أنماط الأسرة الحديثة في عصر العولمة

 

لم تعد الأسرة “التقليدية” التي نعرفها هي الشكل الوحيد لنمط الأسرة في العصر الحديث، وإن كانت -من وجهة نظرنا- هي الشكل الأكمل والأمثل للأسرة من حيث محافظتها على بنية المجتمع المتماسك والقوي الذي بإمكانه أيضًا أن يقوم بدولة قوية قادرة على مواجهة التحديات الخارجية بكل ثبات.

الأسرة الصغيرة “نواة المجتمع الحديث” التي تتألف من الوالدين والأبناء قضت بالتدريج على نمط الأسرة الكبيرة التي تتألف من الأجداد والأبناء والأحفاد والعمات والخالات أحيانًا مع أزواجهن، يعيش الجميع تحت سقف واحد في نظام يشبه نظام الدولة التي يرأسها حاكم، ويتميز فيها بعض الأفراد في تسيير شؤونها عن البعض الآخر.

هذه الأسرة الصغيرة التي انفصلت تدريجيًّا عن الأسرة الكبيرة بسبب طبيعة التغير المجتمعي في القرن الماضي، زاحمتها أنماط حديثة كادت “في الغرب” أن تتوازى مع النمط المعتاد، لكنها ما زالت دخيلة على مجتمعاتنا، وإن كان الخطر قريبًا جدًّا. فالحب الذي اتخذ أشكالًا حديثة بسبب التطور التكنولوجي الذي اكتسح عالمنا وقضى على الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، انقسم إلى ما يسميه الباحثون في أوربا “الحب النائي” الذي توفره مواقع التواصل عبر الإنترنت، يقابله “الحب الداني” المتعارَف عليه في مجتمعاتنا.

لقد أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في توفير أنماط لقاء بين البشر متجاوزة المسافات والجغرافيا واللغة والزمن، وأهم تلك المواقع تطبيق “سكايب”.

الشرارة التي أشعلت موقع التواصل “سكايب”

يرجع الفضل في انتشار “سكايب” -وسيلة تواصل اجتماعي مجاني بالصوت والصورة- إلى شركة مايكروسفت التي اشترت التطبيق عام 2010 وأتاحته للمستخدمين، حيث استخدمه أكثر من 660 مليون شخص. لكن الشرارة التي أشعلت تطبيق سكايب هي قصة الملاكم الأوكراني “فلاديمير كلتشكو”، فقد تداولت الصحف في ذلك العام انفصال الملاكم الذي يعيش في هامبورغ عن زوجته الفنانة “هايدن بانيتير” التي تعيش في لوس أنجلوس.

أرجع البعض سبب الانفصال إلى التباين الكبير في السن والشكل بينهما، فقد كان الملاكم (35 عامًا) يبلغ طوله نحو مترين ووزنه 110 كيلوغرامات، بينما كانت هايدن (21 عامًا) يبلغ طولها 155 سنتيمترًا ووزنها 50 كيلوغرامًا. لكن هايدن صرّحت لإحدى الصحف أنّ السبب الحقيقي للانفصال هو البعد الجغرافي، بقولها “عندما تفصل مسافة جغرافية بين حبيبين يصعب استمرار الحب بينهما”. قام أحد الصحفيين بانتقاد هايدن بعد هذا التصريح بشكل لاذع ومستفز، بقوله “أعزائي، إن كنتم ترون أنّ الحب النائي صعب المنال، فكيف تفسرون إمكانية استمرار الحب الداني بين شريكين يعيشان معًا عن قرب، ويتعاركان باستمرار، مع هذا يستمر زواجهما أعوامًا طويلة؟”. على إثر التنمر الذي حدث للفنانة هايدن، قامت شركة مايكروسفت بتلك الخطوة التي أتاحت للمستخدمين تواصلًا حميمًا عن قرب.

