يونيـــو.. شهر الأحزان المعتّقة!

مظاهرات 9 يونيو 1967

أبداً لن أنسى ذلك الشهر الحزين من صيف العام 1967.. أبداً لن أغفر لمن مزقوا أحلام شبابي الوردية، وفتحوا الجرح الذي لن يندمل.. أبداً سيبقي هذا التاريخ الحزين في أقبية الذاكرة المظلمة الباردة ألماً طازجاً يتجدد كلما استدعته الحوادث ومجريات الأيام..

كنا جيلاً من الأبرياء الأتقياء، أطفالاً كنا في بدايات البدايات، نعبث في رمال أيامنا كي نبني قصوراً ملونة، مواكباً نمشي كي نهتف باسم القومية، باسم العامل والفلاح، بالفن الخالد، بجمال.. عقولنا البكر تلتقط وبخصوبة أفكار الحرية، ترسم صورة حب دولي شامل، تحمل نصراً للبشرية على الطغيان وفلول قطعان الاستعمار، كنا مملوئين بيقين نبوي بأن الغد غدنا، ونرى مصر عروساً تزف إلى التقدم والرخاء.

كنا جيلاً من الأبرياء الأتقياء، أطفالاً كنا في بدايات البدايات، نعبث في رمال أيامنا كي نبني قصوراً ملونة

كانت طفلة من نفس عمري، إلا أنها تسير إلي جواري، كتفا بكتف، تهتف مثلي، وتشارك معنا في اجتماعات منظمة الشباب، ذكية لماحة مؤمنة بسطور الوطن كما نقرأها حتي النخاع، وانفلت فيما بيننا شعاع، شيء لا ندرك كنهه، لكنه يتسلل في مشاعرنا وينمو ويقارب بيننا، لم ننطقه حروفاً، كان سلوكاً ملائكياً ينسجم مع عصر البراءة.

وفي شهر مايو/أيار من العام 1967، وكنا منهمكين في دروس نهاية العام، أغلق عبد الناصر خليج العقبة، قابلتها مصادفة في الشارع، كانت تحمل كتباً وكراسات، وقد مضت أسابيع علي آخر لقاء جمعنا، فرحة اللقاء لم تكن وحدها سر بريق عينيها العسليتين البديعتين، وإنما شيء آخر، قالت لي بحماس حاولت أن تسيطر عليه : “خلاص.. جه وقت تحرير فلسطين!” ورغم حماستي التي لا تقل عن حماستها، شعرت بما يشبه الزلزال، فقد كانت حروف كلماتها تحمل يقيناً لا يقبل الشك أو التفاوض، يقين خام وكأنه انتزع من هذه الأرض التي صنعت للمجد اسمه.

في تلك اللحظة وما تلاها من لحظات وأيام وسنين، شعرت بأنني أحمل مسؤولية هذا اليقين، وبحتمية حماية بريق عينيها وأحلامها. لم أذكر شيئاً آخر قلناه في هذا اللقاء الخاطف، فقد انصرفت، وانصرفت أنا إلى تدريبات الدفاع المدني التي التحقت بها..

صباح يوم 5 من يونيو/حزيران 1967 كنت ورفاقي نصطف في ملعب كرة القدم الملحق بالمدرسة الثانوية، نرتدي زي الفتوة العسكري، وأمامنا أحد ضباط القوات المسلحة واسمه الرائد يحيي، الذي كان يلقي علينا الأوامر الصباحية حين فوجئنا بصراخ وهتاف يأتينا من المنازل المجاورة للمدرسة، بينما يقفز رجل في إحدى النوافذ وهو يجلجل بصوته: “أسقطنا مئة طائرة للعدو”.

