التجربة التونسية بين الطابور الخامس وأعداء الثورة

انتصر القوميون في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الجمهوريين بعد تصريح مدريد الشهير الذي قال فيه زعيم القوميين إنه سيدخل مدريد بأربعة طوابير وإن هناك طابورا خامسا داخل مدريد يستعد للتحرك.

تونس تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية منذ سنوات ولم تهدأ فيها الساحة السياسية منذ 2013  ولم تستقر، إما لتفككات أحزاب في الحكم أو اضطرابات اجتماعية عنيفة أو لتحركات نقابية قوية ضد الحكومة. ولم تخرج الساحة عن تلك القاعدة حتى  جاءت انتخابات 2019 لتعلن عن وضع جديد وأمل انتظره الجميع لإنهاء اضطراب منظومة الحكم من خلال نجاح كتل قوية قادرة على تشكيل حكومة قوية ومستقرة فكانت صدمة كل التونسيين في بروز الطابور الخامس الذي يضرب من داخل الثورة وفي قيمة الثورة ليجهزعلى الديمقراطية كما فعل القوميون الإسبان.

ولا نغفل في هذا السياق أن نقف عند ارتباكات واضطرابات في صف حكومات الثورة التي ظهرت مترددة وفاقدة لخيار الشجاعة

مرت السنوات العشر بعد الثورة ولا تكاد تمر منها سنة إلا وزينتها الاحتجاجات واستعمال الشارع في فرض خيارات سياسية منها ماهو مشروع بمناسبة إعداد الميزانيات ومنها ما هو سياسي لإسقاط حكومة أو لتغيير الموازين السياسية في برلمان او حملات انتخابية متواصلة. وإلى حد ما مقبول كل هذه الاستراتيجيات من المعارضة لتسقط الحكومات، ويبقى خط المبادئ المشتركة التي لا يمكن تجاوزها للمجتمع السياسي وهو العمل الديمقراطي السلمي، لكن تم باستعمال العنف في الشوراع والأحياء الشعبية في الليالي الطويلة في سنة  2021  ولا نغفل في هذا السياق أن نقف عند ارتباكات واضطرابات في صف حكومات الثورة التي ظهرت مترددة وفاقدة لخيار الشجاعة في المواجهة لتنفذ خياراتها وتوجهاتها ورؤاها في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وظهر هذا في توجه إصلاح الإعلام ومشروع رقمنة الإدارة وبرنامج إصلاح المؤسسات العمومية وملف استرجاع الأموال من رجال الأعمال المدانين للبنوك منذ قبل الثورة. ورغم سن  قانون مشروع  المصالحة الإدارية فإن الملف لم يعالج وربما يعود هذا إلى أن جزءا واسعا من السلطة ليس بيد الحكومات بل موزع في أدوات أخرى صنعت من خلالها  الثورة المضادة منصات لتعطل الثورة. ونتحدث هنا على جزء من الإعلام و النقابات وجزء آخر من الإدارة وقد شهدت البلاد بعد سنوات التوافق السياسي إثر انتخابات 2014  تراجعات كثيرة وضعفا للثورة المضادة التي هي في الحقيقة لم تقدم مشروعا مغريا للشعب التونسي بديلا عن المشروع الديمقراطي وأفقه في التنمية العادلة وخلق الثروة من خلال اقتصاد السوق والاقتصاد التضامني الاجتماعي الذي صادق عليه البرلمان في دورته الأولى بعد انتخابات 2019.

وفي ذروات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي من كل سنة عادة ما تضيع بوصلة البلاد وتضيع الهموم الحقيقية للشعب كالبطالة وغلاء المعيشة ويضيع الوقت في النقاش والصراع السياسي بين أطراف الساحة السياسية. وعلى خلاف السنوات السابقة ولأول مرة بعد سنة 2013 قرر حزب حركة النهضة إيقاف النزيف بالخروج في مسيرة حاشدة يوم 27 من فبراير/شباط 2021 التي خرج فيها مئات الالاف دعما للدستور وللاستقرار والبرلمان ولتثبيت مؤسسات البلاد، مسيرة دعت للحوار الوطني وللتوافقات السياسية والاقتصادية ضد الشعبوية وضد الفكر الانقلابي غير الديمقراطي

عملت الشعبوية السياسية والطابور الخامس والأطراف الانقلابية المعادية للثورة على الاحتكام إلى الشارع والدعوة إلى حل البرلمان وإسقاط حكومة التكنوقراط التي اختار رئيس الجمهورية بنفسه رئيسها. ورغم طريقة تشكيل الحكومة غير المناسب وتم فيها الإخلال بمفهوم التشاور مع الأحزاب والكتل البرلمانية فإن الكتل البرلمانية الكبرى ذهبت إلى دعم الحكومة وأن تكون هي الحزام السياسي لحكومة التكنوقراط برئاسة هشام المشيشي وهذه الكتل هي كتلة حركة النهضة وكتلة قلب تونس وائتلاف الكرامة والإصلاح  وكتلة تحيا تونس وكتلة من المستقلين.