ويبدو أنّ مايكروسفت كانت تؤمن بمستقبل ما يسمى “الحب النائي”، حتّى اشترت هذه الخدمة التي تُعَد أغلى ثمنًا في تاريخ الشركات، إذ دفعت ثمن التطبيق 8 مليارات و500 مليون دولار.

العلاقات التراجيدية عبر “سكايب”

لقد أتاح هذا التطبيق المجال لظهور علاقات مختلفة عن العلاقات التقليدية المعروفة كنظام اجتماعي عشناه قرونًا طويلة قبل “العولمة”، فقد نشأت علاقات بين أفراد ينتمون إلى بلاد أو قارات مختلفة. في هذا العالم الذي نعاصره، أصبح هناك أسرة غير تقليدية تنتمي إلى ثقافات متعددة، أفرادها هاجروا من بلدانهم، ويحملون جواز سفر مختلفًا، ولهم لغة مختلفة، وماضٍ مختلف، ويعيشون في مجتمع جديد يختلف في نظمه السياسية والقانونية.

قبل الإنترنت، اقتصرت تلك النماذج على المهاجرين، وبعده صارت أكثر انتشارًا خاصة بعد الربيع العربي وحركة النزوح باتجاه الغرب التي اضطرت اللاجئين إلى الدخول في دورات الاندماج مع المجتمعات الجديدة، بالإضافة إلى خضوعهم لقوانين تتعارض وتتناقض مع ما نشأوا عليه من أخلاقيات وعادات، مما أدى إلى ظهور مشاكل وقصص مأساوية، أكثرها قسوة فصل الأبناء عن آبائهم بسبب طريقة التربية، وانتشار حالات الطلاق، بالإضافة إلى الجرائم الزوجية التي سببتها الحرية التي نالتها المرأة في ظل القوانين الجديدة للبلد المضيف. ولقد انتشرت مؤخرًا قصة فتاة سورية مخطوبة لشابين “عبر سكايب” يرسلان إليها أموالًا ومساعدات، وأحدهما هيّأ لها أوراق لم الشمل بعد إجراءات الزواج عن بُعد. وشت بها صديقتها لـ”يوتيوبر” سوري يصنع مقالب للناس عن طريق الهاتف مدعيًا أنّه من الأمن. اتصل بها وهدّدها بالفضيحة والاعتقال، ونشر ذلك على حسابه في “تيك توك”، مما أدّى إلى انتحار الفتاة بعد أن أصبحت “ترند” على مواقع التواصل!

بين الغرب والشرق

قد يكون الشرق ما زال محافظًا على نمط الأسرة الواحد في مدنه، لكنّ المهاجرين منه الذين يعيشون حاليًا في أوربا وأمريكا، خاصة الذين اندمجوا في الحياة الجديدة، لا شكّ صاروا يعرفون تلك الأنماط ويعيشونها.

لم تعد صور الحب واحدة، وكذلك الزواج، إذ صار هناك أنماط متعددة للأسرة “المثليون/ الخليل المؤقت/ الخليلان المنعزلان الذين تفصلهما المسافات”، وهذا الانتشار في أوربا لا يعني عدم وجود هذه الأنماط في مجتمعنا، لكنها ما زالت في الخفاء لم يُعترف بها رسميًّا، فلا يمكن في قوانين بلادنا وأخلاقياتها السماح بزواج المثليين، لكنّ المجتمع يعرف أنّ الظاهرة موجودة، كما لا يقبل بوجود علاقات مؤقتة، لكنّها أيضًا موجودة. أمّا بالنسبة للعلاقة “النائية” -التواصل عن بُعد- فهي الأكثر انتشارًا، وإن لم تكن هناك إحصاءات تدل على وجودها، لأنّها أكثر العلاقات سريّة، وانتشارها مرهون بإعلان من الأشخاص الذين يقيمون تلك العلاقات شخصيًّا، ويبدو أنّ علينا قرع ناقوس الخطر، والانتباه جيدًا للحفرة التي نسير إليها بلا مبالاة، خاصة مع استمرار سياسة التجهيل والإفقار.

المصدر : الجزيرة مباشر