أفريقيا.. وإسرائيل.. والطريق لسد النهضة!

إفقار القارة الأفريقية

تعرضنا في المقال السابق لدور مصر التحرري وإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، ورفضها ورفض أغلب الدول الأفريقية الاعتراف بإسرائيل، وتأييد المنظمة والغالبية العظمى من دول أفريقيا لقضية فلسطين العادلة، وقد مثل ذلك أزمة كبيرة لإسرائيل خاصة وأنها كانت تطمع في أن تكون دول القارة السمراء الوليدة والخارجة من تحت عباءة الاحتلال البعد الاستراتيجي لها ومخزونها من الثروات، وكانت الدول المستعمرة تشجع إسرائيل على ذلك خاصة وأن من أسباب قبولها لإقامة إسرائيل هي وجود وكيل لها في المنطقة.

وإدراكا بأن أمن أفريقيا هي العمق الاستراتيجي لمصر، كان التغلغل الصهيوني فكرا ودولة في أفريقيا هو بداية للحصار

ومن المعلوم أن علاقة إسرائيل بدول أفريقيا كانت محدودة ومتقلبة ما عدا النظامين العنصريين في جنوب أفريقيا وروديسيا البيضاء (زيمبابوي) واللذين يشابهان تماما الكيان الصهيوني في كونه استعمارا استيطانيا يمارس التفرقة العنصرية واستعباد وإبادة الشعب الأصلي. ولم تبدأ الدول الأفريقية إقامة علاقات حقيقية بإسرائيل إلا بعد أن تقلص الدور المصري باتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة والتي تضمنت نصوصها على أمرين فتحا لإسرائيل الباب الأفريقي على مصراعيه، وهما: إلغاء المقاطعة وإسقاط قرار الأمم المتحدة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية.

وادراكا بأن أمن أفريقيا هي العمق الاستراتيجي لمصر، كان التغلغل الصهيوني فكرا ودولة في أفريقيا هو بداية للحصار على مصر في العديد من المجالات، والذي ظهرت بعض تبعاته في مشروع سد النهضة، خاصة وأن نهر النيل هو مصدر المياه الوحيد لمصر وأنه شريان حياة بالنسبة لها لكون مصر دولة مصب وليست أرض للمنبع.

الأمر لا يحتاج لكثير من الجهد لربط الأحداث ومعرفة العلاقة الوثيقة بين إسرائيل وقوى الاستعمار القديم والحديث، فالربط بين قلاقل القارة والصراع على المخزون العالمي من الثروات ومشروع سد النهضة أمر واضح.

فلم تجف بعد دماء التسعينات الناتجة عن الصراع بين فرنسا والولايات المتحدة على أرض الجزائر حتى عادت في صورة أخرى مع آثار الربيع العربي، وكذلك السيطرة الكاملة والصراع في مالي وتشاد، وصراع الشعب العربي في ليبيا وتونس مع تدخل الإمارات وإسرائيل سيظل قائما حتى تسقط قلعتهم المغتصبة للقاهرة.

وقد يعتقد البعض أننا خرجنا عن السياق، ولكن على العكس فالأمر مرتبط ارتباط كلي، ولسنا ببعيد عن تقسيم السودان والصراع في القرن الأفريقي، وقد تطورت علاقة الدول الأفريقية بإسرائيل بشكل سريع فالدول الأفريقية تبحث عن الخبرات والتقنيات في مجالات الأمن والتكنولوجيا والزراعة والري، وقد تخلت مصر عن ذلك الدور وانكمشت داخلها.

من المعلوم أن إسرائيل تحتاج للمياه والكهرباء ومواردها في ذلك محدودة، ومرت بصراعات عديدة حول نهر الأردن

وقد تزامن ذلك مع الشرط الضمني من الولايات المتحدة باعتبار أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو الضامن لعلاقة حميمة معها، والتقى ذلك مع احتياج الأنظمة في أفريقيا للحماية من التقلبات القبلية وثورات الشعوب. وعلى الجانب الآخر فإن إسرائيل تحتاج إلى تقوية العمق الاستراتيجي فهي محاطة بالشعوب العربية التي مهما تخاذلت حكوماتها ستظل رافضة لوجود ذلك الكيان، ولذا كان العمق الأفريقي أساسيا لها، ولا شك في أن الوجود الإسرائيلي في أفريقيا هو اختراق للأمن القومي العربي وتطويقا للدول العربية.

