مطرٌ من نار.. الحربُ على غزة

دقيقةٌ واحدة، دقيقةٌ واحدةٌ فاصلة بين الحياة و الموت، بين الاعتياد و الصدمة المفاجأة، بين العمر المليء بالذكريات و بين اللاشيء، الصور القديمة كلها تتلاشى و تمسح آثارنا الباقية و خطواتنا تمسح في الثواني الستين، دقيقة باقية لاغتيال المنزل الحزين، ينظر من بعيد نظرة وداعٍ إلى أهله وساكنيه يبادله أهله النظرة ذاتها بعيونٍ جافةٍ كصحراء قُطِع عنها المطر فأصبحت عقيمًا لا تطرح الدموع.
دقيقة واحدة لإبلاغ الجيران الملاصقين بهجر بيوتهم الجريحة ولإشعار الحي بأكمله بأن هناك منزلا يحتضر، بأن صاروخ الموت يحوم وسيسقط في الثواني المتبقية، نوافذ المنازل كلها جردت من زجاجها خوفًا من أن تتحول لشظايا وسكاكين زجاجية تنغرس في أجسادنا الهشة، دقيقة وجميعنا متراصون بجانب الحائط، يأمرنا أبي بالتفرق في عدة غرف وأماكن حتى لا يأخذنا الموت دفعة واحدة!  ولكننا نتجمع معا؛ خوفًا من الموت فرادى، كي لا نموت مرتين، فالموت في جماعات أرحم بكثير، الثواني هذه مهمة جدًا، نحاول فيها حفظ وجوه بعضنا وملابسنا الأخيرة التي نرتديها، خوفٌ ينتابنا من عدم تذكر هيئتنا الأخيرة!

دقيقة واحدة تسافر فيها إلى حواسك العذراء حيث الديناصورات المنقرضة والطبيعة الصافية البريئة، نحو عوالم تألفها ولكنك هجرتها، هذه الحواس لا يعرفها إلا من عاش الحرب تخرج فيها عن الحياة المعروفة والاعتيادية، تهرب فيها لنفسك الأولى، دقيقة واحدة مليئة بالهدوء المخادع، بانتحاب الصغار وتماسك النساء وحيرة الآباء وعيونهم التي تدور في قلق جنوني. وأنا الجالسة في اللاشيء، يكبر اللاشيء ليلفني بداخله، لا أشعر بشيء سوى الفراغ، يقطع الصوت انفجار الصاروخ ونحيب البيت الحزين تتلوها صرخة تخرج من جوفي فأتفاجأ من اللاشيء كيف خدعني وأخرج هذه الصرخة، هل أنا خائفة؟ لا أعرف ولكنه الموت! لا يهم هي دقيقةٌ واحدة فاصلة بين أجسادنا المحسوسة وأرواحنا السابحة في الفضاء. لم أكن خائفة وهذه الصرخة لم تعكس داخلي لذا كان علي في كل المناوشات المسبوقة باستقبال الصواريخ أن أضغط على لساني لكي لا تنفلت منه الصرخة رغمًا عني، دقيقة واحدة، وتهاوت غرف الدار الحزينة و تهاوت معها قلوبنا.

ولتنتهي الحفلة المحضرة مسبقًا ولتبدأ حفلة أخرى لا نعرف موعدها ولكننا ننتظرها، يكون فيها الصاروخ هو شمعة الوفاة وبداية الآلام التي لا تخمد أبدًا.

وأنا كالعادة أهرب من النوم أخاف أن يهبط فوق رأسي صاروخ فلا أستطيع الهرب لموت قدماي و ارتخاء عضلاتي

الليالي أسوأ ما في الحروب كلها لا أعلم لماذا؟ ولكن لربما بسبب الصواريخ الحاملة للهب الأحمر الذي يضيء ليالي الصيف مثل البرق في الشتاء ولكن البرق أقل سادية فهو ينذرنا بأصواته الرعدية، ولكن الصوت والضوء هنا يتصاحبان معًا، فتكون الصدمة والخوف أشد وطأة على قلوبنا الواجفة من رهاب المشهد، النوافذ كلها خلعت زجاجها؛ خوفًا عليها فتفصلها عنها رغم حبها وحاجتها إليها ولكن الخير في رميها أكثر، فهي لن تؤذي أحدًا وبهذا لن تستبدلها وتفارقها فراقٌ صغيرٌ أفضل من الوداع الأبدي!

في إحدى الليالي الكبيسة، كانت الكهرباء مقطوعة وأنا كالعادة أهرب من النوم أخاف أن يهبط فوق رأسي صاروخ فلا أستطيع الهرب لموت قدماي وارتخاء عضلاتي ولكن كان لا بد من النوم بعد ثلاث ليالي، تسلل فيها النعاس إلى جفوني وجدتني نائمة و لكني أدركت ذلك بعد أن استيقظت على صوت انفجار صاروخ في بيت جيراننا المقابل لنا، هربت و إخوتي من الغرفة، كان هناك صاروخ آخر يسقط و ضوء أحمر قبالة عيني، سنموت كلنا بعد أقل من ثلاثين ثانية من ركضنا تجاه صالة البيت ولكن مضت ستون ثانية وأكثر ونحن متسمرون مكاننا، أوه لم نمت كنا نحملق بعيون بعضنا فرحين بحياتنا، مذهولين من فشلنا الفيزيائي وفي حساب وقت سقوط الموت وزمن ركضنا! ولكن المفاجأة المضحكة المبكية هي أن الضوء الأحمر كان ضوء غرفة جارنا العجوز المشابه لضوء الصاروخ متزامنًا مع صوته في آن واحد، تبًا للموت هل كان يسخر منا طوال الوقت؟ ما هذه البروفات السخيفة التي لا طائل ورائها؟! هو يعلم أنه حين سينقض علينا لن يبعث بصاروخ تحذيري يمنحنا ستين ثانية من حياتنا لنكفل فيها فقط أرواحنا دون مقتنياتنا .. تبًا لهم كيف يضعوننا تحت الامر الواقع، وهكذا عدنا للغرفة منتظرين الموت حتى إشعار آخر!