وعلى خلاف كل سنة أيضا وقفت المنظمات الوطنية في صف الحوار الاقتصادي والاجتماعي وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل

مع تشكل الحزام السياسي لحكومة التكنوقراط بقيادة هشام المشيشي برزت كتل الطابور الخامس لتنهك البلاد منها الانقلابية والشعبوية (تيار ديمقراطي وحركة الشعب) والانتقامية المعادية للثورة (عبير موسي) خاصة بعد تعطيل التعديل الوزاري الاخير الذي نصب فيه السيد رئيس الجمهورية ناطقا باسم القضاء ولم يقدم أي شيء يثبت فساد الوزراء. وفي خطوة مفاجئة ومخالفة للدستور بإجماع واسع من  رجال القانون الدستوري في البلاد لم يستدع الوزراء الجدد لأداء القسم إلى يوم الناس هذا، ما جعل رئيس الحكومة يذهب في اتجاه الحكومة المصغرة وقد طالبه الحزام البرلماني والسياسي بتفعيل التعديل الحكومي واستدعاء الوزراء الذين منحهم محلس نواب الشعب ثقته إلى مباشرة مهامهم باعتبار أن أداء القسم خطوة بروتوكولية إجرائية لا تمس شرعية التعديل الحكومي وهي عملية واجبة على رئيس الدولة.

وعلى خلاف كل سنة أيضا وقفت المنظمات الوطنية في صف الحوار الاقتصادي والاجتماعي وعلى راسها الاتحاد العام التونسي للشغل في توافق مع الحزام السياسي للحكومة في البرلمان داعين الى إيقاف النزيف السياسي والالتفات إلى الأولويات الاجتماعية والاقتصادية التي لا يمكن أن تنتظر أكثر في وضع اقتصادي دولي صعب إثر جائحة كورونا.

إن هذا الوعي الجمعي لغالبية القوى السياسية والمدنية من منظمات وجمعيات وشخصيات يؤكد خطورة توجهات الانقلاب على الدستور والتغيير الأحادي لنظام الحكم من خلال الممارسة وخارج منطق الدستور ويظهر ذلك في طريقة اختيار رئيس الحكومة وصراع الصلاحيات الذي فرضه رئيس الجمهورية على الجميع، وأيضا الخطاب الأخير لسيادته معلنا ضم كل القوى الحاملة للسلاح تحت قيادته في خرق واضح للدستور.

والخلاصة إذن أن تونس بعد انتخاباتها الاخيرة وقعت تجربتها الديمقراطية في مطب آخر وهو الطابور الخامس الذي ينزع الى الحكم الرئاسوي الفرداني معلنا أكبر عملية تحايل انتخابية في تاريخ البلاد وممكن في كل المنطقة العربية والأفريقية وفي صورة كاريكاتيرية تجاوزنا الثورة المضادة فجاءت الشعبوية السياسية لتسقط التجربة الديمقراطية من داخل قيم الثورة.

انطلقت حكومة هشام المشيشي في المشاورات الأولى نحو الحوار الاقتصادي والاجتماعي وقد شكلت مع الاتحاد العام التونسي للشغل خمس لجان متخصصة لتقديم ورقات في ملفات اجتماعية واقتصادية متنوعة ويأتي هذا التوافق والتقارب بين الشريك الاجتماعي والحكومة والحزام السياسي لها في إطار حفظ استقرار البلاد وإيقاف النزيف السياسي وتعطيل المؤسسات وهذا التقارب أنهى ثلاثة اشهر من السكوت على مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل نحو الحوار الاقتصاد والاجتماعي من قبل السيد رئيس الجمهورية الذي  قبل مؤخرا بعد لقاء مع الأمين العام للاتحاد بالحوار من دون شروط .

