انفجار إسطنبول.. دلالات ورسائل سرعة القبض على المُنفذ

 

منذ الأول من يناير/كانون الثاني 2017، لم تشهد تركيا بفضل الله عملا إرهابيا مؤثرا، حيث استطاعت المنظومة الأمنية التركية إحباط مئات العمليات الإرهابية قبل تنفيذها.

وقد كانت آخر العمليات المؤثرة؛ هجومان في إسطنبول، الأول، هجوم مزدوج، وقع في 10 ديسمبر/كانون الأول 2016، أمام ملعب نادي بيشكتاش، وأسفر عن 47 قتيلا بينهم نحو 39 شرطيا، و160 جريحا.

أما الهجوم الثاني، فقد وقع في ملهى رينا الليلي بمدينة إسطنبول، خلال احتفالات رأس السنة عام 2017، حيث قام عبد القادر ماشاريبوف، الذي يحمل الجنسية الأوزبكستانية، بإطلاق النار من سلاح رشاش؛ مما أدى إلى مقتل 39 شخصا بينهم سياح أجانب، إضافة إلى عشرات الجرحى.

وقد استطاع الأمن التركي إلقاء القبض على منفذي تلك العمليات وسابقاتها، وخضعوا جميعا للمحاكمة القضائية، ومنهم الأوزبكستاني ماشاريبوف، مُنفذ عملية الملهي الليلي، التي تبنتها داعش، والذي أُلقِي القبض عليه بعد 15 يوما من المطاردة، وحُكم عليه بما يُعادل السجن المؤبد 40 مرة.

تسرّع البعض في وصف التفجير بالانتحاري

العملية الإرهابية الدنيئة التي شهدها شارع الاستقلال، جاءت بعد 6 سنوات من اليأس الإرهابي أن ينال من تركيا وشعبها.

ومع اللحظات الأولى للتفجير الذي وقع في الساعة 4:20 عصر يوم الثالث عشر من ديسمبر/كانون الأول 2022، تطايرت الأنباء عن الحادثة، وتصدرت سائر وكالات الأنباء العالمية، وباتت الخبر الأول على الفضائيات.

وقد سارعت القنوات التلفزيونية إلى تغطية الحدث وتحليله، ومنهم من وصفه بأنه تفجير انتحاري، كما فعلت قناة العربية في أخبار الساعة، التي بُثت في الحادية عشرة مساءً بتوقيت الرياض، حيث كان نص الخبر: “امرأة تفجّر نفسها في أكثر شوارع إسطنبول ازدحاما والسلطات تفتح تحقيقا في هجوم إرهابي”. ولا شك أن توصيف الهجوم بالانتحاري كان تسرّعا من قناة العربية، ناهيك عن عدم تحري الدقة في المعلومة، كما يحمل تضخيما له تأثيراته بدون شك، ويُعَد سقطة تحريرية، كما أن السلطات التركية ذاتها تعاملت مع الحدث على فرضية أنه عمل إرهابي.

السلطات التركية وإدراك الأهداف والرسائل

وفور وقوع الحادثة، أعلن المجلس الأعلى للبث التلفزيوني والإذاعي في تركيا، فرض حظر مؤقت على نشر أي معلومات، والبث من مكان الحادث، وكان هذا إجراء أمنيا ساعد بدون شك السلطات في التركيز على كشف ملابسات الحادثة، وسرعة التعامل لكشف المشتبه بها في تنفيذ الهجوم، وإلقاء القبض عليها.

وقد تعاملت السلطات التركية مع هذا الهجوم بإدراك لطبيعة الأهداف والرسائل من ورائه، في مثل هذا المكان، وفي هذا التوقيت، وما يحمله من رمزية ودلالة، وقد انعكس ذلك باستباق الرئيس أردوغان إصدار ثلاثة تصريحات بشأن الحادث، وكذلك على تروي السلطات الشديد في إعلان المعلومات والتفاصيل.

لا شك أن تفجير إسطنبول الأخير حمل دلالات تتجاوز التداعيات الأمنية لهذا العمل الإرهابي، فمن يقف خلف هذا التفجير بتوقيته ومكانه، يريد أن يحدث ضجة كبرى، ويضغط على الحكومة التركية؛ عبر ضرب الاقتصاد، والتأثير على حركة السياحة؛ خاصة أن البلاد استعدت لموسم سياحي شتوي، تستقبل خلاله السياح الأوربيين، القادمين لقضاء شتاء دافئ في تركيا، خلال ديسمبر/كانون الأول 2022، ويناير/كانون الثاني 2023، وقد تم الاستعداد ببرامج جاذبة خلال هذه الفترة، كما كان هناك حجوزات كبيرة في إسطنبول وغيرها من المدن التركية.

