غزة: إعادة العمارة.. أم إعادة الوطن؟!

احتقالات بالنصر

سكتت المدافع في غزة، في نفس اليوم الذي كنت أحتفل فيه بالذكرى الثانية لخروجي من السجن، ورأيت في ذلك بشارات وعلامات.. وكأنهم يحتفلون معي بتلك الذكرى.. وجدتني أتوجه إلى السماء قائلاً: “يا رب، بحق هذا الأذان الذي يصدح من مآذن الأقصى، ليكن ذلك إسراء إلى الحرية ومعراج إلى الكرامة” وأردد صلاة عيد مؤجل ” نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ”

سكتت المدافع في غزة، ولكن بعض ما يتردد من جدل الآن مؤسف، بل وخطير ومتكرر، ولقد سبق أن أنكرت أن قضية الشعب الفلسطيني العادلة يمكن أن تختصر إلى مجرد قضية خيرية تتعلق بجمع التبرعات، فهي قضية تتعلق بحقوق هذا الشعب وأبرزها حق تقرير المصير. لذلك من الضروري قبل التفكير في إعادة بناء المنازل، أن يتم العمل بجدية على إعادة بناء المواقف التي تحمي هذه المنازل من تكرار الهدم كما حدث كثيرا خلال الحقب الماضية.

إن هندسة الموقف الفلسطيني يجب أن تستند إلى ما أضافته نتائج الاشتباك الأخير من تغير في ميزان القوة، وإذا كانت إعادة بناء ما تم تدميره من بنية أساسية وعمارات يمثل أهمية كبيرة، لكنه ليس القضية الملحة، فلقد تكرر ذلك الدمار أكثر من مرة، وتم إعادة بناء ما تهدم كي يتهدم مرة أخرى، بشكل يشبه أسطورة “سيزيف” عن الرجل الذي يدفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل، كي تنزلق كل مرة إلى القاع مرة أخرى، ليكرر رفعها بلا توقف بشكل عبثي..

لقد بدأت بالفعل تبدو من بين دخان النيران، ملامح معادلة جديدة تطل برأسها وتتحدى، تهتف الهتاف الذي تاه في سنوات “أوسلو ” المظلمة: “القدس عربية.. كل فلسطين من النهر إلى البحر عربية “

ولقد ذكرت في مقال سابق تحت عنوان: ” صواريخ العيد من غزة ” أن ” العدوان الصهيوني قد وحد فلسطين بكل أجزائها: داخل الخط الأخضر وخارجه. لم يبق سوى زوال الحكم العنصري من على الأرض المقدسة، لتعود وطنا لكل مواطنيها أيا كانت ديانتهم”.

لقد بدأت بالفعل تبدو من بين دخان النيران، ملامح معادلة جديدة تطل برأسها وتتحدى، تهتف الهتاف الذي تاه في سنوات “أوسلو ” المظلمة: “القدس عربية.. كل فلسطين من النهر إلى البحر عربية “، وأصبح من الواضح انتهاء شرعية أوسلو التي استمرت قرابة ثلاثين عاما بلا طائل، وبرزت شرعية المقاومة التي كانت هي نفسها التي أجبرت العدو قبل ثلاثين عاما على الهروب إلى صيغة أوسلو.

في أول صلاة جمعة بعد وقف إطلاق النار شهدت باحات المسجد الأقصى من الزحام والهتاف غير المسبوق، الذي يعكس وزن النصر رغم كل أكاذيب المنهزمين.

لقد حاول “النتن ياهو” وأركان عصابته في مؤتمر صحفي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معركة الصورة… رغم أن كل إنجازاته هي قتل الأطفال والنساء وتدمير المباني.. ولكنه لم يستطع أن يخفي الحقيقة بأنهم لم يجرؤوا على إرسال جندي واحد عبر حدود غزة.. لقد غرسوا الجبن في نفوس قطعانهم..

قد كتبت قبل ما يزيد علي ربع قرن: ” أنه يجب أن يشعر المحتل بكلفة الاحتلال، وأن كل تجارب الشعوب تؤكد أن المقاومة هي الطريق إلى الحرية، فلقد تفاوض المصريون لمدة جاوزت نصف قرن مع المحتل البريطاني، ولم يبدأ ذلك المحتل في التفكير في الخروج إلا بعد اشتداد المقاومة المسلحة في منطقة القناة “. وكنت أكرر رغم العنت والإساءات: ” أعيدوا الشرف للبندقية الفلسطينية. المقاومة ليست إرهابا”.

ومن المؤسف أن هناك من يحاول إجهاض المعادلة الجديدة التي كتبها الشهداء بدمائهم، باستخدام حجج لا يسندها أي نضال شعبي في التاريخ، أو أي قراءة واعية لما حدث ويحدث من تلاعب بمفهوم السلام، أو حتى ما أكده سلوك العدو الصهيوني منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتي الآن، فبينما انشغل العرب في متاهات ” التفاوض ” الذي يهندسه العدو كما يشاء ويطرحه ” الوسيط ” الأمريكي بالمزاج الصهيوني، كانت قطعان المستوطنين تلتهم الأرض أي ” موضوع ” التفاوض!

