تفجير تقسيم.. هل حان وقت الحساب؟

متظاهرون أكراد يرقصون وهم يحملون علمًا بصورة عبد الله أوجلان في فرانكفورت

 

في تغريدة على تويتر، أعلنت وزارة الدفاع التركية تنفيذ غارات جوية أُطلِق عليها عملية “المخلب-السيف” شملت مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) وديريك وسنجار في شمالي سوريا وشمالي العراق.

الغارات استهدفت -كما ذكرت الوزارة- قواعد كانت تستخدمها التنظيمات الإرهابية في مهاجمة تركيا، كما أكدت الوزارة في إحدى هذه التغريدات أن هذا هو “وقت الحساب”.

الغارات الجوية التركية على شمالي العراق مستمرة منذ أشهر طويلة، لكن الجديد هذه المرة هو استهداف الطائرات الحربية للشمال السوري، في عملية كانت متوقعة منذ مدة طويلة، لكن جاء تفجير تقسيم الإرهابي الذي أودى بحياة 6 مدنيين، إضافة إلى عشرات الجرحي، ليعجل بالعملية.

فالأمن التركي لم يحتج أكثر من 10 ساعات ليميط اللثام عن منفذي التفجير الإرهابي الذي ضرب شارع الاستقلال، الأكثر شهرة، في منطقة تقسيم وسط إسطنبول.

الوصول إلى “أحلام البشير” المرأة التي تحمل الجنسية السورية، والتي وضعت العبوة الناسفة أسفل أحد المقاعد بالشارع، كان بداية الخيط الذي قاد أجهزة الأمن إلى تفكيك الشبكة التي تقف خلف التفجير، والتي اتضح أن الأسماء المعلنة حتى الآن تحمل الجنسية السورية وتنتمي عرقيا إلى أكراد سوريا، أما تنظيميا فهي جزء من تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) من خلال فروعه السورية، إما وحدات الحماية الكردية (YPG) أو قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

كما اتضح أن منفذة التفجير تلقت تدريبا أمنيا استخباراتيا في مدينة عين العرب “كوباني”، وأيضا أقامت فترة في مدينة “منبج” حيث تدربت هناك على يد التنظيم الذي يسيطر على المدينة، كما كشفت التحقيقات أن المؤامرة كانت تدار بأكملها من مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا.

أيضا أعلنت أجهزة الأمن التركية تحديد أحد المشتبَه بهم ويدعى “حسام”، واعتقاله من مدينة أعزاز شمالي سوريا.

وإذا علمنا أن المدن الثلاث -عين العرب ومنبج والقامشلي- يسيطر عليها التنظيم، كما أنها مشمولة بحماية القوات الأمريكية، لأدركنا سبب رفض وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، تعزية السفارة الأمريكية في أنقرة، إذ اعتبرها جزءا لا يتجزأ من العمل الإرهابي.

هذه الحقائق التي تكشفت حتى الآن، أعطت التفجير الإرهابي هذه المرة أبعادا أمنية جديدة، وذلك بدخول الفرع السوري لحزب العمال على خط المواجهة، فما الذي يعنيه ذلك؟

قبلها دعونا نذكّر كيف بدأت القصة في شمالي سوريا، من خلال استغلال الثورة السورية وتجييرها لصالح المخطط الأمريكي

داعش مفتاح التأسيس لدولة انفصالية

يُعَد عام 2013 بداية الإطاحة بالثورات الشعبية العفوية التي شهدتها المنطقة العربية، وعُرفت باسم “الربيع العربي”، لكن سبل المواجهة اختلفت من بلد إلى آخر.

في سوريا، كان تنظيم داعش الأداة التي استُخدمت للسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي شمالي سوريا وصولا إلى مدينة الموصل العراقية، وكان لافتا السرعة التي سيطر بها التنظيم على تلك المساحات الشاسعة، كما تمكن التنظيم من دخول مدن كان يسيطر عليها تنظيم حزب العمال مثل عين العرب “كوباني” التي أحدث سقوطها بيد التنظيم في أواخر 2014 رد فعل كبيرا داخل تركيا، حيث دعا الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش أنصاره إلى التظاهر في المدن التركية التي تحولت إلى احتجاجات عنيفة خلفت عشرات القتلى وخسائر مادية كبيرة.

