نوادر آل شاكر (3/3).. بين طه حسين وجمال عبد الناصر

 

الضلع الثالث في المثلث الذهبي لآل شاكر، هو العلّامة الأديب محمود محمد شاكر الذي عُرف بشيخ العربية وحامل لوائها والمحامي عن تراثها، وُلِد في الإسكندرية في ليلة العاشر من المحرّم سنة 1327هـ الموافق 1 فبراير/شباط 1909م، أي في العام نفسه الذي عُيّن فيه والده الشيخ محمد شاكر وكيلا للجامع الأزهر.

تلقى مراحل تعليمه الأولى في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916، وانخرط في التعليم المدني على خلاف السائد في أسرته الأزهرية، وكان الاهتمام بتعليم الإنجليزية واضحا وقتها في ظل الاحتلال البريطاني لمصر، وكانت دراسة من نوع جديد، استهوت الطالب محمود شاكر فتعلّم الإنجليزية وأتقنها، ونظرا لطبيعة عمل والده كان يقضي أوقاتا كبيرة في الجامع الأزهر، تعرّف فيها على الشعر العربي وعلوم البلاغة وأدب اللغة، حتى إنه حفظ ديوان المتنبي كاملا في تلك الفترة، وفي سنة 1921 دخل المدرسة الخديوية الثانوية والتحق بالقسم العلمي لتعلّقه بدراسة الرياضيات، وبعد اجتياز الثانوية تكونت ذائقته الأدبية، وعلى الرغم من حبه للرياضيات وإجادته للإنجليزية، فقد قرر أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية، لكن القوانين لا تسمح بذلك لأنه متخرج من القسم العلمي، وكانت علاقة د. طه حسين قد توطدت بالشيخ محمد شاكر بعد واقعة تكفير خطيب الخديوي التي مرت في مقال سابق، وأثناء زيارته للشيخ شاكر الأب، تعرّف على نبوغ ابنه محمود شاكر وأدرك حاسته اللغوية، فشفع له عند أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك، الذي كانت تربطه به علاقة قوية، وتحقق لمحمود شاكر ما يريد والتحق بكلية الآداب سنة 1926 وكان من أعلامها يومئذ د. طه حسين، وفي 13 مارس/آذار 1926 كان محمود شاكر ينصت لمحاضرة أستاذه طه حسين عن نظرته إلى الشعر الجاهلي، التي أودعها كتابا بالعنوان نفسه وأثار ضجة كبرى، حيث شكك في صحة نسبة هذا الشعر إلى ذاك العصر، مؤكدا أنّ الشعر الجاهلي منحول، أي كُتب بعد ظهور الإسلام، فاعترض الطالب محمود شاكر على طرح أستاذه، وأن هذا لا يتفق مع مسلمات العقل أو تسلسل التاريخ والأحداث، ثم فجّر مفاجأة مدوية وهي أن المنحول هو رأي الدكتور طه، وليس ديوان العرب، وأن كلامه هو فكرة مارجليوث المستشرق اليهودي الإنجليزي، التي نُشرت في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية بعنوان “الشعر الجاهلي”، ولم يكن معروفا وقتئذ بين طلاب اللغة العربية من يجيد الإنجليزية ويتابع مجلاتها، وأنكر د. طه حسين تلك السرقة الأدبية، معللا ذلك بتوارد الخواطر، واحتدم النقاش بينه وبين تلميذه، حتى كان يستدعيه إلى مكتبه لإتمام النقاش، وظهرت صلابة محمود شاكر في التمسك بالحق والدعوة إلى الاعتراف بالخطأ، بأن كتاب الشعر الجاهلي هو شرح لحاشية مارجليوث خلا من الإشارة إلى صاحب المتن، وتهرّب د. طه حسين من الاعتراف بذلك، فسقطت فكرة الجامعة والدراسة فيها من عين الطالب محمود شاكر وقرر ترك الكلية، حاول د. طه أن يثنيه عن ذلك بكل وسيلة، وبلغ من حرصه عليه أن عرض أن تمر السنة الثالثة دون امتحانات، لأن محمود شاكر سيكتب في الامتحان ما قاله على الملأ في المحاضرات، وإن كان موقفه هذا من النوادر في تاريخ الجامعات، ومَثَّل بداية ظهور هذا العملاق، إلا أننا أمام زاوية أخرى عجيبة تكمن في نبل الخصومة عند طه حسين، ودرجة من سعة الصدر قلما تجدها مع مخالف، لا سيما وأن التلميذ نسبه علانية إلى السرقة، إذ إن الشأن في مثل هذه الحالة، التفكير في التخلص من المخالف والتنكيل به، وتكرر الصدام نفسه على الميدان ذاته وبالأدوات نفسها، عندما صدر كتاب الأستاذ محمود شاكر عن المتنبي عام 1936، ثم كتب د. طه حسين (مع المتنبي) عام 1938، وعلى الرغم من أن طه حسين نقد في كتابه محمود شاكر، لكن ظهر في ثنايا كتابه سيره على طريقته، لذا هاجم شاكر ما كتبه طه حسين في 13 مقالة بجريدة (البلاغ) تحت عنوان (بيني وبين طه) اتهمه فيها بأنه سطا على أفكاره ونسج على منواله، وقال: “إن كتاب طه حسين محشو بأشياء كثيرة تدل دلالة قاطعة على أن الدكتور طه لم يسلك هذا الطريق الجديد على كتبه في كتاب المتنبي، إلا بعد أن قرأ كتابي”.