ويقولون إن أي اتصال يجب أن يتم من خلال سلطة رام الله، وإن المساعدات لإعادة البناء لن تبحث إلا مع أبو مازن، وكالعادة يتم قذف بعض المقبلات مثل: “استعادة المفاوضات للتوصل إلى حل”، بينما العرب العاربة والمستعربة تردد بلا توقف: “حل الدولتين / دولة فلسطينية علي حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية / ومبادرة السلام العربية التي طرحت رسمياً منذ عام 2002 “، دون أن يشرح أحد تلك المقولات التي تبدو وكأنها فراشات ملونة تهوم في الفضاء، لأن الواقع أنه لم يعد في الضفة  الغربية ما يمكن أن يمثل حدود الرابع من يونيو  1967، أو حتي الرابع من يونيو 1990، أو 2002.. والأرض تتآكل بمرور الزمن ووفقاً للمخطط الصهيوني الذي لا مانع لديه من ترك العرب يحلمون بفراشاتهم الملونة وهم يرقدون علي أسرة تفاوض غير موجودة، وكما قال رئيس وزراء العدو عشية مؤتمر مدريد ” إن التفاوض يمكن أن يأخذ عشرات السنين”.

لست في مقعد النصيحة لمن عطر تراب فلسطين بدمه الطاهر

لقد مارس الكيان الصهيوني البربري منذ تأسيسه وحشية لم يمارسها هتلر، ولم يتوقف عن ذلك رغم رضوخ العرب لكل ما طلبه من أجل السلام، وأصبح من الواجب على العالم أن يحاصر هذا الكائن المشوه قبل أن ينفجر الشرق الأوسط كله، كما يجب علي العرب الآن أن يتوقفوا عن الغزل غير المشروع مع هذا الكائن المشوه. إنه أسوأ من الأبارتيد .

لست في مقعد النصيحة لمن عطر تراب فلسطين بدمه الطاهر.. وأعرف أنهم يدركون أن المقاومة هي نوع من التفاوض الخشن، يكمله التفاوض الناعم إذا توافرت شروطه.. ولابد من تفادي النيران الصديقة، وطعنات الظهر.. وأهمية الاقتصاد في الذخيرة واستخدامها بكفاءة فقط لتحقيق أعلى عائد. وقبل كل شيء وبعده فهم يدركون أن “النصر صبر ساعة “.. ولا أملك سوى الدعاء بأن يسدد الله رميهم..

ولكن يجب ألا يفلت المجرم بجريمته، ولابد أن ينصت الجميع لكلمة المقاتل على أي مائدة مقبلة للتفاوض، وأن يبقي توازن الرعب بغض النظر عن عدم إمكانية تحقيق توازن الردع، وأن تشفى المنطقة من حمى التطبيع مع العدو.. مع جرعة معقولة من الخجل!

كما أنه على كل أفراد الجاليات العربية والإسلامية باعتبارهم سفراء يمثلون فلسطين أن ينقلوا للعالم حقيقة وحشية نظام الأبارتيد الإسرائيلي.. بكل الوسائل السلمية.. مسيرات، تواصل اجتماعي، رسائل إلى البرلمانات، وسائل إعلام.. نحن عددنا أكثر ولدينا الحق، وسوف يسمعنا العالم مثلما استمع لأصوات أشقائنا في جنوب أفريقيا.

لقد ظل الغرب لفترة طويلة يطلق على مانديلا لقب “إرهابي”، حتى أدرك بعد مرور ما يزيد علي ربع قرن أنه “رجل دولة ” من طراز فريد وأحد صناع السلام، ولقد كان اليهود كذلك يعتبرون السيد المسيح منشقا وداعية للفرقة رغم أنه الذي بعث لإنقاذهم من الشرود. ولقد دأب الاستعمار علي وصف حركات المقاومة دائما بوصف الإرهاب، وربما ذلك أمر طيب لأنهم يرهبون به قطعان المستعمرين، وعلي كل حال علي المستضعفين أن ” يعدوا ما استطاعوا ” كي ” يرهبوا عدو الله وعدوهم”.

هندسة الموقف التفاوضي الجديد يجب أن تتضمن أيضاً التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية بشكاوي ضد “النتن ياهو” ومن معه لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وطلب مواصلة الجمعية العامة في بحث جريمة العدوان، والعمل علي استصدار قرار جديد بوقف الاستيطان ومنع تغيير الوضع الديمغرافي في الأراضي المحتلة وخاصة في حي الشيخ الجراح، والتقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف بوقائع الانتهاكات غير المسبوقة لحقوق الإنسان الفلسطيني، مع تجديد المطالبة بنزع سلاح إسرائيل النووي خاصة بعد ثبوت استخدام إسرائيل المتكرر لأسلحة وذخائر محرمة دوليا..