هنا يجب التذكير بالدعم المادي الهائل الذي تلقاه تنظيم داعش من جهات غربية مثل شركة الأسمنت الفرنسية “لافارج” وبمعرفة المخابرات الفرنسية، التي أدينت مؤخرا أمام القضاء الفرنسي.

عقب سيطرة داعش وتأسيس ما عُرف بـ”الخلافة الإسلامية”، بدأت الولايات المتحدة بتنفيذ الخطوة التالية بتأسيس ما عُرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية” بزعم محاربة داعش، حيث سيطرت وحدات الحماية الكردية المرتبطة بحزب العمال على التنظيم وتولى رئاسته فرهاد عبدي شاهين المعروف باسم “عبدي مظلوم” أو “شاهين جيلو”، وعبدي ارتبط تنظيميا بحزب العمال وكان مقرّبا من عبد الله أوجلان زعيم الحزب المسجون حاليا في تركيا.

كما خصصت الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارا باسم “قسد” ما يقرب من ملياري دولار سنويا تتضمن مساعدات عسكرية تشمل معدات وآليات وتدريبات وتجهيزات بزعم محاربة الإرهاب، حيث شرعت في تسليم المدن التي كان يتم طرد تنظيم داعش منها إلى قوات سوريا الديمقراطية، أو بالأحرى إلى تنظيم حزب العمال المصنف إرهابيا!!، تمهيدا للخطوة التالية الأهم والأخطر، وهي إعلان دولة انفصالية “كردية” شمالي سوريا من الحسكة شرقا إلى البحر المتوسط غربا.

ولولا فشل محاولة الانقلاب العسكري في تركيا ليلة 15 يوليو/تموز 2016 لكانت هذه الدويلة حقيقة واقعية الآن!!

لذا سارعت تركيا بتحريك قواتها في أغسطس/آب 2016 لطرد تنظيم داعش من مدينة الباب بريف حلب الشمالي قبل أن تتمكن قوات “قسد” المدعومة أمريكيا من السيطرة عليها.

ثم تتابعت عمليات أخرى لطرد تنظيم حزب العمال وفروعه السورية من مدينة عفرين بريف حلب وإنشاء منطقة أمنية بعمق 30 كيلومترا.

نجحت تركيا في تحقيق بعض هذه الأهداف، لكن ظل التنظيم يسيطر بحماية أمريكية على مدن أخرى مثل منبج وعين العرب وتل أبيض وغيرها من البلدات التي أعلنها الرئيس أردوغان قبل أشهر قليلة هدفا لعملية عسكرية محتملة لكنها تأجلت في اللحظات الأخيرة.

هل تحل عين العرب محل جبال قنديل؟

لسنوات طويلة كانت جبال قنديل في شمالي العراق تمثل مركزا لتنظيم PKK لتخطيط وشن العمليات الإرهابية داخل تركيا، لكن العملية العسكرية التي تنفذها القوات التركية ضد التنظيم في شمالي العراق، والتي حملت اسم “المخلب-القفل” وجهت ضربات مؤثرة للتنظيم ونجحت في القضاء على المئات من قياداته العليا.

فاسم العملية يشرح الهدفين الأساسيين منها، فـ”المخلب” لاجتثاث التنظيم وقياداته من المنطقة، و”القفل” لإغلاق الطريق أمامه نهائيا إلى الداخل التركي.

وقبل سنوات كان من الصعوبة بمكان دخول القوات التركية تلك الأماكن والاستقرار فيها نظرا لوعورتها الجبلية، لكن العملية العسكرية التي يتكامل فيها المجهود الحربي مع الاستخباراتي نجحت في شل قدرات التنظيم، كما أدت الطائرات المسيّرة التركية دورا حاسما في اصطياد القادة من ذوي الرتب العليا ليس في المناطق الحدودية فحسب، بل وصولا إلى عمق أكثر من 300 كيلومتر من الحدود مع العراق.

هذا النجاح الأمني التركي أصاب التنظيم في مقتل، وهو ما دفع “دوران كالكان” -أحد قادته المعروفين- إلى التهديد في مقطع مصور منشور بأن الرد على العمليات التركية سيكون مفتوحا من حيث المكان وطبيعة الأهداف “المدنية والعسكرية”.

