مونديال قطر.. مونديال “الصحوة” الإنسانية

يجب الاستثمار في هذه الحالة من “الصحوة الإنسانية” التي شهدها مونديال قطر، من خلال انشاء مؤسسة دولية باسم “سفراء مونديال قطر” كنوع من “القوة الناعمة” تضم عدد كبير من المشجعين من مختلف دول العالم

حفل الختام

وها قد أسدل الستار على مونديال قطر، الذي حاز احتراما وتقديرا غير مسبوقين، كما حاز من قبل تحيّزا وهجوما غير مبررين أيضا، ولكن ليس هناك شك في أن هذه النسخة من المونديال سيكون لها أثر سيمتد لعقود، لأن الأمر هذه المرة تخطى الفكرة التقليدية، بكونها مجرد البطولة الكبرى في مضمار الكرة، التي ينتظرها العالم، سواء من عشاق الساحرة المستديرة، أو غيرهم من المشجعين، الذين يتابعون هذا الحدث الكبير كل 4 سنوات. في السطور القادمة سنقوم بقراءة لأبرز الرسائل التي حملها مونديال قطر.

لقاء للحضارات لا صدام للحضارات

منذ اللحظات الأولي لهذا المونديال، الذي يقام لأول مرة في دولة عربية مسلمة، وربما هذا هو السبب الذي جعل قطر والمونديال، يتعرضان لحرب شعواء وحملة هجوم غربية غير مسبوقة من التحريض والتشويه المتعمد، والترويج بأن هذا المونديال سيكون مكانا للصدام بين الشرق والغرب، بين القيم الإسلامية العربية وبين المفاهيم الغربية الليبرالية (والغريب أن بعض الدول العربية والإسلامية كانت تقف وراء تلك الحملات وتمولها)، ولذا حرصت قطر  منذ اللحظات الأولى لانطلاق المونديال على أن تكون رسالتها واضحة، وهي أن هذا المونديال فرصة لا يجوز تفويتها، لتصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة عن العرب والمسلمين،  تلك المفاهيم التي تم نشرها عن عمد، بتصدير صورة نمطية مغلوطة، تربط العرب والمسلمين بالانغلاق والتطرف والإرهاب، فقد شاهد العالم كله في حفل الافتتاح، ابن قطر المعجزة غانم المفتاح  في حواره مع الأسطورة مورجان فريمان، يؤكدان  أن البشر -على الرغم من اختلاف ألوانهم ولغاتهم- يمكنهم التعايش المبنيّ على احترام كلّ منهم للآخر، وقد تلا غانم آيات من القرآن الكريم تؤكد ذلك وتحثّ عليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ثم جات كلمة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر، لتؤكد نفس الرسالة، فالشيخ تميم رحب بالجميع في قطر في لفتة جميلة مذكرًا بأنها بلاد العرب، وكأنه يريد أن يقول لملايين البشر القادمين من مختلف أصقاع الأرض، والمليارات الآخرين المتابعين عبر الشاشات، أن الكرم والترحاب الذي سترونه هنا في قطر، هو باسم جميع العرب والمسلمين وليس فقط باسم قطر.

 صفعة على وجع التطبيع

من الأمور الهامة أيضا التي تحسب لمونديال قطر، أنه أعطى فرصة حقيقية للشعوب العربية، لتقول كلمتها في “القضية الفلسطينية”، تلك الشعوب التي تتعرض للقمع والترهيب والتخويف، من قبل الأنظمة التي تحكمها، لكي لا تتحدث عن القضية الفلسطينية. فبالرغم من حملات التشويه المسعورة والممنهجة، التي تقودها بعض الأنظمة العربية الإسلامية في ظاهرها، بدون خجل ضد القضية الفلسطينية، تحت ستار التطبيع والسلام، منذ انطلاق ما يسمى “اتفاقيات إبراهيم”، من أجل تفريغ القضية الفلسطينية من مكاناتها وكونها قضية مركزية بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية، جاء الرفض الواضح والصريح للحديث مع مندوبي ومراسلي الإعلام الصهيوني، ليجهض مساعي هذه الدول وتلك الأنظمة، ويكون بمثابة صفعة على وجوههم، لعلهم يدركون حجم الخزي والعار الذي سقطوا فيه، بمحاربتهم لتلك القضية العادلة، التي التف حولها العالم في مونديال قطر.

