أكتب لكم عن حي الشيخ جراح.. أنا حفيدة أبو نبيل الكرد!

أبدأ اليوم بسرد حكاية عائلتي للعالم بأسره، وهي التي أصبحت معروفة من مشرق الأرض لمغربها، جذوري وعائلتي تمتد لمدينة حيفا الساحلية، كان جدي (أبو نبيل الكرد)، يقطن وجدتي هناك، شابان يافعان في مقتبل العمر تزوجا واحتضنا أطفالهما كبقية الناس، يعملون في مطعم جدي الذي ورثه عن أبيه، يقع البحر أمامه مباشرة، كان جدي يقول لا حياة دون حيفا وبحرها، ولا غروب كغروب فلسطين، لم يدرِ جدي بأنه سيفارق حيفا مع زوجته وأبنائه بعدما زحفت قطعان المستوطنين على فلسطين في عام النكبة (1948).

وبعدما زُج به في الزنزانة لرفضه ترك مدينته وتسليم بيته وقوت يومه وعائلته، علماً أن ترخيص وأوراق ثبوتية بيتنا ومطعمنا في حيفا لا تزال قيد الحفظ والصون، وهكذا هُجّرت جدتي وأولادها من حيفا ليصبحوا لاجئين، قبل أن تتفق الأردن (وهي التي كانت وما زالت مشرفة على الأراضي المقدسة بعد سقوط الإمارة العثمانية، عام 1922) مع وكالة الغوث على بناء بيوتٍ لنا عقب تهجيرنا من مدننا المجاورة والسكن في حي الشيخ جراح.

هجِّرنا إلى تلك الأراضي الحرجية -والتي كانت مليئة بالأشجار فقط- مقابل سحب أوراق تعريفنا كلاجئين، الأمر الذي يعني عدم إعانة هذه الأسر بأي شكل، والتي لم يتبق لها مصدر دخل أو رزق.

استمر الحال هكذا حتى عام النكسة (1976)، حين بدأ المخطط الاسرائيلي الاستيطاني والذي يتضمن بناء (200) وحدة سكنية للمستوطنين، وفي 1972 رفع السارقون والمغتصبون علينا قضية بأن لهم الحق في أربعة بيوت (بيت حنون، والغاوي، وحجيج، والحسيني)، وأنها تعود لمؤسسات صهيونية!

كلنا حبوب قمح

وبقي الحال حتى عام 1976، حين عُيِّن محامٍ صهيوني نيابةً عن الفلسطينيين، إذ لم  يكن بوسعنا تعيين محامٍ عربي، وبهذا أصبح القاضي والمحامي دجاجة، وكلنا حبوبُ قمح، والذي أقر بأحقية المستوطنين في الحي، وفي 3 أغسطس/آب 2009 أغارت قطعان المستوطنين المسلحة والعنيفة على الحي محمين بقوات الاحتلال وبنادقهم وقنابل الغاز وكلابهم البوليسية والأحصنة، وقلعوا جيراننا من منازلهم، ولكنهم لم يبرحوا الحي حتى لو كان الثمن أرواحهم، فمكث جيراننا (عائلة الغاوي، وعائلة حنون) تحت شجرة التين ستة أشهر، حتى أصدرت المحكمة قرارًا بطردهم من الحي بدعوى أنهم يمثلون مشهدًا غير حضاري! واستأجرت هذه العوائل بجوار القدس.

أما عن حكاية منزلي، والتي لا تشبه أي حكاية سابقة، فقد بدأت في عام 2009 أيضاً، والذي كنت أبلغ فيه (11 عامًا)، حين هجمت قطعان المستوطنين على بيتنا وأزالوا بابه، وكان يبلغ عددهم 65 مستوطنًا أو أكثر، بعدما ادعوا أنهم يمتلكون المنطقة منذ عام 1885، واسمحوا لي هنا أن أفند هذه الأكاذيب الباطلة بالأصول التاريخية الحقيقة والتي تقف عليها تركيا شاهدة الخلافة العثمانية وكذلك غيرها من الدول العربية!

ففي المدة ما بين (1516-1817) حكم العثمانيون فلسطين من إسطنبول، وفي عام (1887- 1888) قسّم العثمانيون فلسطين إلى مقاطعات، وفي مارس/آذار 1883 أصدر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قانونًا يُحرِّمُ بيع الأراضي الفلسطينية لليهود الأجانب.

موقف السلطان العثماني

وفي يوليو/تموز 1891، أصدر السلطان أمرا برفض الرجاء المقدم من 440 من اليهود المهاجرين للسماح لهم بالاستيطان في حيفا، وعدم قبول طلبهم بأن يكونوا من رعايا الدولة العلية العثمانية، كذلك منع الزائرين منهم المكوث في الأراضي الفلسطينية أكثر من ثلاثة أشهر.

وفي يونيو/حزيران 1896 حاول ثيودور هرتزل رئيس الوكالة اليهودية لقاء السلطان عبد الحميد الثاني لإقناعه بالسماح لليهود الهجرة إلى فلسطين مقابل سداد ديون الدولة العثمانية بشكل كامل.

لكن السلطان العثماني رفض هذا العرض السخيف والمخزي، هؤلاء هم الصهاينة الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، يقفون متسولين أمام القادة والسلاطين يستجدون شبرَ أرضٍ من فلسطين، ولكنهم عادوا وردوا صِفرَ اليدين، حين كان هناك أمناءٌ وعظماء، لا مطبعين متصهينين، وأنى أن يكون لهم حقٌ أو ملكٌ في فلسطين وبيتنا، تاريخٌ مزور، ووثائقٌ مزورة؟!

