د. محمد البرادعي يكتب لـ”الجزيرة مباشر”: المنطقة من سيّئ إلى أسوأ.. ومن هنا نبدأ مواجهة الأخطار!

جامعة الدول العربية هيكل هش خالٍ من المضمون.. ولا بد من فتح حوار شامل مع تركيا وإيران

الدكتور محمد البرادعي (غيتي - أرشيفية)

لعل من أكثر المفارقات حزنًا وإحباطًا في الشرق الأوسط منذ زمن ليس بالقصير، أنه على الرغم من إمكانات المنطقة البشرية والاقتصادية الهائلة فإن أهم ما “تتميز” به اليوم ويُشار إليه بالبنان، هو حجم الحروب والصراعات والمآسي التي استشرت فيها كالوباء، وما يصاحبها من غياب أي رؤية متوافق عليها لما يجب أن يكون عليه شكل المنطقة أو المقومات الأساسية لأيّ منها. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقلال بلدانها -شكليًّا على الأقل- لم تنعم المنطقة يومًا باستقرار أو تخلو في أي وقت من قلاقل وصراعات، سواء أكانت حروبًا بين دول عربية والدولة العبرية أو بين العراق وإيران، أم حروبًا أهلية كما رأينا في اليمن ولبنان، أم انقلابات عسكرية بتدبير من الخارج كما في إيران، أم نتيجة تنافس على السلطة كما في العراق وتركيا وسوريا.

أيًّا كان الأمر، فقد استمرت المنطقة تسير من سيّئ إلى أسوأ، مثل كرة الجليد التي تتدحرج وتزداد حجمًا بمرور الوقت، بداية بالغزو الأمريكي للعراق في أوائل هذا القرن، وصولًا إلى الإرهاب الغاشم الذي تلفّح بالدين، ووجد في التدخلات الخارجية بالمنطقة وفي الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الشعب الفلسطيني خير ذريعة ومبرر.

وعندما انتفضت بعض الشعوب العربية بعفوية، لتنفض عن نفسها الشعور الجمعي بالإهانة وغياب المساواة، وتستخلص -مثل غيرها- حقها في الحرية والكرامة، كان نصيبها الانقضاض عليها بقوة ووحشية من جانب الأنظمة القمعية التي تحكمها، وانتهى الأمر إما بحروب مشتعلة، أو بانهيار اقتصادي، أو بالمزيد من القمع، وبسرعة تحولت أجزاء كثيرة من المنطقة إلى ساحة قتال تسيطر عليها قوى من داخل الإقليم وخارجه، لتحقيق أهداف جيوسياسية لا صلة لها بتطلعات شعوب المنطقة وآمالها.

هذا ما نراه في أجزاء من المنطقة اليوم: حروب مروعة، كوارث إنسانية بشعة، أنظمة استبدادية بدرجات متفاوتة، صدامات إثنية وطائفية وعقائدية من كل نوع، وغياب أي منظومة للأمن الإقليمي. باختصار، وضع مأساوي يدفع ثمنه الشعوب.

البكاء على اللبن المسكوب

ومع ذلك، لا أعتقد أن هناك فائدة تُرجى من البكاء على اللبن المسكوب أو تبادل الاتهامات أو توزيع اللوم، وإنما نقطة الانطلاق يجب أن تكون التفكير في كيفية إخراج المنطقة من هذا الوضع البائس الذي أوصلنا أنفسنا إليه. ولا أتناول هنا الأوضاع الداخلية لكل دولة ومتطلبات الحكم الرشيد وغيرها، التي أشرت إليها في كتابات سابقة، وإنما حديثي هنا عن مصيرنا المشترك كدول عربية، وكيفية حمايتها من التفكك والانهيار.