فقد رأينا الناس على مختلف ألوانهم وأجناسهم  يدعمون القضية الفلسطينية، برفعهم للعلم الفلسطيني ورفضهم الحديث للإعلاميين الصهاينة، رأينا اليابانيين واللاتينيين يرفضون الحديث للإعلام الصهيوني، حتى الإنجليز أحفاد بلفور الذي أصدر وعده الشهير “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، الذي أسس لنكبة العرب، صرخوا في وجه المذيع الصهيوني “فيفا فلسطين.. تحيا فلسطين”؛ وبذلك أعاد مونديال قطر للقضية الفلسطينية الزخم، على المستويين العربي والدولي، وعادت مرة أخرى محط اهتمام العالم، بعد أن اجتهد الصهاينة وحلفاؤهم من الأنظمة العربية الإسلامية في ظاهرها، للقضاء عليها في السنوات الماضية.

وذلك بشهادة الإعلام الصهيوني الذي تصدرت أخبار رفض الشعوب العربية له، الصفحات الرئيسية لجرائدهم وقنواتهم التلفزيونية عدة أيام، حتى اعترفوا بأن فكرة قبول الشعوب العربية لهم هي فكرة مستحيلة، ولكن يجب الانتباه جيدا إلى تلك التصريحات التي يمكن أن يستخدمها الصهاينة ضد العرب والمسلمين، من خلال التسويق لفكرة أن العرب والمسلمين ينشرون كراهية اليهود ويريدون تدميرهم لأسباب دينية أو عقائدية، ولذا يجب التركيز على توضيح أن رفض ومقاطعة العرب وغيرهم من الجنسيات للإعلام الصهيوني؛ سببها واضح ومعروف وهو رفضهم الاحتلال، وما يفعله ذلك الاحتلال بأراضي فلسطين والفلسطينيين من تدمير وتنكيل واعتداءات ممنهجة، فإذا حصل الفلسطينيون على حقوقهم العادلة في أرضهم ودولتهم، فوقتها ستتغير المعادلة. هذا ما يجب التركيز عليه، لتفويت الفرصة على الصهاينة في استخدام ما حدث في المونديال، ضد العرب والمسلمين، وإلحاق مزيد من الضرر بالقضية الفلسطينية.

الندية أساس للاحترام المتبادل

درس آخر مهم من دروس مونديال قطر، هو فكرة أن الدعوة إلى التعايش بين الحضارات والثقافات والديانات المختلفة، لا تعني التنازل عن القيم والأخلاقيات والثوابت، وإلا فستتحول هذه الدعوات إلى دعوات للخضوع  والخنوع، لا تمت بصلة إلى التعايش والاحترام المتبادل، وكان من أوضح الأمثلة على ذلك قضية محاولة فرض مظاهر “المثلية الجنسية”. فقد أعلنت قطر بصفتها الدولة المستضيفة والمنظمة للمونديال، أنها لن تمنع أحدا من الحضور والاستمتاع بذلك العرس الكروي العالمي، ولكنها لن تقبل الممارسات الدعائية الفجة للمثليين. ولأني أعيش في الغرب منذ سنوات ليست بالقليلة، فأنا أعرف مدى تأثير لوبي المثليين وجماعات الضغط التي تدعهم في إسكات الأصوات الناقدة لهم، ولكن قطر نجحت في إدارة ذلك الملف باقتدار، بما لا يتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان التي يتشدق بها هؤلاء والمدافعون عنهم، من أجل فرض رؤيتهم.

وبذلك رسخت قطر لمبدأ الندية في التعامل بوصفه أساسا وشرطا للاحترام المتبادل، ووضعت الغرب في اختبار حقيقي، حول ما يدعو إليه من أفكار التعايش واحترام الآخر، وفرضت على هؤلاء المثليين ومن يدعمهم احترام المعتقدات الدينية والثقافية للدولة والمجتمع المضيف، وأوضحت أن قطر والمجتمع القطري لن يسمحا لهذه النسخة من المونديال بأن تكون منصة ومناسبة للترويج للمثلية، وأن استضافة قطر للمونديال لن يكون ثمنها التنارل عن مبادئها الدينية والأخلاقية، وبالفعل منع الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) 7 من المنتخبات الأوربية الداعمة للمثليين من إظهار الدعم لهؤلاء عبر ارتداء الشارة الخاصة بهم، بالإضافة إلى المشجعين كذلك.

معركة أخرى أدارتها قطر باقتدار، وهي منع شرب الكحول في المدرجات، وهو الأمر الذي حاول المغرضون والمحرضون استخدامه، في حملاتهم الشعواء الممنهجة ضد تنظيم قطر للمونديال. ولكن جاء الرد إيجابيا من الجماهير -خصوصا النساء- اللواتي أعربن عن مدى سعادتهن بمنع الكحول في المدرجات، وكيف وفّر ذلك لهن بيئة آمنة خالية من التحرش والمضايقات، التي كان عليهن دومًا الاستعداد لمواجهتها خلال المباريات، نتيجة لشرب المشجعين للكحول في المدرجات.

