تحت ضغط القوى الدولية والإقليمية، باستثناء مصر. وقد ذكرت الدكتور أماني الطويل أن صناعة مصر لما سمي “الحرية والتغيير التكتل الديموقراطي”، كانت محاولةً فاشلة.

القوى العسكرية المؤدلجة

كان من المفترض أن يكون الجنرالات الذين أطاحوا بالبشير تحت ضغط الشارع مجرد حُرَّاسٍ ومسهلين يرعون الفترة الانتقالية، لتنتهي بانتخابات حرة تقود إلى تسلُّم المدنيين السلطة، ويعود الجنرالات إلى ثكناتهم. وهذا هو ما قام به الفريق عبد الرحمن سوار الدهب، عقب الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في ثورة 1985. فقد بقي الجنرالات مسهلين في فترة انتقالية كانت مدتها عام واحد. جرت بعدها انتخابات عامة أعادت السلطة وإدارة الدولة كاملة إلى المدنيين، وانسحب الجنرالات إلى ثكناتهم معززين مكرمين. لكن تغيرت الأحوال كثيرَا فيما يخص القوى الأمنية من جيش وجهاز وشرطة. فهي لم تعد، فيما يتعلق بقياداتها ومسلكها، قوىً مهنية. ففي فترة الثلاثين عامًا التي أمضاها المشير عمر البشير في السلطة، تحول الجيش من جيشٍ مهني، إلى جيش من المؤدلجين المعتنقين لعقيدة الإسلام السياسي. يضاف إلى ذلك أن الجيش وجهاز الأمن والشرطة انخرطت في الأعمال التجارية. فأصبحت لهذه القوى الأمنية شركات ضخمة تتاجر في كل شيء من السلاح إلى السلع الضرورية. وأصبح الجنرالات ضمن فئة الأثرياء في المجتمع السوداني، وأصحاب مصلحة في بقاء نظام الرئيس البشير على ما هو عليه. يُضاف إلى ما تقدم، أن هذه الشركات الكبيرة معفاة من الضرائب، ولا رقابة مالية عليها. وقد سبق أن قال الرئيس عبد الله حمدوك في فترة رئاسته للوزارة أن الجيش والقوى الأمنية تستحوذ على 82% من اقتصاد الدولة، وليس للدولة سوى الـ 18% الباقية. وقد أغضب حديث حمدوك الجنرالات، ولعله كان أحد أقوى الأسباب التي قادتهم إلى التخلص منه.

قصد البشير، حرصًا منه على استدامة البقاء في الكرسي، أن يجعل كافة القوى الأمنية ذات مصلحة خاصة في بقاء النظام. ورغم ما قام به البشير في هذا الصدد، إلا أنه لم يطمئن تمامًا، خاصة بعد أن علت الأصوات وسط بعض الإسلاميين بألا يترشح لرئاسة الجمهورية مرة أخرى. فقام البشير بإنشاء ميليشيا الدعم السريع التي تحولت من قوة الغرض منها دحر الحركات المسلحة في إقليم دارفور، إلى قوة لحماية الرئيس البشير من أي انقلاب يمكن أن يفكر فيه جنرالات الجيش. وتملكت ميليشيا الدعم السريع مناجم للذهب وأنشأت شركاتها وانخرطت في مختلف الاستثمارات، وأصبح لها هي الأخرى اقتصادها المنفصل تمامًا عن اقتصاد الدولة. وهكذا بعد أن قامت الثورة أصبحت الأوضاع السياسية شديدة التعقيد. فقد أصبح هناك جيشان ضخمان مستقلان تمامًا عن بعضهما، ويدير كلاهما اقتصادا خارج أطر الدولة.