ولعل البداية على المستوى الإقليمي، هى بناء نظام أمن جديد للمنطقة، نستطيع من خلاله إيقاف نزيف التدهور المستمر. وتأتي اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول العربية في مقدمه التدابير التي يجب النظر فيها، وهي الاتفاقية التي أصبحت لا تساوي الورق الذي كُتبت عليه، نتيجة واقع أليم انعكست فيه الآية، فأصبحنا بدلًا من التصدي سويًّا للاعتداءات الخارجية، نقوم باستدعاء قوى خارجية للاستقواء بها ضد بعضنا، زد على ذلك الانتشار المتنامي للقواعد العسكرية في المنطقة. يتطلب هذا بالضرورة أن ننخرط في حوار شامل وصادق بشأن كثير من الأساسيات التي تاهت عنا: ما الروابط والقيم المشتركة التي تجمعنا؟ ما أوجه تعدديتنا التي تعزز قوتنا وتثري تكاملنا؟ ما مصالحنا السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمكن تعظيمها وحمايتها بالعمل الجماعي؟ وما الآليات المطلوبة لتحقيق ذلك؟

ولا يمكن الحديث عن اتفاقية الدفاع المشترك دون التعرض للمنظمة الحاضنة لها، وهي جامعة الدول العربية، التي أصبحت -مثل “قرية بوتومكين” في الفلكلور الروسى- هيكلًا هشًّا خاليًا من المضمون، بدلًا من أن تكون إطارًا للتجمع الإقليمي، يوثق أوجه التعاون بين دوله الأعضاء ويوسع آفاقه، ويسهم في حل خلافاتها وحماية مصالحها.

حوار مع تركيا وإيران

هناك ثلاث دول محورية غير عربية في المنطقة، تشكل جزءًا لايتجزأ من أمنها إيجابًا أو سلبًا، وقد ناديت كثيرًا -في السابق- بضرورة فتح حوار شامل مع تركيا وإيران، الدولتين اللتين تربطنا بهما كثير من الروابط التاريخية والمعاصرة، لمحاولة تصفية المشكلات العالقة، وإزالة التخوفات القائمة التي ليست بالهيّنة، خاصة ما تستشعره بعض الدول العربية من أطماع إقليمية من جانبهما، وتدخلات في شؤونها الداخلية. ولدىّ بعض الارتياح أن هناك شيئًا من التقدم في هذا الاتجاه.

هناك كذلك تخوف ملموس من برنامج إيران النووي، وقد كان رأيي منذ بداية المفاوضات بشأن هذا البرنامج، التي انتهت بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015، أنه من الضروري أن تكون دول المنطقة طرفًا في تلك المفاوضات، نظرًا لما لها من تأثير مباشر على الأمن الإقليمي، كما كان الوضع في المفاوضات بشأن برنامج كوريا الشمالية النووي، التي ضمت دولتي الجوار -اليابان وكوريا الجنوبية- بالإضافة إلى الدول الكبرى. وللأسف لم يحدث ذلك، سواء في المفاوضات السابقة أو الحالية.

على كل حال، فإني آمل أن تسفر مفاوضات فيينا عن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق غير المبرر بالانسحاب منه، الذي خلق تصعيدًا وتوترات في المنطقة كان يمكن تجنبها. وما زلت أرى -بناءً على دروس كثيرة من التاريخ- أن الحوار القائم على مبدأ المساواة وتوفير الضمانات وبناء الثقة والاحترام المتبادل، هو أفضل السبل للتغلب على العقبات وإيجاد الحلول. فالاتفاق يوفر عند تطبيق كل بنوده كثيرًا من الضمانات، للتأكد من الطبيعة السلمية للبرنامج الإيراني، من خلال قيود عديدة على طبيعة المواد النووية المنتجة وكمياتها، وعلى الأبحاث ذات الصلة بالتطبيقات العسكرية، بالإضافة إلى عمليات التفتيش المكثفة وغير المسبوقة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وأيًّا كانت نتيجة مفاوضات فيينا، فإن البرنامج النووي الإيراني يبقى جزءًا أساسيًّا من مخاوف بعض الدول العربية تجاه برنامج التسلح الإيراني، وهو الأمر الذي يجب تناوله مباشرة بين الدول العربية وإيران، جزءًا من النقاش بشأن برامج التسلح في المنطقة، من أجل الاتفاق على تدابير ضرورية وإجراءات لازمة لبناء الثقة المتبادلة.

