كيف نجحت قطر في توصيل رسالتها للعالم؟

غانم المفتاح والفنان العالمي مورغان فريمان

مما لا شك فيه أن دولة قطر استطاعت من خلال تنظيمها مونديال 2022 تقديم رسائل عديدة لكل دول العالم؛ لمحبيها وكارهيها، وحرصت أن تردّ على العنصرية البغيضة التي واجهتها طوال الأشهر الأخيرة السابقة على تنظيم المسابقة؛ بل طوال الـ 12 عاما الأخيرة منذ أن نالت شرف تنظيمه.

شخصيا، ليس لديّ اهتمامات كروية واسعة؛ ولكن تابعت باهتمام كبير في الأشهر الماضية الاستعدادات القطرية لتنظيم البطولة، وفي الوقت نفسه الهجوم الشديد الذي تتعرّض له الدوحة من الغرب، وبعض الدول الإقليمية، فالدول الغربية كانت تستهين بقطر منذ أن نالت شرف تنظيم المونديال، وسخِروا منها، وقالوا “إن تنظيم قطر للمونديال أشبه بتنظيم دورة للكرة الشاطئية في القارة القطبية”.

ثم جاءت اعتراضاتهم على منعِ الخمورِ في الملاعب، وارتداءِ إشارات التضامن مع المثليين، حيث أرادوا فرض ثقافتهم على عادات وثقافة الشعوب العربية والإسلامية، وهو ما رفضته قطر، وتمكنت -بفضل قوتها الناعمة- من تحقيق ما أرادت؛ بل استطاعت تغيير مواعيد افتتاح البطولة من شهري مايو ويونيو إلى نوفمبر وديسمبر؛ لتلائم ظروف الطقس في البلاد، ولا تؤثر على عدد المتفرجين واستمتاعهم، وغيّرت موعد الافتتاح ليكون مساءً وليس عصرا كما هو معمول به في السابق.

ضغوط فاشلة

لم تفلح الضغوط على قطر في إثنائها عن هدفها في تنظيم بطولة استثنائية، من حيث الملاعب، والأجواء الاحتفالية، وأسلوب التنظيم، واستقبال المشاهدين من جميع أنحاء العالم في بطولة تُقام لأول مرة في بلد عربي وإسلامي، نجحت من خلالها في فرض ثقافتنا العربية والإسلامية في كل شيء متعلق بالبطولة دون عنتريات أو مزايدات.

ووُفِّقت أيضا أن ترسل رسائل عديدة؛ منها أنه لا بد من فرض قيمنا الحقيقية عليهم، كما يفرضون قيمهم الباطلة علينا، وأن هناك ثقافة مختلفة هنا، ولم يكن خطأ المراسل الصحفي الفرنسي لقناة CNEWS على الهواء مباشرة إلا تأكيدا على النظرة العنصرية تجاه قطر والدول الإسلامية، حيث قال وهو ينقل أولى انطباعاته بعد وصوله للدوحة في أسلوب ساخر: “عندهم مساجد كثيرة هنا..”، ويضحك المذيع، فينبّهه آخر قائلا “نحن على الهواء”.

وفي حفل الافتتاح كانت قطر عند مستوى الحدث، فقدمت افتتاحا أسطوريا في نصف ساعة أبهر العالم، عبرت فيه عن الثقافة الإسلامية والعربية في أبهى صورة، مستخدمة التكنولوجيا والبساطة في آن واحد، لتمرر من خلال هذه الاحتفالية كل الرسائل التي أرادتها بصورة سهلة وسلِسة من خلال الإبهار، ولقاء الشاب القطري غانم المفتاح، والفنان العالمي مورغان فريمان، ليبدأ الشاب القطري كلامه بقوله تعالى: (يا أيها النّاس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارَفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).

غانم المفتاح.. الرمزية والدلالة

جاء اختيار الشاب القطري غانم المفتاح من ذوي الهمم؛ بسبب إعاقته الناتجة عن ولادته بنصف جسد، وهي رسالة كبيرة أيضًا عكس ما يراه آخرون أنه اختيار خطأ؛ بل منتهى التقدير والاختيار الصحيح، فهو عاجز، ومورغان أيضا لديه عجز في يده اليسرى، وكان يرتدي قفازا طبيا فيها، وهو أمريكي من أصول أفريقية، فكلاهما يكمل الآخر، ويرسلان معا رسالة للعالم للتكامل والتكافل والتعايش باختلاف الثقافات والأديان.

كما أن مَن انتقدوا الدلالة والرمزية لظهور غانم المفتاح غاب عنهم سجل قطر في رعاية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ونشاطها، فهناك دولة كاملة تقف وراءهم، وليست مجرد أسرة داعمة فقط، كما أن قطر على الموقع الرسمي لكأس العالم صنّفت البطولة بأنها ستكون “النسخة الأكثر ملاءمة للأشخاص ذوي الإعاقة” في التاريخ، وفي ديسمبر 2019 (وديسمبر شهر ذوي الهمم) عقدت قطر مؤتمرا دوليا بعنوان “مؤتمر الدوحة الدولي للإعاقة والتنمية”، تعهدت فيه بإشراك ذوي الإعاقة، ودمجهم في رؤية 2030 والمشروعات التنموية؛ لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، فقدمت قطر نفسها كأكثر دولة خصصت نسبة تمثيل لذوي الإعاقة في العالم.

ومن المعلومات التي لم تُذكر أن رئيس دولة الأكوادور السادس والأربعين لينين مورينو، كان من الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، وحكم الإكوادور على كرسي متحرك، وانتخبه شعبه وشارك في هذا المؤتمر، ومَن تابع سجل قطر في الإعلام والرياضة منافِسة مستخدمةً للقوى الناعمة لم يتابع ويسمع نشاطها في رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة.

لنا ثقافتنا.. ولكم ثقافتكم

جاءت الرسالة الأخرى من خلال الكرم العربي بتوزيع هدايا للمشاهدين، ومنها العود العربي، وأشياء أخرى ثمينة، وهي رسالة للمشاهدين أنكم مرحّب بكم في الدوحة، وعلى أرضها من خلال هذه الضيافة.

ولم تغب القضية الفلسطينية عن الجماهير العربية والإسلامية، فقد ارتدوا العَلم الفلسطيني على سواعدهم، وحملوه في أيديهم؛ لكي تصل رسالتهم للعالم في ظل بطولة يشاهدها المليارات على مستوى العالم.

لم تعد الكرة عند الغرب مجرد لعبة للتسلية؛ بل هي من صميم السياسة عندهم، لتمرير أفكارهم وثقافتهم التي تتنافَى مع شريعة الله. ومَن يحترم قيمنا وثقافتنا، وهويتنا العربية والإسلامية، فمرحبا به على أراضينا، ومَن يرفض لا يضع يده على فمه؛ بل يشرب من البحر الميت!

ففي مونديال روسيا 2018 كان توزّع 3 نسخ من الإنجيل بلغات مختلفة في الملاعب، ولم نقل إنه ترويج للمسيحية، فلا تجبرني على الترويج للشذوذ الذي تحرّمه جميع الأديان، ولا تفرض ثقافتك علينا، فلنا ثقافتنا ولكم ثقافتكم.

المسألة أن هناك فرصة لتغيير صورة سلبية عن العرب الذين يذهبون فقط لإنفاق أموال النفط بسفه، وتقديم جانب أخلاقي تفتقده الحضارة الإنسانية، وتحتاج إليه بشدة قبل أن تتسبب في فناء ذاتها، واستطاعت قطر بكل سهولة أن تفعل ذلك.

المصدر : الجزيرة مباشر