البرهان لا ينوي التخلي عن السلطة

في تقديري أن الفريق البرهان لا ينوي الخروج من السلطة. فقد ظل الرجل يردد أنه لن يسلم الحكم إلا لحكومة منتخبة. وهو حين يقول ذلك، لا يقوله لأنه يريد أن يأتي غيره إلى الحكم عبر انتخابات حرة نزيهة. وإنما يقول ذلك، وهو معتمدٌ على قوى نظام الفريق البشير التي أعادها إلى كل مفاصل الدولة. هو يريد أن يجد دعم هؤلاء بتمكينهم من جديد وإبقائهم داعمين له عبر إغرائهم برعاية مصالحهم الشخصية وإطلاق أيديهم في ممارسة الفساد المالي والإداري، مثلما كان حالهم في ظل نظام البشير. وبما أن الحركة الإسلامية وخطاب الإسلام السياسي قد قضى نحبه شعبيًا، فهو يريد هؤلاء داعمين له بعيدًا أن إيديولوجيا الإسلام السياسي. ولسوف يقبل هؤلاء هذه الصفقة، فقد تحول الإسلاميون في نهايات حكم البشير إلى رجال أعمال، تملكوا الشركات وسيطروا على الأسواق، كما تملكوا المشاريع الزراعية، وأنشأوا الجامعات الخاصة، والمدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة، والمختبرات الطبية الخاصة، وانخرطوا في مختلف الأنشطة التجارية، مستغلِّين سلطة القرار الإداري والمالي التي في أيديهم. هؤلاء لم يعد خطاب الإسلام السياسي يهمهم في شيء. ولذلك، هم من سيقومون بإفشال حكومة الفترة الانتقالية القادمة، مثلما أفشلوا، من قبل، حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وهؤلاء هم من سوف يهندسون للانتخابات المقبلة على غرار الانتخابات في فترة حكم الرئيس البشير. بهذه المناورة، وضع الفريق البرهان العصا في الدواليب لأي حكومةٍ تأتي في الفترة الانتخابية، وتحاول أن تكون مستقلة القرار عنه. فقبوله التوقيع على الاتفاق الإطاري هو مجرد انصياع مؤقت لضغوط المجتمع الدولي. ولسوف يعمل على تشظية القوى السياسية المدنية والحؤول بينها وبين الاتفاق حتى ييأس المجتمعان الدولي والإقليمي من المدنيين. لكن، قد ينجح في هذا المسعى وقد يفشل. ويعتمد ذلك على وعي المدنيين المؤمنين بالثورة، الحريصين على تحقيق أهدافها بهذه الخطة ومحاولة إفشالها بالابتعاد عن الخلافات. لكن لا يبدو أن القوى المدنية قادرة الآن على ترك الخلافات والتناحر الذي ما فتئ يمنح الجنرالات مساحات إضافية يتمددون فيها.

لقد قام الفريق البرهان، في السنوات الثلاث الماضية، عبر تكتيك “فرق تسد”، بمناورات متتابعة بالغة الكثرة. كما ظل يقدم خطابات متناقضة؛ وهو أمر مقصودٌ الغرض منه إرباك المشهد السياسي وتشظيته أكثر فأكثر. تارة يحذر الفريق البرهان، الإسلاميين الذين أعادهم إلى مفاصل الدولة، وتارة يحذر قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي من التفكير في الانفراد بالسلطة، مثلما فعلوا في فترة رئاسة حمدوك للوزارة، كما يقول. عمومًا اتسمت مناورات الفريق البرهان وجنرالاته بالتقلبات الحادة. فالفريق البرهان، في تقديري، متمسكٌ بالبقاء في السلطة بأي سبيل. وجميعنا يذكر أنه قال في أول ظهور إعلامي له، أن والده رأى في المنام انه سيحكم السودان. ولم يكن البرهان بحاجة لذكر تلك الرؤيا في تلك المقابلة، لولا أنها مسيطرة على وعيه وعلى خططه المستقبلية. ويبدو لي أن إيمانه بتلك الرؤية قد ترسَّخ على أثر صراع الشارع والعسكريين في بداية الثورة. فقد أدى ذلك الصراع إلى إبعاد الفريقين عوض أبنعوف، وكمال عبد المعروف، وهما أعلى منه رتبةً، ليقفز هو إلى المقدمة ويصبح عبر الشراكة التي أُبرمت، رئيسًا لمجلس السيادة. تلك الرؤيا، في تقديري، هي الثابت الذي انبثقت منه كل تلك المناورات وغالبًا، ما ستستمر هذه المناورات، بمختلف الصور، حتى يتحقق ذلك الحلم على النحو الذي يُمًنِّي به الفريق البرهان نفسه.