كل يوم أستيقظ وأتمنى كما لو أنه كابوس مزعج، ولكنه وللأسف كابوسٌ حقيقي نراه في النهار قبل الليل منذ خمسٍ وستين عاماً حين زحف هذا الشيطان الصغير العمر -الكيان الصهيوني- على حينا، أن ترى العربدة والقذارة من قِبل المستوطنين هذا حملٌ تنوء به الجبال فكيف بالفلسطينيين يحملونه ولا يضيعون الأمانة؛ أمانة الأرض المقدسة والرباط فيها وعليها.

كابوسٌ أعيشه أنا منذ نعومة أظفاري حين كان عمري أحد عشر عاماً حين قَدِم قاضي محكمة الزور والبهتان بذاته المخزية والحقيرة الشأن ليؤمِّن المستوطنين المتعربدين من المكوث في بيتي الحزين الذي تكاد تنهال جدرانه عليهم كمدًا وقهرًا، تكاد نوافذه تخلع نفسها من القذارة التي حلت بها وعليها، وبابه أكاد أجزم أني أراه يركض ويدفن نفسه في قاع البحر علَّ لنجس الذي حل به يٌمسَح ويندثر، سرقوا بيت والدي الذي لم يستطع أن يقطن فيه وهو أمام ناظريه، بدعوى أنه بناء غير قانونيّ، كذلك تم تغريمنا بمبالغ مالية عالية ليس بوسعنا سدادها، وحين أردنا هدمه تم مُنعنا من ذلك حتى أحلوا فيه مستوطنيهم من دون ترخيص!

(لن تُهزمَ أمةٌ قائدها محمد) هذا شعارُنا -نحن المقدسيين- بوجهٍ خاص، فضلًا عن الفلسطينيين بشكلٍ عام، كيف لا ونحن نصبر -كما صبر نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)- على أذاهم؛ فهم يلقون القمامة علينا، ويقفون عراةً أمام واجهة منزلنا، يشتموننا بأفظع الكلمات، يُطلقون كلابهم على صغارنا.

وحين تحاول أن تخاطب مستوطنًا بالمنطق، مخبرًا إياه أن هذا هو بيتي، يقول لك (يعقوب) وبكل بساطة: (إن لم أسرقه أنا، سيسرقه غيري)!

لا زلت أذكرُ حين كسّروا ألعاب أختي الصغيرة، وحين سرقوا سريرها الدافئ منها، وحرقوه أمام أعيننا، مصرحين بأن لا أمانَ لكم هنا ولا طمأنينة، والطفولة كذلك مستباحة.

حكاية عائلة

تم اعتقالي وشقيقي محمد بتهمة تهديد الأمن السلمي في ظل الأوضاع في حي الشيخ جراح! استيقظت على صوت ضرباتهم العنيفة على باب المنزل، واقتحموا غرفتي، ولم ينتظروا أن أغيّر ملابسي، بل وانتهكوا خصوصيتي بأن دخلت إحدى المجندات معي لبيت الخلاء. تم تكبيل يديَّ وقدمي، وكذلك أخي (محمد)، وبقيت أنتظر التحقيق لمدة (ساعتين أو ثلاثة) إلى حين إدخالي للتحقيق، وهنا أيضا بدأت عربدة المستوطنين الضباط، فقد بدأ أحدهم بشتمي ونعتي بما هم عليه (هل أنتِ مبسوطة بالكلبشات على يديكِ، الدنيا بدور، وهيك اليوم عنا، وبجيكِ يوم، كل كلب وبيجيه يومه) تهديدٌ علني، وحين لفت نظر المحققة لما هي مصادقةٌ عليه، قالت: (هو لم يقل شيئًا، ويمكنه شتمك بكل أريحية، ليس هناك قانون يحاسبه)!

واستكملوا التحقيق معي بعدما أخذوا بصماتي وصوري، حاولوا أن يخدعوني بالتوقيع على بعض الأقوال، والصفحات المكتوبة بالعبرية ولكني رفضت، رأيت هناك أخي (محمد) الذي نال منهم ما نلته، لم يُسمح لنا بالتحدث مع بعضنا فقط كانت الابتسامة عيوننا هي طريقة التواصل مع بعضنا البعض، أخبره فيها أنني بخير.

خرجت بلا شروطٍ أو قيود، هذا الاعتقال ما كان إلا لترهيبنا وتكميم أفواهنا، وعدم نقل الصورة للعالم، خاصةً أن الحي مغلقٌ بالسواتر الحديدة، والمكعبات الإسمنتية، كي لا تنقل كاميراتنا جرائم (التطهير العرقي في الشيخ جراح)، فقط كاميراتهم المزروعة في كل مكان هي المسموحة لها بتصوير تحركاتنا، وعد أنفاسنا، ولكن هذا بعيدٌ عن أعينهم، فما دامت الروح تدُبُّ فينا، وما دام الزيتون متجذرًا في أرضنا نحن هنا باقون، صامدون مرابطون، كشوكةٍ عالقة في حلق هذا الاحتلال الغاشم ترفض التزحزح أو الخنوع.

هذه حكاية عائلة، وما زال هناك بقية…

تحيةً لكم من غزة العزة✌

✍: غادة زهير

المصدر : الجزيرة مباشر