قد يكون ذاك الفتى أحد قادة طالبان اليوم.. الله أعلم

علم طالبان

كانت رحلتنا من بغداد الخاضعة للحصار الجوي الأممي 1990-2003 إلى عّمان برّا ومنها جوا إلى دولة الإمارات للمشاركة في التغطية الإعلامية لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في رمضان (نوفمبر- ديسمبر) 2001 والتي ستكون مدار الحكاية -جائزتان إحداهما لأميز الحفظة من شباب العالم الإسلامي، والأخرى لرجل العام الإسلامي- مشاركة إعلامية تزامنت مع أيام الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط حكم طالبان واحتلال أفغانستان قبل عشرين عاما، ونذر الحرب حينها تلوح أيضا في سماء العراق.

يقول جورج تينت مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (1997-2004) انبلج فجر الأربعاء 12 سبتمبر 2001 وعندما وصلت إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس، وصادفت ريتشارد بيرل رئيس مجلس السياسة الدفاعية خارجا من المبنى، فالتفت إليَّ وقال “يجب أن يدفع العراق ثمن ما حدث أمس”.

سقوط العواصم أسهل من سقوط الفكرة

نعود إلى أصل الحكاية؛ ففي إحدى جلسات التحكيم لنيل جائزة القرآن الكريم، والمتسابقون يتلون آيات الله في إحدى أكبر القاعات بمركز دبي التجاري العالمي، وغبار معارك (كابل وتورا بورا) ما زال معلقا في سماء أفغانستان، هناك ضجت منصة التحكيم حين انتفض المتسابق الأفغاني ذو السادسة عشرة من العمر، ممتنعا عن أداء دوره في المسابقة عندما لم يجد علم بلده (علم طالبان) على طاولة المنافسة أسوة بأعلام البلدان المشاركة الأخرى إلى أن تمت تسوية الموضوع.

المتسابق الأفغاني كان ممكن أن يقرأ ويجود من كتاب الله ما تيسر له، ويستمتع بمكافأة جهده وتفوقه “ولا من شاف ولا من دري”، ولكنها الفكرة المستقرة في العقل والوجدان والتي لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية أن تسقطها كما أسقطت كابل نفسها.

الحدث الأفغاني اليوم 2021 وقد عادت طالبان إلى القصر الرئاسي وقد دانت لها العاصمة كابل دون قتال، يفسر لنا حكاية ذلك الفتي الذي بعث برسالته المبكرة التي مفادها (سقوط العواصم لا يعني سقوط المبادئ والأفكار)، وقد يكون ذلك الفتى المتسابق أحد قادة طالبان اليوم، ألله أعلم.

للرحلة بقية

الرحلات والأسفار وما تسجله الذاكرة التوثيقية عادة ما تكون كاشفة لواقع حال أو مفسرة وكاشفة لمآلات المستقبل، ففي تلك المشاركة نفسها (جائزة دبي للقرآن الكريم 2001) في جزئها الثاني حكاية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وكلاهما درس مستخلص يفسر (خلق الزمان وتبدل الحال)، إذ تنطوي المسابقة في أحد فصولها على تكريم علم من أعلام الدول الإسلامية تحت لقب (شخصية العام الإسلامية) الواقفة على شرط أن تكون تلك الشخصية قد قدمت خدمة متميزة للإسلام، وأن يكون مشهودا لذلك بالإجماع.

في تلك الدورة (2001) التي نالنا نصيب المشاركة فيها كإعلاميين، فقد وقع الاختيار لنيل الجائزة على الدكتور علي عزت بيجوفيتش الذي خاض كفاحا مريرا من أجل حصول المسلمين في بلاد البلقان على حريتهم ومكانتهم وتعرض للسجن والاضطهاد من أجل ذلك. واستطاع الحصول على حقوق المسلمين بعد معاناة ومشقة -هكذا جاء تقديمه في دولة الإمارات قبل عشرين عاما- ليبقى التساؤل: إذن أين ذهب اليوم حديث الحريات وحكايات الاضطهاد والسجون وحقوق الإنسان والتدخل السافر في مصائر البلدان؟

اللافت في قراءة حدث إماراتي مضى عليه عشرون عاما، حضور الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي إلى إمارة دبي لتسليم الجائزة للدكتور علي عزت بيجوفيتش باعتبار الدكتور القرضاوي حاصلا على جائزة العام الإسلامية في دورتها السابقة عام 2000 والتي تمنحها الإمارات لمن هو مشهود له بخدمة الإسلام وبالإجماع.

وأنا أبحث في ذاكرة تلك المشاركة الرمضانية لجائزة دبي للقرآن الكريم في دورتها الخامسة عام 2001، وقفت عند تاريخية هذا الحدث ومفارقات الزمان وتبدل الحال، فقد منحت دولة الإمارات جائزة أفضل الرجال خدمة لقضايا المسلمين والدعوة الإسلامية وقد تم اختيار فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي الشخصية الإسلامية في الدورة الأولى وفضيلة الشيخ أبو الحسن الندوي في الدورة الثانية.

وأطرف ما في الموضوع (وقبل عشرين مضت) وخلال تكريمه للقرضاوي بحسب أرشيف الجائزة فقد “أعرب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن حبه للدكتور القرضاوي وسيرته وعلمه -سبحان الله- وأكد أن حبه لفضيلته حب في الله ولله لدوره المتميز في خدمة الإسلام والمسلمين وخاطبه قائلا: إن السياسي قد يخطئ في عمله ومهامه وعلى علماء الدين أن ينبهونا للأخطاء وأن يصححوا هذه الأخطاء إن وجدت دون خوف أو وجل”.

بعد عشرين عاما وجبت قراءة الحدث من جديد، ولعل طالبان العائدة لحكم أفغانستان بعد هروب القوات الأمريكية بكل وضوح واعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن أفغانستان تعتبر تاريخيا مقبرة الغزاة والإمبراطوريات، وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فعلا، ما يؤشر إلى ضرورة مراجعة وقائع لم تخطر بالبال أهمية مراجعتها، مثلما جاء وقت مراجعتنا لرحلة جاءت قبل تقلب القلوب وانقلاب القيم.

وآخر رحلتنا كانت حكاية (المعابر) حين أشكل موضوع عودة زميلنا الإعلامي الفلسطيني ووقوفه حائرا أمام طريق عودته إلى أهله ودياره في غزة بعد أن وصله خبر إغلاق المعابر، تأثرنا جميعا لحكايته وعشنا ألمه لكننا جميعا لم ندرك قبل عشرين عاما حقيقة معنى إغلاق المعابر وحصار المدن في الدول المحتلة، حتى استمكن جنون الاستبداد ليصبح إغلاق المعابر مجرد حكاية عابرة في سجل النظم الاستبدادية الحاكمة والتي ستعيش هاجس الحدث الأفغاني وتعيد قراءته ألف مرة لأنها أدركت أن إرادة الشعوب أقوى من السلاح المستأجَر.

المصدر : الجزيرة مباشر