وضع الفريق حميدتي في المعادلة

في بداية الثورة ظهر أن الفريق البرهان، قائد القوات المسلحة والفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، يعملان كيدٍ واحدةٍ في إجهاض الثورة، والحؤول دون حدوث أي تحول ديموقراطي يعيد السلطة كاملةً إلى المدنيين. لكن، طفا مؤخرًا على السطح ما يدل على أن الرجلين يلعبان لعبتين متعارضتين. ففي الشهور الماضية التي شهدت  ظهور مبادرات الكثيرة وتحالفات سياسية وقف وراءها جنرالات الجيش كما ذكرنا، قامت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين بكتابة مسودة دستور. وكان اللافت ترحيب الفريق حميدتي بتلك المسودة، في حين صمت عنها الفريق البرهان. غير أن القوى السياسية من أنصار النظام القديم المصطفة وراءه، انبرت في نقدها وشيطنها ووصفها بأنها مُعدَّةٌ خارج السودان، وأنها انتهاكٌ لسيادة السودان، وارتهان لإرادة الأجنبي، وأنها تستهدف عقيدة الأمة وقيمها، وغير ذلك من نعوت الشيطنة.

ويبدو أن ترحيب حميدتي بمسودة الدستور التي أعدتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، إضافة إلى قوله أن الانقلاب الذي قام به جنرالات الجيش على حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، جعلت البرهان، حرصا على عدم الاصطدام بالفريق حميدتي أن يذعن، هونا ما، لجهود التسوية. وهي جهودٌ ظلت تقوم بها الرباعية الدولية والإقليمية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الثلاثية التي تضم البعثة الخاصة للأمم المتحدة إلى السودان والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد. وهكذا جرى التوقيع على الاتفاق الإطاري. وقد كان لافتًا في حفل التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي جرى في الخامس من ديسمبر الجاري أن الفريق حميدتي اعتذر في خطابه عن عنف الدولة الذي مورس ضد المدنيين، في حين لم يفعل ذلك الفريق البرهان في خطابه. سارعت المجموعة الدولية والإقليمية إلى الترحيب بالاتفاق الإطاري. غير أن مصر كانت آخر المباركين. فقد فعلت ذلك بعد بضعة أيام من التوقيع عليه في تصريح للرئيس المصري الفريق، عبد الفتاح السيسي أطلقه من الرياض، وليس من القاهرة. خلاصة القول هنا، أن الفريق حميدتي أصبح يحاول التقرب إلى قوى الثورة. وهذا في تقديري يجعل الفريق البرهان ينخرط في مزيد من المناورات بغرض شراء الوقت وعمل كل ما من شأنه أن يوصل القوى الدولية والإقليمية من توحد المدنيين، بما يمكنهم من تسلم السلطة وإدارتها بسلاسة حتى موعد الانتخابات.