العلاقة مع إسرائيل

أما بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل، فالوضع أكثر تعقيدًا، نتيجة المحاولات المستمرة من جانبها لتصفية قضية الشعب الفلسطيني، واستمرار التعامل معه من منطلق عنصري بغيض. وليس لديّ أدنى شك أن الإقليم لن ينعم بالأمن والاستقرار، في غياب التوصل إلى حل عادل يتمتع فيه الشعب الفلسطيني بحقه في الحرية والكرامة والمساواة، مهما استمرت الجهود المختلفة لطمس قضيته.

وفي إطار منظومة الأمن التي يجب أن تحكم العلاقات مع إسرائيل، فإنه لا يمكن بأي حال التغاضي عن سلاحها النووي، وما يترتب عليه من إخلال بالأمن في الإقليم، إذ لا يمكنني أن أتصور سلامًا مستدامًا بالمنطقة في وجود مثل هذا الخلل البيّن في منظومة الأمن، كما لا أعتقد أن دول الجوار سوف تقبل به على المدى القصير أو البعيد.

خطأ الدول العربية

وإذا كان هناك قلق مشروع من حصول إيران على السلاح النووي، فمن المنطقي والطبيعي أن يكون هناك تخوف من احتفاظ إسرائيل بترسانتها النووية، ذلك أن السلاح النووي يشكّل تهديدًا وجوديًّا أيًّا كان مالكه، واحتمال استعماله، عمدًا أو عن طريق الخطأ، فهو تهديد وخطر دائم لا يمكن إغفاله. وقد ارتكبت الدول العربية خطأ جسيمًا عندما انضمت إلى اتفاقية منع انتشار السلاح النووي دون أن تشترط انضمام إسرائيل إليها. وقناعتي أنه قد حان الوقت وأكثر، للبدء في مفاوضات جدية بين كل دول المنطقة وإسرائيل، تتعدى البيانات والقرارات التقليدية، للتوصل إلى اتفاقية ملزمة لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي وجميع أسلحة الدمار الشامل، في إطار المفاوضات الخاصة بالتوصل إلى سلام عادل ومستدام وبالتوازي معها. هناك كثير من التفاصيل التقنية والفنية التي يجب حسمها قبل التوصل إلى تلك الاتفاقية، ومن الضروري البدء في التفاوض بشأنها في أقرب وقت ممكن.

وفي ضوء التطورات الأخيرة بالمنطقة، وتطبيع العلاقات رسميًّا أو فعليًّا بين إسرائيل وعدد من دول المنطقة -في مشهد يشوبه التخبط- لم يعد مقبولًا أن ترفض إسرائيل حتى مجرد الحديث في الموضوع.

يعلّمنا التاريخ أن السلام المستدام والأمن الحقيقي، يقومان على التزامات متبادلة ومتكافئة، وليس على اتفاقيات إذعان، وليس من المعقول أن يستمر الوضع الحالي، الذي تتمتع فيه إسرائيل بكل ثمار الأمن والسلام مع دول عربية عدة، في حين يستمر أصحاب القضية الأصلية يرزحون تحت وطأة الاحتلال، وتستمر الدول التي عقدت اتفاقيات سلام، تعيش في ظل منظومة “أمنية” تهدد أمنها.

وعلى الرغم من كل هذا، فما زال يراودني بصيص من الأمل -بعد عقود من الإخفاقات المريرة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا- أن نتمكن من تغيير الوضع الجائر الحالي، من أجل الوصول إلى سلام قائم على العدالة والمساواة، يفتح الطريق أمام شعوب المنطقة كافة، للعيش في أمن وسلام، والإسهام بصورة أكثر إيجابية في ركب الحضارة. يقيني أننا نستطيع، إذا راجعنا سياساتنا الداخلية والخارجية ومكّنا شعوبنا ووحّدنا صفوفنا وأخذنا زمام المبادرة.

المصدر : الجزيرة مباشر