نظم الدستور التونسي الصلاحيات بين السلطات وحددها ونظمها وقد تبين أن أصحاب الكرسي لا يطيقون تحديد الصلاحيات وضوابطها فيعملون دائما على التوسع

إن الوعي المشترك بأن مشاكل تونس لا تحل إلا بالحوار وأن السياسة التونسية لا تقبل إلا لغة العمل الديمقراطي المنظم يعزز فرص النجاح لتحريك المعطلات السابقة وإنقاذ الاقتصاد وتلبية حاجيات الشباب.

في خطوة مفاجئة تراجع الرئيس قيس سعيد عن الحوار الوطني بمناسبة إحياء ذكرى وفاة الزعيم بورقيبة يوم  6 من أبريل بالمنستير بل ذهب أيضا متجاوزا الدستور ليعلن أنه رئيس القوات المسلحة العسكرية والمدنية ما صدم الساحة السياسية وكل المتابعين وخرجت التنديدات من كل الأطراف الديمقراطية من شخصيات وأحزاب وقوى برلمانية ونخب مثقفة ورجال القانون والدستور لتوقف العبث بالمؤسسات وبالدولة وتحمي الديمقراطية التونسية

نظم الدستور التونسي الصلاحيات بين السلطات وحددها ونظمها وقد تبين أن أصحاب الكرسي لا يطيقون تحديد الصلاحيات وضوابطها فيعملون دائما على التوسع وهذا التوسع ظهر في شكل نزعات للانفراد بالسلطة ولم يكن لتحسين أوضاع الناس المأزومة فلم نرى بعد مرور سنتين تقريبا على الانتخابات مبادرات اقتصادية الاجتماعية تمس المواطن ولم تصغ برامج لتطرح على المجالس الوزارية تهدف الى توفير الحياة الكريمة بل رأينا تعطيلا لانتخابات المحكمة الدستورية وتعطيلا لتوقيع قوانين لها علاقة بجلب تلاقيح لحماية أرواح  للتونسيين ورأينا تفويتا لمصالح اقتصادية على البلاد ودبلوماسية خارج نطاق الخدمة.

محاولات كثيرة قادها الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات وطنية اخرى مثل اتحاد الفلاحة نحو دعوة الرئيس إلى أن يتحاور مع الساحة السياسية وإلى احترام الدستور فباءت كلها بخيبات، كشفت الحقيقة الواحدة أن تونس إزاء سلوكيات للانفراد بالسلطة والانقلاب على التجربة الديمقراطية مدعومة من جهات خارجية معروفة بعدائها للتجارب الديمقراطية في المنطقة العربية .

وفي ظل توترات وارتباكات وتعطيلات مازالت الحكومة تعمل على فتح قنوات ومسالك التنفس الاقتصادي لتونس وتوفير مقدرات لمعالجة المشاكل الاجتماعية نتيجة وباء كورونا وتعول البلاد على تحسن المناخات الاقتصادية والسياسية في ليبيا وبالفعل انطلقت محافل المظاهرات الاقتصادية التونسية الليبية.

حوار قادم مع صندوق النقد الدولى تعمل تونس على كسب الدعم فيه لتمويل مشاريعنا الإصلاحية بحضور المنظمات الاجتماعية الشريكة للحكومة وقد عبرت دولة قطر الشقيقة عن دعم جهود تونس في السوق المالية العالمية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية والجزائر وعدد من الدول الداعمة للتجربة الديمقراطية التونسية.

ورغم هذا فإن ربيع تونس قادم ورغم الصعوبات والتدخلات المعادية للديمقراطية عبرت تونس بأحزابها ومؤسساتها عن أنها صامدة وقوية وعازمة على النجاح ويفهم هذا من التقارب بين خمس كتل برلمانية رافضة للمساس بمؤسسات الدولة وداعمة لحكومة هشام المشيشي ومستعدة للحوار الوطني من دون إقصاء أي طرف ورافضة لأية خطوات فيها مغامرة وعبث بمستقبل البلاد.

ليست هناك سيناريوهات كثيرة وليست هناك خيارات كثيرة سوى خيار وحيد هو أن البلاد لا تحكم إلا بإرادة الشعب وبالديمقراطية وبالحوار والتوافقات السياسية ورجال السياسة حرفتهم خدمة الناس وجلب المصالح والتوافق والخروج على قاعدة السياسة لا يجلب إلا الدمار والاستبداد وتونس لا يمكن أن تعود لسنواتها المظلمة المستبدة

كمال قال شاعر تونس

إذا الشعب يوما أراد الحياة … فلابد أن يستجيب القدر

المصدر : الجزيرة مباشر