ولعل هذا ما حدا بالتنظيم إلى تحويل مركز العمليات إلى الشمال السوري انطلاقا من عين العرب “كوباني” استفادة من طول الحدود التركية السورية التي تصل إلى 900 كيلومتر، ووجود السوريين الكثيف في الداخل التركي، مما يجعل تحركات أعضاء التنظيم غير مثيرة للريبة.

فمنفذة الهجوم أحلام البشير دخلت الأراضي التركية بصحبة شخص آخر باعتباره زوجها بطريقة غير مشروعة، ولم يُثر وجودها داخل إحدى ورش صناعة الملابس في منطقة “إسنلر” الشكوك حولها، وكانت تتحرك بطريقة طبيعية.

لكن سرعة وصول الأجهزة الأمنية إليها، حال دون هروبها أو تصفيتها كما كان مخططا من قِبل التنظيم، كما أسهمت التحركات الأمنية الناجحة في كشف خيوط التنظيم وأبعاد التحرك الجديد انطلاقا من الأراضي السورية وبواسطة أشخاص يحملون الجنسية السورية.

العملية العسكرية التركية ضرورة

من هنا، فإن العملية العسكرية التي أعلنها أردوغان سابقا في عين العرب وتل أبيض وربما منبج، وقد تكون بوادرها مع بدء القصف الجوي للشمال السوري، لم تكن خيارا يمكن تأجيله، بل ضرورة للحيلولة دون تحوّل تلك المناطق إلى بؤر لزعزعة الأمن الداخلي في تركيا.

لكن ماذا عن الحماية التي توفرها واشنطن للتنظيم الإرهابي في تلك البؤر بزعم محاربة داعش؟!

فقبل أيام التقى مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وفدا أمريكيا برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى المسؤول عن الملف السوري إيثان غولدريتش، وفي يوليو الماضي التقى عبدي قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا، بزعم بحث سبل مواجهة تنظيم داعش!!

هذا الدعم الأمريكي ولّد شعورا بالغضب في أنقرة تجاه واشنطن الحليف في حلف شمال الأطلسي (ناتو)!

هذا الغضب كان يمكن رؤيته بوضوح في تعبيرات جسد أردوغان خلال لقائه القصير مع بايدن على هامش قمة العشرين، وعندما سئل في المؤتمر الصحفي عقب انتهاء القمة عن سبب عدم دعوته للقاء بايدن بعض قادة الناتو أجاب بأنه لا يحضر اجتماعات غير مهمة!

عبدي سارع عقب الغارات التركية بالقول: إن الحرب إذا بدأت فإن الجميع سيتأثر بها!

بعيدا عن مظلوم عبدي، فإن العملية العسكرية التركية سيكون من أهم أهدافها:

طرد تنظيم PKK وفروعه السورية من عين العرب “كوباني” وتل أبيض وربما منبج، وإقامة منطقة أمنية على طول الحدود السورية بعمق 30 كيلومترا، وإعادة اللاجئين السوريين إلى البلدات والقرى التي أجبرهم التنظيم على مغادرتها لإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة لصالح تأسيس كيان انفصالي “كردي”.

تداعيات التفجير على العلاقات التركية اليونانية

قد تمتد تداعيات التفجير من شمالي سوريا والعراق إلى العلاقات التركية اليونانية المتوترة أصلا، فبحسب ما كشفته التحقيقات، فإنه كان من المخطط تهريب المنفذة إلى اليونان.

هذا الكشف سيفتح مجددا علاقة أثينا بتنظيم حزب العمال، إذ سبق أن حذرتها أنقرة من تلك العلاقة، ففي يونيو/حزيران الماضي، استدعت السفير اليوناني إلى مقر وزارة الخارجية وواجهته بمعلومات تؤكد تحوّل معسكر “لافريون” في اليونان إلى بؤرة للتدريب والدعم اللوجيستي للتنظيم تضاهي معسكراته في العراق وسوريا!!

كما أنه من غير المستبعَد أن تمتد تأثيرات التفجير إلى الوجود السوري في تركيا -خاصة الذين ينحدرون من أصول كردية- سواء من حيث التدقيق الأمني أو التسريع بالعودة الطوعية لآلاف اللاجئين إلى المناطق المحررة.

وهذا يؤكد ما سبق ذكره من أن العملية العسكرية في شمالي سوريا ليست خيارا، بقدر ما هي ضرورة أمنية ملحّة، وكان الجميع داخل تركيا يسألون: متي هي؟

المصدر : الجزيرة مباشر