الاتفاق الإطاري يزيد الانشقاق المدني

كما ذكرنا سالفا، فإن الحزب الشيوعي السوداني خرج من قوى الحرية والتغيير وطفق يعمل على السيطرة على بعض لجان المقاومة الشبابية التي تقود حراك الشارع، مشكلا بذلك بذة الكتلة التي أضحت تعرف بكتلة الحل الجذري. وهي كتلة، تود أن تعمل، على صغر حجمها الجماهيري، على مواصلة الثورة حتى استسلام الجنرالات كليَّا والتخلي عن السلطة نهائيا للشعب. وتستخدم هذه الكتلة الشعار الذي رفعته لجان المقاومة قبل فترة، وهو شعار اللاءات الثلاث: “لا شرعية، لا تفاوض، لا شراكة” مع العسكر. ويرى غالبية المحللين السياسيين أن هذا الفكرة فكرةٌ خيالية مستحيلة التحقق. من جانب آخر، أزعج الاتفاق الإطاري الإسلاميين فانبروا في نقده، بل، وفي رفع أصواتهم، على غير العادة، ضد الفريق البرهان. وفي معسكر قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، رفض حزب البعث الاتفاق، بل وخرج من عضوية قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي. وهكذا حدث انقسامٌ جديد، في معسكر الثورة. ومن الطريف أن الإسلاميين الذين أخذت تساورهم الشكوك حول نوايا الفريق البرهان رحبوا بخروج البعثيين من مجموعة الحرية والتغير المجلس المركزي. بل، وأخذ الإسلاميون يغازلون الشيوعيين ليصبحوا سندًا لهم في جهودهم لمقاومة الاتفاق الإطاري. وهكذا أصبح، داعمو الثورة، ومن قامت ضدهم الثورة، قصدوا أو لم يقصدوا، في مركبٍ واحد. وهذه واحدة من أعاجيب السياسة السودانية.

لا موجب للانقسام، ولكن

من يقرأ مسودة الدستور ويقرأ الإعلان السياسي ويقرأ بنود الاتفاق الإطاري لا يرى أي مبرر لحدوث انقسام في معسكر الكتلة الداعمة للثورة، الممثلة في قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، ومن وقعوا معه. خاصةً في هذه المرحلة التي تتطلب إجماعًا واسعًا من القوى الحزبية والشبابية وسائر المنظمات والقوى المجتمعية الواقفة مع الثورة. فالنصوص تقول: قيام حكومة مدنية ومجلس سيادة مدني. كما تقول ليس للعسكريين سلطة القرار. وأن القوات العسكرية سيجري دمجها في كيان واحد هو القوات المسلحة السودانية لتصبح جيشًا مهنيًا يعمل في وظيفته المعهودة، بعيدًا عن السياسة.  كما تحدث الاتفاق الإطاري عن عدالة انتقالية ومحاسبة من أجرموا في حق المواطنين. ومع كل ذلك، ومع أن هذا الاتفاق اتفاقٌ إطاريٌّ سيجري حوله تفاوضٌ ليصبح اتفاقًا نهائيًا، إلا أن البعض وقف ضده، وشرع في شيطنته.

غير أن بعض القوى السياسية السودانية، خاصة القوى اليسارية؛ كالحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي، تميل بطبيعة تكوينها إلى النهج الثوري المتطرف. فهي تعرف أنها لا تمتلك السند الشعبي العريض. ولذلك، فإن أي انتخابات لن تأتي منهم إلى البرلمان سوى ببضعة أفراد. لذلك هم يعولون على استمرار الثورة، متخيِّلين أنها سوف تكون الرافعة التي سوف تعطيهم ثقلاً جماهيريًا ثوريًا كاسحًا، وتمنحهم، من ثم، الشرعية الثورية، التي تمكنهم من اقتلاع النظام القديم من جذوره. غير أن مثل هذا النوع من الشرعية الثورية لا يتأتى إلا عبر ثورةٍ مسلحةٍ تسحق خصمها الممسك بالسلطة سحقًا تاما. أما في حالة هذه الثورة السودانية، التي اتسمت عبر السنين الأربع الماضية بالسلمية، فإن تصورُا مثل هذا يصبح تصوُّرًا خياليًّا، طوباويا.

في تلمُّس المخرج

ظل الصراع بين القوى التقليدية والقوى الحديثة في السودان جاريا منذ الاستقلال. كما كان جاريًا، أيضًا، بين القوى التقليدية فيما بينها، وبين القوى الحديثة فيما بينها. في هذا الصراع المرير تغلغلت كل القوى الحزبية في الجيش وجبرت انقلابات عسكرية. فأول انقلاب عسكري جرى في السودان، وهو انقلاب الفريق إبراهيم عبود، جرى بدعوة من رئيس وزراء حزب الأمة، عبد الله خليل. شعر رئيس الوزراء، عبد الله خليل، أن الاتحاديين، في الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديموقراطي الذي ترعاه طائفة الختمية ذات الميل المعروف لمصر، قد اتحدا تحت رعاية مصر لإسقاط حكومته. فدعا قائد الجيش لاستلام السلطة منه.