من يخرجون من بيوتهم يحملون السلاح صادين عن غارات العدو يودعون عوائلهم، يجلس الموت فوق رؤوسهم يزحفون و يركضون

هنا غزة، صوتُ الراديو ينبعثُ من كلِ مكان أسمعه من بيوت الجيران وغرفة جارنا العجوز الذي ألفته الحروب، كم أكره الراديو والأخبار، كل ذكرياتي معه رافقتني منذ طفولتي في الاجتياحات البرية واقتحام البيوت والممارسات البشعة التي يمارسها الاحتلال، كانت أمي تدير المذياع ونسمع جوليا بطرس تصدح بصوتها الثوري “وين الملايين الشعب العربي وين”، ليعلق أبي بأن لا ملايين موجودة فقط الكثير من القلوب الجبانة والخائفة، التطبيع فقط موجود.
الفارق الوحيد أنهم استبدلوا الفوانيس الحارقة بصواريخ مزللةٍ ومجللة لا تبقي ولا تذر إلا من شاء الله، كنتُ ومازلتُ أسمع الراديو يصدح من أراضينا المحتلة يصف أجواء العيد في اليوم الأخير من شهر رمضان، الكثير من العروض والخصومات المميزة غير الموجودة في غزة، كنت أود أن تكون ذكرياتي بالراديو مرتبطة بالسعادة ولكنها تنداح ألمًا خاصة يوم سمعت نبأ قصف بيتنا العتيق وغرفة نومنا.. صندوق طفولتنا وذكرياتنا، نعم بكينا حزنًا وشاركنا بيتنا مصابه ما كان لنا أن نخون. أدرت المذياع مجددًا المذيع يتحدث عن ثلاث ساعات من التهدئة! الناس الذين هربوا من بيوتهم قفلوا راجعين؛ ليأخذوا القليل من المتاع وليتأكدوا من سلامة مساكنهم، في تلك الليلة كنت خارجةً من المشفى، مشهدٌ لم أره في حياتي كلها، راعني ما شاهدت، الناس يخرجون أفواجًا من كل حدب وصوب على أقدامهم وفي العربات الضخمة، أهي نكبة ثانية! تلفت حولي أبحث عن جدتي؛ لتصادق على أفكاري ولكنها لم تكن، فقط ريح التشرد والبؤس منتشر.

لم تمض ساعة، واخترق العدو الهدنة ليعلق العائدون، و ليموت من يموت، و يهرب من يهرب، هنا شعرت بأني محظوظة مع ولوجي للبيت، وبدء الأمطار الساخنة بالتساقط، ثم لأبدأ بتقريع ذاتي بأن هناك العديد من ماتوا وأصيبوا حين سلمتِ أنتِ فأنهر نفسي وأنهي حديثًا أعرفه لأنبه على أني أيضًا ورقةٌ في يد جوكر الموت ربما يصيبني ويزورني بعدها ليدلل على نزاهته، ثم أبدأ بالتساؤل عن ذنبنا نحن الفلسطينيون، من يخرجون من بيوتهم يحملون السلاح صادين عن غارات العدو يودعون عوائلهم، يجلس الموت فوق رؤوسهم يزحفون ويركضون، ولكنه متشبث بنواصيهم يجذبها رافضًا تركها، يترقب فرصة ليعانق حناجرهم  ويسلبهم أرواحهم، ونحن المدنيون العزل في حين يتكالب المحاربون على بعضهم، كلٌ منهم حاملاً بندقيته، على رأسه خوذته وأمام قلبه بزةٌ تحمي قلبه المتواري خلف ضلوع صدره، هناك آلاف المدنيين العُزّل أمثالنا ممن يواجهون الموت غير مسلحين سوى بآياتٍ وأدعية، بأصواتٍ واجفة خائفة، مشهدٌ كهذا يُكرر يومياً في بلادنا المغصوبة و المحروقة بألسنة نيرانهم و مدافعهم، هم يركضون نحو الجحيم، و نحن نركض نحو ظلٍ باردٍ دافئ يحمينا ويحتضننا، آملين أن نعيش مستقبلاً أفضل يزهر فيه الأمل، و لكن تهمتنا أننا فلسطينيون وأننا عرب نرفض التسليم والتطبيع ونسيان بلادنا وأرضاينا. حروبٌ كثيرة عشناها وما زلنا مهددين بها ننظر كل يوم للسماء خوفًا من مطرٍ حارقٍ يلهب قلوبنا وبيوتنا، منتظرين فيه صباحًا آخر مدهوشين من بقائنا على قيد الحياة بعد انحسار عاصفة الليلة الساخنة، ناظرين للسحب الفولاذية التي تُهطِل على رؤوسنا مطرًا من نار.

المصدر : الجزيرة مباشر