وهو الأمر الذي دفع رئيس الشرطة البريطانية إلى القول إنه “لأول مرة يعود المشجعون الإنجليز من بطولة كبيرة لكرة القدم، دون صدامات أو إلقاء القبض عليهم”. وقد بدأ كثير من الأصوات في الغرب الدعوة إلى تطبيق سياسة قطر في منع الكحول بالمدرجات، وبشكل عام اتفق النساء والرجال على أن قرار منع الكحول وفّر لهم تجربة فريدة للاستمتاع بالمباريات، داخل الملاعب وخارجها، ووفر لهم بيئة آمنة؛ وبذلك تكون قطر أثبتت مرة أخرى قدرتها على فرض مبدأ الاحترام المتبادل المبني على الندية لا الخضوع.

الرجوع إلى الحق

تعرضت قطر لحملات شعواء ممنهجة قبل انطلاق المونديال، استخدمت فيها الكثير من الأوراق والملفات (من حقوق العمال، إلى ملف المثليين، ثم منع الكحول)، وكان الرد القطري عليها جميعًا هادئًا واحترافيًّا، من منطلق أن الفعل أعلى صوتًا من الكلمات، وأثبتت قطر صحة وجهة نظرها بالدليل والبرهان والتجربة العملية في كل ذلك، مما دفع الأصوات التي كانت تنبح إلى التراجع تحت وطأة النجاح الذي حققته قطر في تنظيم ذلك المونديال، وجعله مناسبة وحدثا عالميا للتلاقي والتعارف بين الشعوب، وليس مكنا لنظريات صدام الحضارات والثقافات، فاستطاعت قطر طمأنة العالم ودحض نظريات “الإسلاموفوبيا/ العربفوبيا” التي جرى ترويجها في العالم وفي الغرب بشكل خاص منذ عقود، خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ورأينا الشهادات بتجربة قطر الفريدة في تنظيم المونديال، تنهال من رؤساء وزعماء الغرب ممن سبق أن هاجمت بلدانهم قطر، وكان على رأس هؤلاء المستشار الألماني الذي كان لبلاده دور كبير في الحملة الممنهجة ضد مونديال قطر، ورئيس الوزراء البريطاني، الذي منعت هيئة النقل في لندن وضع إعلانات مونديال قطر على وسائل النقل المختلفة في عاصمة بلاده، وكذلك الرئيس الفرنسي الذي سبق أن اتخذت بلدية باريس وبلديات أخرى في بلاده قرارا بمنع الشاشات في الأماكن العامة لمشاهدة مونديال قطر، ولكن في النهاية يمكننا القول بالرغم من كل تلك السخافات والحملات الممنهجة، جات شهادة هؤلاء نوعا من الاعتراف بالحق.

الخلاصة

نجحت قطر والشعب القطري، من خلال استضافة هذا المونديال، في تحقيق الكثير من الأهداف والإنجازات، على المستوى العربي الإسلامي والعالمي، فعلى المستوى العربي الإسلامي، نجحت قطر في إحياء فكرة الترابط واللُّحمة، بعد أن اعتقد كثير من المخربين أن هذه الروح ذبلت ولم تعد موجودة، وخير نموذج لذلك التفاف الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج حول القضية الفلسطينية.

على المستوى العالمي، نجحت قطر في فضح الدعاية المغرضة حول الشخصية العربية والإسلامية، ودحض الإسلاموفوبيا/ العربفوبيا، التي تعمل بعض الجهات على نشرها في الغرب ليلًا ونهارًا، فرأينا قطر فتحت مساجدها للناس للتعريف بالإسلام، وفتح القطريون بيوتهم ومجالسهم لمختلف الجنسيات، ليتعرفوا عليهم عن قرب، ورأينا فرحة الناس من مختلف دول العالم، بتجربة ارتداء الزي العربي، حتى صار الثوب والعقال والغترة، الزي المفضل لكثير من المشجعين الأجانب، خلال وجودهم في قطر، وكذلك شاهدنا المشجعات الأجنبيات يقبلن بشكل كبير على تجربة ارتداء الزي القطري التقليدي بما فيه الحجاب.

ولذا يجب الاستثمار في هذه الحالة من “الصحوة الإنسانية” التي شهدها مونديال قطر، من خلال إنشاء مؤسسة دولية باسم “سفراء مونديال قطر” -تمثل نوعا من “القوة الناعمة”- تضم عددا كبير من المشجعين من مختلف دول العالم، الذين عاشوا التجربة واكتشفوا الحقيقة والمعنى الحقيقي للتعايش بين العرب/ المسلمين وبين الجميع بأنفسهم، لتنظيم أنشطة ثقافية في بلدانهم، من أجل ترسيخ تلك الصحوة الإنسانية، والقضاء على المفاهيم المغلوطة التي يعمل المخربون على ترسيخها في عقول الناس بالعالم ليلًا ونهارًا.

المصدر : الجزيرة مباشر