فوجئنا بصراخ وهتاف يأتينا من المنازل المجاورة للمدرسة، بينما يقفز رجل في إحدى النوافذ وهو يجلجل بصوته “أسقطنا 100 طائرة للعدو”

في يوم 9 من يونيو/حزيران 1967، كنت مع عائلتي ننتظر الخطاب الذي أعلن أن الرئيس جمال عبد الناصر سوف يلقيه. ومنذ اللمحة الأولى التي ظهر فيها وجه عبد الناصر علي شاشة التليفزيون، أدركت أننا في محنة، وخاصة عندما نظرت في عينيه، خبا البريق فيهما، بريق الحماسة والثقة التي كنت قد شاهدته في عيني حبيبة القلب قبل أيام. ولا أدري كيف تابعت الخطاب حتي نهايته، ولكنني أتذكر بشدة لحظة النهاية، فقد أفقت على صوت صراخ وعويل، ووجدت نفسي أتجه صامتاً إلي حجرتي حيث انتزعت صورة كبيرة للزعيم كنت أعلقها علي الجدار، وحملتها نازلاً إلي الشارع حيث وجدت الملايين قد سبقتني إليه وهي تهتف بصوت واحد، شعار واحد لم يؤلفه أحد، ولم يلقنه أحد، مجرد كلمة واحدة : “ها نحارب”، تتكرر في هدير طاغٍ، وكأنها تريد بوعي أو بغير وعي أن تعلو فوق أصوات انفجارات قذائف المدافع المضادة للطائرات التي توالت في نفس الوقت، كأنها رسالة مختصرة من شعب مصر إلي كل من يهمه الأمر، مفادها أن هذا الشعب لن ينهزم.

“ها نحارب” تتكرر في هدير طاغٍ وكأنها رسالة مختصرة من شعب مصر إلي كل من يهمه الأمر، مفادها أن هذا الشعب لن ينهزم

منذ ذلك التاريخ البعيد، مرت تحت الجسور مياه كثيرة، إلا أن أوراقي كانت تحمل دائماً وقفة للتذكر والتدبر كلما حل شهر “يونيو/حزيران” ولعل ذلك كان خلف إصراري في قراءة ملايين السطور والتفتيش عبر وثائق كثيرة أتيحت لي كي أفهم، فربما وجدت للجرح القديم رتقاً، ولعل ذلك أيضاً كان خلف سلسلة المقالات التي نشرتها متتالية في مجلة الدبلوماسي تحت عنوان: “وثائق أمريكية سرية عن النكسة”، ورغم أنه كان لي شرف المشاركة ضمن قوات الصاعقة المصرية في نصر أكتوبر المجيد، ورغم وسام الشجاعة من الطبقة الأولى الذي يزين صدري، فما زلت حتي اليوم أحرص علي زيارة هذا القبو المظلم، أحاول بمصباحي الخافت أن أضيئ بعض جوانبه الغامضة، وربما هو نوع من الإدمان لهذا الحزن المعتق، ولكنه بالتأكيد أيضاً جهد واعٍ يهدف إلي نقل صورة حية لمشاهد فترة من فترات الانكسار، حتي لا تسقط من ذاكرة الأمة، وتظل درساً ونبراساً، إنه درس لا تنقطع فائدته، ونبراس يؤكد مقدرة هذا الشعب العظيم علي تجاوز أقصي المحن والأحزان، وأن إرادة الانتصار تحقق المعجزات.

…………………

لقد أصبحت رفيقة الدرب القديمة جدة، مشغولة بأحفادها وبعملها، مات عنها زوجها منذ بضع سنوات، تغيرت كثيراً ليس بفعل الزمن وحده، وكانت السنوات قد باعدت بيننا، حيث كان آخر اتصال حقيقي هو رسائلها التي كانت ترسلها لي في جبهة القتال، كانت سطوراً ملتهبة مثلما كانت سطوري أيضاً في رسائلي إليها، إلا أن تلك السطور لم تتطرق أبداً إلي ذلك الشعاع الخفي الذي انبعث فيما بيننا، كانت لا تزال متمسكة بالحلم رغم اليأس المسيطر في سنوات الهزيمة، وكنت واثقاً من النصر رغم كل الشواهد التي تشير إلى غير ذلك، كانت تكتب لي عن القاهرة كما تراها وتعايشها، وتعلق غاضبة علي مشاهد سلبية، وكنت أكتب لها عن قناة السويس، عن جيل كالرهبان ينعزل في ملاجئ الخط الأول للقتال، شباب لم يعد لديهم سوى حلم واحد وهدف واحد وهو إزالة العدوان من فوق أراضينا الطاهرة، بإيمان لا يتزعزع بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

