الكلمة والمعنى والتطور الدلالي

صورة للمستشار الألماني الأسبق هيلموت كول في قداسه

علم الدّلالة هو العلم الذي يبحث في “المعنى”، وتُعرّف الدّلالة بأنّها استخدام الكلمات استخدامًا معيّنًا ضمن نسقٍ لغوي مع مفرداتٍ أخرى يجمعها علاقة ما. وجاء في كتاب “التّعريفات” لـ”عبد القاهر الجرجاني” (الدّلالة هي كون الشّيء بحالة يلزم من العلم به بشيء آخر، والأوّل هو الدَّال، والثّاني هو المدلول).

وللدلالة أنواع “معجمية، وصوتية، وسياقية، وصرفية، ونحوية، واجتماعية”. ما يهمنا من مجموع الدّلالات العربية في هذا المقام هو الدّلالة الاجتماعية، وهي الدّلالة التي تأخذ الحياة والشّعور الإنساني بعين الاعتبار. ويمكننا القول إنّها محصورة بتطور الإنسان عبر الزّمن.

وقد ذكر “السّبحاني” في كتابه (مفاهيم القرآن) بعض التّغييرات التي طرأت على المعاني بسبب التطور الاجتماعي للإنسان، ومنها مثلًا كلمة “الكلام”، فهي عند “العوام” مجموعة الأصوات والحروف التي تخرج من المتكلّم، وإذا زالت تلك الأصوات ذهبت صفة الكلام. مع تطور الإنسان اجتماعيًّا اتّخذت الكلمة مفهومًا أوسع، فهي تعبير عن “الخُطب المنقولة، والشّعر المروي عن شخصٍ ما، والأحاديث النّبويّة، وغيرها”. وهذه الأمور لا تُصدر أصواتًا لكن أُطلِق عليها مُسمّى “الكلام”.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المفردة تحتاج إلى زمن لا بأس به كي تتطور دلاليًّا. ولنأخذ أمثلة أخرى على تطور الكلمات دلاليًّا، كلمة “الحريم” ومعناها القديم “الشّيء المحرَّم مسّه أو الاقتراب منه”، ثمّ أطلقت على “النّساء”. ومنها كلمة “حرامي” التي تعني الشّيء المنسوب إلى الحرام، ثمّ أطلقت على اللص. أمّا كلمة “الصّحابة” فكانت تعني الصّحبة في المطلق، ثمّ اختصت بأصحاب الرسول ﷺ. وكلمة “التّوبة” كانت تعني الرّجوع، ثمّ اختصّت بالذنب.

في الأمثال الشعبية والأقوال المتداولة

لم تقتصر التّغييرات الدّلالية على المفردات فقط بل طالت بعض الأقوال والأمثلة الشّعبية، فأخذت لبوسًا مختلفًا عن القصد الذي قيلت فيه للمرّة الأولى. من تلك الأمثال، المثل الشّعبي “اكفي القدرة على تمّها تطلع البنت لأمّها” فالقصّة المتداولة لهذا المثل تقول إنّه كان مُحرَّمًا على الفتيات قديمًا الصّعود إلى السّطح لنشر الغسيل أو القيام بأيّ عمل، ويُسمح للنساء فقط. فكانت الأمّهات يضعن وعاءً من النّحاس على السّطح، فإذا صعدن للعمل ووجدن الطّريق خاليًا يقلبن الوعاء على فمه فيُصدر صوتًا تفهم البنت منه أنّ أمّها تستدعيها لمساعدتها. ومع زوال السّبب، استُخدم المثل للدلالة على “الشّبه” بين الأم والبنت من حيث الأفعال والطّباع.

ومن التّطورات الدّلالية إبدال العامة لبعض الحروف في الكلمات، فيضيع المعنى الأصلي للكلمة. ومنها ما تعارف عليه سكّان مصر من تسمية زقاق في الإسكندرية “زنقة السّتات” أيّ زقاق “النساء”.

كان النّاس يُسمّون الحارة زنقة، وأوّل تاجر بنى محلًا في الزّنقة يهوديٌ كان اسمه “لستات”، فأُطلِق اسمه على الحارة، ثمّ تطوّر على لسان العامة ليصبح “ستات”، وهو معنىً اقتضاه واقع الحال، فالسّوق تقصده غالبية النساء لشراء ما يخصهنّ.