واستمرت العلاقة

ومع ذلك استمرت العلاقة الشخصية بين الرجلين في إطار الاحترام والتقدير، ومن نوادر كتاب شاكر عن المتنبي أنه كتبه في السادسة والعشرين من عمره، وخالف فيه طريقة من سبقه في الكتابة عن أبي الطيب، ومقدمة الكتاب حملت عنوان (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، نُشرت مستقلة بعد ذلك، وكُتب لها الذيوع والقبول حتى قيل: هي كمقدمة ابن خلدون.

وكان هذا الكتاب في بادئ الأمر عبارة عن مقدمة لكتابه (المتنبي) الذي كتبه بطلب من رئيس تحرير مجلة المقتطف الأستاذ فؤاد صروف الذي أراد رسالة صغيرة عن المتنبي، فعكف شاكر وأخرج في فترة وجيزة هذا الكتاب الماتع ومقدمته الفريدة.

وحصل العلّامة محمود شاكر على جائزة الملك فيصل العالمية للأدب عام 1984 عن كتابه المتنبي، وقال عنها: هي أفضل عندي من جائزة نوبل، لأنها تقدير لي من أبناء ديني ولغتي وانتمائي، والجميل أن الكتاب الذي رشحني لنيل هذه الجائزة كان كتاب “المتنبي” الذي كتبته وأنا في السادسة والعشرين من عمري عام 1935، إلا أن التقدير الأولى لي هو أن الله هداني مبكرا لأدرك دوري، ووضعني على الطريق الصحيح الذي أخدم به ديني ولغتي وأمتي، ولذلك فأنا أعتبر أن كل يوم مرّ من عمري هو تقدير متجدد لي، يهتف بي دائما “سر إلى الأمام.. فأنت على حق”.

والتزام العلّامة محمود شاكر بقول الحق وطريقه كلفه الكثير، بداية من ترك الجامعة، وصولا إلى الاعتقال مرتين في عهد جمال عبد الناصر، أولاهما في 1959، حيث لبث في السجن تسعة أشهر، والسبب مكالمة تليفونية مع الأديب الكبير يحيى حقي، يروي تفاصيلها فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري في مذكراته بوصفه شاهدا عليها، حيث يقول: إن حقي أخذ يشكو في التليفون لشاكر من نقله إلى موقع لا يناسبه في وزارة الثقافة التي كان يعمل فيها، فقام شاكر تضامنا مع صديقه بإطلاق شتيمة قبيحة في حق عبد الناصر وضباط يوليو. ومع أن الباقوري وقتها كان يصلي، ولم يشارك في الحوار إلا أن عبد الناصر حبسه في بيته مدة طويلة، ولم يسمح له بصلاة الجمعة.

الاعتقال الثاني

واعتُقل الأستاذ محمود شاكر للمرة الثانية عام 1965، بعد نشر د. لويس عوض -المستشار الثقافي لجريدة الأهرام حينذاك- سنة 1964 مجموعة مقالات في الصحيفة بعنوان (على هامش الغفران) ذهب فيها إلى تأثر أبي العلاء المعري بالأدب اليوناني، كما ألمح إلى أثر الأساطير اليونانية على الأحاديث النبوية، فعاد شاكر إلى الكتابة بعد عزلة كان فرضها على نفسه، لبيان خطأ وتهافت لويس عوض ومنهجه، ثم تحدّث عن الفكر والثقافة العربية والإسلامية وما طرأ عليهما من غزو فكري غربي، وجُمعت هذه المقالات ونُشرت في كتابه المشهور (أباطيل وأسمار) الذي لم يكن مجرد كتاب، بل مثّل حدثا ثقافيا مدويا في حينه واستمر تأثيره، وكشف عن جانب جديد من جوانب العظمة في شخصية الأستاذ شاكر وقدرته الباهرة على المناظرة وإقامة الحجة، ومع ذلك كتبه بلغة بالغة الإتقان محبوكة السبك، وفي قمة البيان العربي، لكن ضباط الأمن اعتبروا ردود شاكر تخدم جماعة الإخوان المسلمين فاعتقلوه.

وعلى عادة العلماء في وضع بعض الكتب الأثيرة إلى جوار الأسرّة، سألت الشيخ المحدّث أبا إسحاق الحويني -وهو من أشد المتيمين بأبي فهر وكتاباته- عن كتاب (أباطيل وأسمار) فقال: هو أقرب الكتب إلى يدي، ودائما إلى جوار سريري حيث كنت.

ومن نوادر العلّامة محمود شاكر أنه جمع إلى الذائقة الأدبية العالية، والتبحر في علوم اللغة وآدابها، نَفَسا سلفيا في التحقيق والتأليف، مع ولاء كبير للأزهر الشريف، معتبرا أن العدوان عليه أولى محطات الحرب على اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وأن محمد علي باشا تولى كبر ذلك وعليه وزره، فقال: “محمد علي، ذلك الجاهل الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم قط أو يتهذب، ولكنه سعى بكل حيلة لتحطيم الأزهر -مركز الثقافة المتكاملة على مدى قرون متطاولة- وأسقط هيبته وعزل شيوخه عن جمهور الأمة، ومن يومها ذهبت الثقافة المتكاملة أدراج الرياح”.

وكل من أتى بعد محمد علي معتبرا أنه باني مصر الحديثة، سلك المسلك نفسه واعتمد الطريقة ذاتها، لا سيما أخلافه من العساكر.. ورحم الله آل شاكر.

المصدر : الجزيرة مباشر