إضافة إلى ذلك فإن تجنيد امرأة سورية، من قبل جهة إرهابية، حمل تحدّيا كبيرا، وقد يكون أحد أهداف هذا التفجير إحداث الوقيعة بين الأتراك والسوريين؛ مما يدفع إلى حدوث عمليات انتقامية ضد السوريين في تركيا.

 إدارة ناجحة للأزمة

منذ اللحظات الأولى لوقوع تفجير إسطنبول، نجحت الحكومة التركية على مستوياتها كافة في التعامل مع الحدث، وأدارت الأزمة الناتجة عنه بما يكسر حدة تأثيراته، ويُفشل الأهداف من ورائه.

لقد وقع التفجير في شارع الاستقلال رغم كل الاحتياطات والتدابير الأمنية، إلا أنه من المعلوم أن من الاستحالة بمكان أن يجري تفتيش ذاتي لرواد الشارع، الذين يُقدَّرون بأكثر من مليوني شخص يوميا.

ومن الجدير بالذكر أن المنظومة الأمنية التركية شهدت تطورا كبيرا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، حيث وضع الحزب حدّا للمشكلة التي كانت تواجه المنظومة الأمنية داخليا، والتي ورثها من فترات سابقة، مثل الأحداث غير القانونية، وشبكات الإجرام المنظَّمة. كما أجرى ترتيبات قانونية في مجالات أمنية واستخباراتية مختلفة، ووضع سياسات أمنية لمكافحة تمويل الإرهاب والتهريب، وغيرها.

دلالات إيجابية لسرعة القبض على مُنفذ التفجير

ولئن كان التفجير الأخير يراه البعض اختراقا أمنيا سيؤثر على حركة السياحة، إلا أن تعامل السلطات التركية، وسرعة الوصول الفائقة إلى مُنفذ التفجير، حمل دلالات ورسائل إيجابية مهمّة للغاية، هي:

تأكيد قدرة المنظومة الأمنية التركية بأجهزتها المختلفة على حفظ أمن البلاد داخليا وخارجيا، خاصة أن وزير الداخلية في تصريحات له عن الحادث، أكد أنه تم منع نحو 200 حادث إرهابي هذا العام وحده، وهذا رقم ضخم، يعني أن تركيا كانت معرَّضة لعمل إرهابي كل يومين على الأقل. أبرقت سرعة إلقاء القبض على منفذة تفجير إسطنبول الأخير، بعد أقل من 12 ساعة، برسالة إلى الداخل والخارج، مفادها؛ أنه لا أحد يمكنه الإفلات من قبضة السلطات التركية، فمن قُدِّر له أن ينفذ عملية إرهابية، فإنه لا يمكن أن ينجو من الملاحقة. بدا واضحا حجم التطور التقني للمنظومة الأمنية التركية، وقدرة أجهزتها ومنتسبيها على تحليل المعلومات، وسرعة التعامل معها، وكثيرة هي الأحداث السابقة التي تؤكد ذلك. قادت عملية تتبّع منفذة الهجوم والقبض عليها للوصول إلى العديد من الأشخاص الذين قاموا بالتعاون معها، وهذا يعني تفكيكا لخلايا إرهابية، لم يكن مستبعَدا أن تقوم بعمليات في وقت ما، وهذا سيفضي بطبيعة الحال لمعرفة جميع ارتباطات هؤلاء، بما يسهم في ضربات استباقية لأي أعمال إرهابية مُزمَع القيام بها.

لا شك أن نجاح السلطات التركية في التعامل السريع مع تفجير إسطنبول الأخير، أكد هيبة الدولة التركية، وحافظ على ثقة الشعب في حكومته، وفي المنظومة الأمنية للدولة، كما استعاد سريعا ثقة زوار تركيا، التي أراد هذا التفجير أن يُفقدها. وهذا الهجوم سيجعل الدولة التركية أكثر إصرارا على القيام بعمليات وقائية خارج الحدود، وورقة مشهرَة في وجه من يريد -على الساحتين الدولية والإقليمية- أن يعرقل إجراءات تركيا للحفاظ على أمنها.

ختاما

إن التفجير في شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم -أكثر الأماكن حيوية في إسطنبول- لن يستطيع النيل من قلب المدينة النابض، وقد أثبتت أحداث سابقة أن تركيا أكبر بكثير من محاولات المستهدِفين لها ولشعبها. حفظ الله تركيا وشعبها وسائر بلاد المسلمين.

المصدر : الجزيرة مباشر