انقلاب الدلالة إلى ضد المعنى الأصلي

ومن التّاريخ حادثة تحكي عن الوالي العثماني سليمان بك الأرمني وابنه عثمان الجلبي الذي تولى مهام أبيه. قامت حرب عام 1715 بينه وبين محمد بك قطماش. هرب عثمان الجبان من المعركة واختبأ في مكان ما، وتوفي بعد مدة قصيرة وعمره لم يتجاوز السّابعة والثّلاثين عامًا. ولحبّ المصريين له وافتخارهم به، أطلقوا اسمه في مَثَل يعبّر عن ذلك الفخر والحبّ “تكونش فاكر نفسك ابن بارم ديله؟”.

وعلى الرّغم من أنّ المثل يجب إطلاقه على الجبان، فإنّ المصريين استخدموه للفخر، فعندما يقول أحدهم لشخص ما “أنت فاكر نفسك ابن بارم ديله” يعني أنّه لا يصل إلى هذه المرتبة الرّفيعة من الفخر والثّراء.

أمثال بدلالات طريفة

لا شكّ أنّ أصل الحكاية في مثلنا الشّعبي “كلّ قمحة مسوّسة ولها كيّال أعور” لم تحمل الدّلالة الحالية للمثل، فالقصد أنّ القمح المضروب السّيئ سيجد من يشتريه كما يجد القمح السّليم الجيد من يشتريه، والكيّال الأعور هو المشتري الجاهل الذي لا يميّز البضاعة جيدًا، فيشتري القمح كيفما كان شكله.

وتطور ذلك المثل ليصف النّساء غير الجميلات، وأنهنّ لن يكسدن أو يعنسن بل سيجدن من يراهنّ جميلات وصالحات للزواج. وهذا المثل يُطمئن الفتيات اللواتي فاتهنّ قطار الزّواج، فلا بدّ من وجود كيّال أعور يرى جمالهنّ!

دلالة بطعم السياسة

لم ينجُ السّياسيون من التّحولات الدّلالية للكلمات، بل كانوا أكثر النّاس تعرّضًا للنيل من هيبتهم باستخدام ألفاظ تشير إليهم من حيث الشّكل أو الطّبع يفهمها العامة ويتندرون بها.

كان النّاس في سوريا أيام حكم “أمين الحافظ” يتندرون بين بعضهم في الشّوارع والأسواق بقول أحدهم حين يمرّ بصديق له:

– حافظ على صباطك (حذائك).

فيرد الثاني:

– أمين عليه.

وأيام حكم “الشّيشكلي” كان الباعة ينادون “آخر أيامك يا مشمش”، والمقصود أنّ نهاية الشّيشكلي صارت قريبة. واستُخدم المشمش، لأنّه كان من مدينة “حماة” المشهورة بالمشمش الذي غنّت له صباح أيام الوحدة بين مصر وسوريا “حموي يا مشمش”.

ومن طرائف المظاهرات أيام الانفصال عن مصر أنّ المتظاهرين ضدّ حكم الانفصاليين كانوا ينادون “هي هيه، هي هيه، باذنجانة مقلية”، والمقصود بها عبد الكريم النّحلاوي قائد الانفصال، المشبَّه بالباذنجان. ولن يكون البلح آخر فاكهة تطلَق كلقب لرئيس دولة، فالقريحة الشّعبية ستبقى مليئة بالابتكارات المناسبة للزمان والحدث والشّخص الذي سيحمل اللقب.

ويبدو أنّ هذه الألقاب ليست اختراعًا عربيًّا، فقد عُرف المستشار الألماني الأسبق “هيلموت كول” بلقب الإجاصة، حتّى أصبحت كلمة “الإجاص” بالألمانية رمزًا له. ويوم وفاته عرضت صحيفة (تاز) مجموعة أزهار مخصّصة للجنازة بجانب إجاص مع تعليق “منظر طبيعي مزهر”!

المصدر : الجزيرة مباشر