بناء على تسليم حزب الأمة السلطة للعسكر، تسلسلت، الانقلابات العسكرية. فحكم العسكريون السودان من جملة سنوات استقلاله البالغة 68 عامًا، 52 عامًا. وإذا أضفنا إلى ذلك الفترة الانتقالية المتعثرة، التي تجري حاليًا، وهي واقعةٌ من الناحية العملية تحت سيطرة العسكر، فإن سنوات حكم العساكر في السودان تصل إلى 56، من جملة 68 عاما، هي عمر الاستقلال. فبالإضافة إلى ما قام به حزب الأمة، أكبر الأحزاب السودانية السلطة إلى العسكر، أيضًا قام القوميون العرب والشيوعيون بالانقلاب الذي قاده العقيد جعفر نميري في عام 1969، وقوض به الفترة الديموقراطية الثانية. وقام الشيوعيون بمحاولة فاشلة للانقلاب على نميري حين اختلفوا معه في عام 1971. ثم قام الإسلاميون بالانقلاب الذي قاده العميد عمر البشير، في عام 1989، وقوض به الفترة الديموقراطية الثالثة. وقام البعثيون بمحاولة انقلابية فاشلة ضد انقلاب العميد عمر البشير، في عام 1990، انتهت بإعدام 28 ضباطا.

هذا التاريخ المملوء بالانقلابات العسكرية التي وقفت وراءها القوى الحزبية يدل دلالةً قاطعةً على انعدام الإيمان المبدئي بالديموقراطية وسطها. فكلمة الديموقراطية يجري استخدامها بكثرة في الخطاب السياسي، في حين لا يوجد لها تجسيدٌ حقيقيٌّ في السلوك السياسي. هذا من حيث الحالة العامة للقوى السياسية في السودان، أما من حيث نهج ما تسمى القوى الحديثة، وهي قوى تقع بصورةٍ عامةٍ تحت مظلة اليسار العريضة، فإن ما يجري منذ بداية هذه الثورة من عراك فيما بينها ومن انشقاقات وسطها إنما مرده إلى عدم الإيمان المبدئي بالديموقراطية. تنظر هذه القوى إلى الثورة كأداة تمنحهم شرعية ثورية يستخدمونها في قلب الطاولة على القوى التقليدية التي ظلت تسيطر على البرلمانات في كل الفترات الديموقراطية. وقد كان انقلاب نميري الذي دعمه اليسار بما في ذلك الحزب الشيوعي وشارك في وزارته محاولة لقهر القوى الحزبية الطائفية بقوة السلاح. غير أن الذي جرى بعد عامين فقط من الانقلاب أن الشيوعيين أصبحوا أول ضحاياه، بعد أن قاموا بمحاولة انقلابية ضده.

هذه الذهنية الانقلابية الفوقية المسيطرة على الجميع، لم تذهب، وإنما بقيت متَّخذةً صورةً جديدةً، بعد أن وضح للقوى الحديثة والقديمة معًا، خطر الانقلابات العسكرية. تحولت هذه الذهنية لاتخاذ أي ثورةٍ تحدث، مطيةً لحرق المراحل، عبر محاولات عزل القوى المناوئة، ما أمكن ذلك، مع إطالة الفترة الانتقالية، برجاء أن تسهم إطالتها في تغيير الخريطة السياسية. وعندما تأتي الانتخابات تكون قوى اليسار ذات القواعد الجماهيرية الضعيفة، قد حسنت من موقفها، بعد أن تكون قد استخدمت أجهزة الدولة في تحسن أوضاعها على مختلف الصعد. وضح هذا بجلاء حين هرعت القوى الحزبية إلى المحاصصة الحزبية في حكومة حمدوك الثانية.