في الجبهة كنا نتبادل قراءة الخطابات التي تجيئنا من الوطن، وكنا نهتم بالطبع وبضرورة عاطفة الشباب، كنا نهتم بتلك الخطابات الغرامية، وأحياناً كنا نطلب ممن وصله خطاب بديع معطر أن يعيد قراءته لنا مرة ومرة، وقد كان رفاقي يتعجبون من خطاباتها التي ترسلها، حتى أنهم منحوها درجة “الباتشاويش”، فيسألوني ساخرين عما إذا كان قد وصلني خطاب من “الباتشاويش” بما تحمله من جدية وتأمل في أحوال الوطن، وكان رأيهم أننا في الخنادق الأولى ولا نحتاج إلي من يذكرنا بواجباتنا، ولكنني كنت في كل خطاب لها أرى من بين السطور بريق عينيها القديم، يدفعني، يحثني، يبارك الغد القادم ببشارة الانتصار.

…………………

قابلتها مؤخراً في إحدى المناسبات الاجتماعية، ولأول مرة منذ ذلك اللقاء الأخير في صيف 1967، لم أكد أتعرف عليها، ولكنها عرفتني، أصبحت عجوزًا، أمتلأ وجهها بالتجاعيد، وقد لفت شعرها بخمار أبيض، لم يعد البريق في عينيها هو البريق القديم نفسه، تبادلنا أخبارنا، عرفت منها قصة زواجها، قالت في خفر وحياء إنها كانت تنتظر فارسها، وعندما تأخر لم تمانع في قبول أول فارس دق باب أسرتها، تحدثت بحب شديد عن ذكرى زوجها الراحل، عن أطفالها الذين كبروا وغادروها واحداً إثر الآخر إلي بيت الزوجية، وتحدثت كثيراً عن أحفادها وخاصة أحدهم التي قالت أنه يشبهني، وضحكت معلقة بشيء من المرارة: “هذا الولد المجنون.. يريد أن يحرر فلسطين!”، وأغرقنا في الضحك حتى أدمعت عيوننا. انصرفنا في النهاية من دون موعد لاحق، بل نسينا تبادل أرقام الهواتف..

وفي طريق عودتي بالسيارة، وبين الظلام المحيط، تعجبت من حقيقة أننا لم نتحدث عن أي شيء يتعلق بالشأن العام، كان الحديث عن الأولاد والأسعار وبعض فتات الذكريات، قلت لنفسي لقد شاخت وشخت وشاخ كل شيء، ولكنني فجأة تذكرت حفيدها الذي قالت إنه يشبهني، لقد وصفته بالجنون لأنه يريد أن يحرر فلسطين، وتمنيت أن أراه كي أتأكد أن أوراق الشجرة الباسقة تتجدد، وأن تلك التي ترميها رياح الخريف، تخلي مكانها لعشرات الأوراق الطازجة، وأن البريق لم يخفت، وأن الطريق لم ينقطع.

……………………..

يونيو.. أيها الدن الذي يحمل أشد الخمور مرارة.. سيظل مذاقك في حلقي، ولسوف أواظب زيارة قبوك المظلم الرطب العفن.. ليس حباً فيك، أو رغبة في ملء كأس الأحزان.. وإنما لأنك كنت القاتل الذي اغتال سنوات عمري الذهبية، وقد قررت مطاردتك إلى آخر العمر حتي لا أتيح لك مرة أخرى أن تغتال البراءة فوق أرضنا الطاهرة، وعلي أي حال فإن قليلًا من خمرك المعتَّق قد يصلح بعض العقول التائهة..

أما أنت يا وردة الصبا الفائحة، فما زلت أرى بريقك القديم، ولن أعترف أبداً بتلك الصورة الشائخة التي صرت عليها، فما زالت سطورك الدافقة دافئة، تحكي عن الوطن والأمل ويقين النصر وحلم الغد الطموح، سوف يضع حفيدك الزهور على ترابنا، ولكنه سوف يمضي في الطريق.. الطريق الذي اختطف في صيف 1967.. فسلامي له، ولكل الرفاق الذين أحبوا هذا التراب المقدس إلى درجة التوحد فيه.

المصدر : الجزيرة مباشر