لابد أن يرغم قادة الصهاينة على إدراك أن المعادلات القديمة قد تغيرت، وأن ما اعتادوا عليه منذ النكبة وحتى فترة قصيرة مضت لم يعد صالحا ؟، فلقد اعتادوا على استخدام سلاح متفوق ضد العرب الذين لم يملكوا الردع الكافي.. ولكن تطور التكنولوجيا وخاصة في سلاح الصواريخ لن يجعل إجرامهم يمر دون عقاب، وكل يوم تمتلك المقاومة أسلحة أقوي مثل الطائرات المسيرة وغيرها..

فربما يدرك عقلاء الكيان الصهيوني – كما أدرك عقلاء نظام الأبارتيد – أن بقاءهم مرهون بالتخلي عن نظام الأبارتيد الصهيوني، وقبول التعايش السلمي في دولة لكل مواطنيها بعد عودة النازحين.

إستراتيجية المقاومة يجب أن تهدف إلى أن يصل إلى كل صهيوني أن السلام والأمن لا يتجزأ.

وعندما تردد أن إسرائيل ستعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد (كإجراء تستهين فيه بالمقاومة الفلسطينية)، رجوت أن تعلن المقاومة أنها تحتفظ لنفسها بالحق في مواصلة القتال إلا إذا تم إطلاق سراح من تم اعتقالهم بما في ذلك العرب داخل الخط الأخضر، وكذلك وقف كل الإجراءات لنزع مساكن الفلسطينيين في الشيخ الجراح، ووقف كل الأنشطة الاستيطانية، وتشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل.. لقد خسرت إسرائيل معركة الصورة في العالم، ويجب على المقاومة مواصلة حصار إسرائيل سياسيا وإعلاميا.

إستراتيجية المقاومة يجب أن تهدف إلى أن يصل إلى كل صهيوني أن السلام والأمن لا يتجزأ.. ولن يهنأ بأي سلام أو أمن إلا عند تمتع كل فلسطيني بها.. مهما طال الزمن وزادت الآلام.. لن يختفي شعب فلسطين، ومدده الكبير في محيطه العربي والإسلامي.. لقد أصبح نظام الأبارتيد الصهيوني عبئا على من يعيش في الأرض المقدسة بما في ذلك اليهود، وعبئا على الإقليم، وعبئا على العالم.

ومن ناحية أخرى، وكما كتبت قبل ذلك أيضاً في مقالات ودراسات، فلازلت أرى أهمية لبناء نظام إقليمي أمني يستند إلى قواعد القاهرة / أنقرة / طهران لمواجهة التحديات القادمة وأهمها محاولة فرض النفوذ الصهيوني على الشرق الأوسط، مع انسحاب الاهتمام الأمريكي من المنطقة. إنه في رأيي تحالف الضرورة الذي لا يختلف سوى في تفاصيل معينه عن التحالف الذي نشأ في أوربا لمواجهة الخطر النازي في الحرب العالمية الثانية، أو التهديد الشيوعي بعد انتهاء تلك الحرب.

خلال حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، كان العدو الصهيوني يشن غارات يومية متواصلة ويقصف بوحشية مواقع القوات بأبشع الذخائر وأشهرها النابالم السائل الذي كان يصب حرائقا على أبدان الرجال، وكذلك المهندسين والعمال الذين كانوا يجتهدون تحت القصف للانتهاء من قواعد الصواريخ (التي نفعتنا كثيرا في العبور)، كما بلغت وحشية العدو مداها بقصف مدرسة بحر البقر للأطفال، ومصنع أبو زعبل.. كان الموت والدمار عنوان كل يوم.. وصمدنا.. وجاء يوم التحرير والنصر.. وانتقمنا.. كانوا يصرخون ويبكون ونحن نصب عليهم جام غضب السنين. وسيحدث ذلك ذات يوم في فلسطين بإذن الله، وأتمني ان يمد الله في عمري حتى أراه..

وختاماً أكرر أن إعادة بناء ما تم تدميره هام.. ولكنه ليس القضية.. يجب ألا يفلت المجرم بجريمته، ولابد أن تسمع كلمة المقاتل وطلقته على أي مائدة مقبلة للتفاوض، وأن يبقي توازن الرعب بغض النظر عن عدم إمكانية تحقيق توازن الردع، وأن تشفي المنطقة من حمي التطبيع مع العدو.. مع جرعة معقولة من الخجل!

نعم سقطت الأبراج في غزة.. ولكن الذي بقي شامخا هو الإنسان الواعي، وويل لإسرائيل من أجيال عاشت طفولتها تحت القصف…لن يعرفوا الخوف أبدا، والمستقبل لهم .

المصدر : الجزيرة مباشر