من الناحية الأخرى، رددت قوى اليمين، وخاصة فلول النظام المدحور، وبإلحاحٍ شديد، الدعوة إلى تقصير الفترة الانتقالية إلى أقل مدة ممكنة. بل وعملت لإحداث جو من البلبلة المتواصلة، بحيث لا يبقى هناك سبيل سوى الذهاب إلى صندوق الاقتراع، وبأسرع فرصة ممكنة. والغرض وراء ذلك هو ألا يتغير ما حققه نظام الانقاذ على أرض الواقع، عبر الثلاثين عاما المنقضية. وبين هؤلاء وأولئك هناك الجنرالات الذين بعد أن أزاحوا الرئيس البشير عن سدة الحكم، رسموا لأنفسهم خطةً جديدةً مختلفة، أصبحوا يستخدمون فيها هذين الفريقين المتشاكسين، بل وسائر الفرقاء السياسيين ليفوزوا هم بالبقاء في السلطة مثلما فعل الجيش المصري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي.

الاتفاق الإطاري فرصة

في مثل هذا الجو المليء بالتناقضات والمشاكسات والتقلبات السريعة ليس هناك من سبيل سوى أن يتوافق جميع المدنيين على حدود دنيا، تتأسس عليها دولة ديموقراطية. وأعني هنا القوى المدنية التي كانت واقفة مع الثورة قبل حدوثها وأصبحت واقفة ضد الجنرالات الذين أزاحوا البشير وضد القوى التي ساندتهم في القيام بالانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2022. وينبغي على القوى التي ساندت الجنرالات في القيان بالانقلاب أن تعدل من موقفها وترتضي بمسودة الدستور المقترحة وبالإعلان السياسي وبالاتفاق الإطاري. فكل من يريد قيام نظام ديموقراطي، وكل من يخشى على هذه البلاد التي اكتوت أبشع ما يكون الاكتواء بالأنظمة العسكرية الفاسدة المفسدة، عليه أن يتجه إلى التوافق المدني، المدني.

يعلم الجنرالات، كما سبق أن أشرنا، صعوبة أن يتوافق المدنيون، فظلوا يضعون توافق المدنيين شرطًا أساسيا لتسلميهم السلطة وللعودة إلى الثكنات. وفي نفس الوقت فإن جهودهم لشق صفوف المدنيين لم تتوقف للحظة. الجنرالات يعرفون صعوبة أن يتوافق المدنيون. ولذلك فقد راهنوا على ذلك، وبقوا يرقبون مسارات الأمور حتى تصل إلى النقطة التي تيأس فيها القوى الدولية والإقليمية من إمكانية توافق المدنيين. ولا يزال في كنانة الجنرالات الكثير الذي يمكن أن يعيقوا به توافق المدنيين. فمن المهم أن تعلم قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي أن أي فريق نها لن يحصل علة زيادة تذكر في القاعدة الجماهيرية في الفترة الانتقالية. ولو انقضت الفترة الانتقالية وبقوا هم متفرقين على حالهم هذا، فإن أي فريق منهم لم يحصل سوى على بضعة مقاعد في البرلمان القادم. وسيكون اليمين التقليدي ومجموعات المصالح هي المسيطرة. وستعود البلاد القهقري إلى ما كانت عليه في كل الفترات الديموقراطية السابقة، التي انتهت بانقلابات عسكرية، رحب بها الجمهور بسبب الفشل. فالواجب المباشر ليس هندسة الفترة الانتقالية من أجل خدمة أهداف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، ومن تحالفوا معها. وإنما الواجب المباشر هو خلق جبهة عريضة تتشكل منها كتلة انتخابية تخوض الانتخابات القادمة مجتمعة. وإذا لم تستوعب هذه الكتلة عبر أنشطة مركزة موجهة القوى الشبابية، التي تمثل الثقل الجماهيري الأكبر، ولكن يعوزه التنظيم الرأسي، فلسوف لن تجد القوى الحديثة مقاعد تذكر في البرلمان المقبل. فكل عملٍ آخر عدا هذه المهمة المركزية، في هذا المنعطف التاريخي، سيكون عملا بلا مردودٍ يذكر. وسنعيد سيرة فشل الديموقراطيات السابقات.

المصدر : الجزيرة مباشر