من المعلوم أن إسرائيل تحتاج للمياه والكهرباء ومواردها في ذلك محدودة، ومرت بصراعات عديدة حول نهر الأردن ونهر الليطاني، ولا ننسى الحجة الدينية الواهية بربط مملكتهم القديمة بنهري النيل والفرات، والتي تحولت من محاولة السيطرة عليهما بالقوة إلى الحيلة والوقيعة، فتفتيت سوريا وإقامة نظام موالي في مصر هو التمكين من النيل والفرات بأسلوب العصر الحديث.

ويعلم الجميع أن إسرائيل ألحت كثيرا على مصر بالود تارة وبلي الذراع تارة أخرى أن توصل مياه النيل لها، وقد رفضت مصر أن تقوم بذلك حتى عام 2013، ثم قامت مصر بتوصيل سحارات مياه أسفل قناة السويس، والمعروفة بسحارات سرابيوم بحجة إيصال مياه النيل لسيناء بهدف التنمية، وهذا الظاهر من القول يبدو حميدا ولكن باطنه معلوم، فأين مياه النيل ونحن على أبواب نقص كبير فيها؟

وكان لرفض مصر توصيل المياه أثر على الإيقاع بين مصر ودول حوض النيل بتوقيع اتفاقية عنتيبي عام 2010 لإعادة توزيع المياه بالرغم من رفض مصر والسودان لها وعدم التوقيع إلا من قبل 4 دول فقط، ولا نلوم اسرائيل على ذلك فهي تسعى لتحقيق مصالحها وتجتهد في ذلك بكل حيل الشر التي تمتلكها والتي بها تأسست وتوسعت، ولكننا نلوم مصر والسودان لفشل إدارة الأزمة.

ولا نستطيع أن نتحدث في شأن الوجود الإسرائيلي في أفريقيا دون الحديث عن القرن الأفريقي وباب المندب. وباب المندب هو أحد النقاط الاستراتيجية التي لولا زرع إسرائيل لكان مدخل لبحيرة البحر الأحمر العربية، ومضيق دولي في ذات الوقت مثل مضيق جبل طارق، وبوجود تحكم عربي في المضيقين تصبح التجارة الدولية محكومة ومحمية بالعرب، ولذا كان إطلاق يد إسبانيا في سبته ومليلة والجزر المحيطة وتحييد جزيرة ليلى وسيطرة بريطانيا على جبل طارق.

وذات الشيء تحقق على باب المندب الذي يصل المحيط الجنوبي (المحيط الهندي وبحر العرب) بالبحر الأحمر وتطل عليه اليمن وجيبوتي. ولكون إثيوبيا بلا منافذ بحرية، فالصراع الإثيوبي الجيبوتي والصراع الإثيوبي الإريتري لن يتوقف.

فكانت السيطرة على مضيق باب المندب واستمرار الصراعات الإثيوبية الجيبوتية والصراعات الإثيوبية الإريترية والصراع على مياه النيل هي الضامن الأساسي لزعزعة الأمن في المنطقة، وضمان لاستقرار الوضع للوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر لدعم أمنها القومي وحصار الأمن العربي وخدمة الاستراتيجية الأمريكية في الهيمنة على أفريقيا، والتحكم في ثروات القارة السمراء وخطوط الملاحة في البحر الأحمر، وفتحه كممر مائي دولي يتحكمون فيه، والذي اكتمل بتحقيق حلم إسرائيل بتسليم تيران وصنافير للسعودية مما يجعل مضيق تيران ممرا دوليا وليس مياه إقليمية مصرية.

وبذلك يكون قد تم اختراق الأمن القومي العربي والمصري تحديدا، والذي اكتمل بمشروع سد النهضة الذي نتناوله بالتفصيل في مقالنا القادم.

المصدر : الجزيرة مباشر