حكايات رمضانية: البخلاء (3)

الشيخ يوسف البدري

كان الشيخ يوسف البدري يقيم في ضاحية المعادي الراقية والقديمة، بالقاهرة، لكن ما إن تقف أمام باب شقته، حتى ينتابك شعور جارف بأنك في قريش، وقد أحاط بك بنو مخزوم أو بنو عدي!

فما إن تطرق الباب حتى تجده أمامك بجلبابه، وعمامته، ولحيته الطويلة، وربما بعباءته، وهو يقول لك بطريقة آمرة: “اخلع نعليك”، وقد وقف أمامك بكل جسده ربما ليسد الثغرات أمام أي احتمال، بمغافلته والدخول بالحذاء، قلت له في أول مرة: هذا باعتبارنا في الوادي المقدس طوى، فلم يبتسم، فقد كان استيعابه للنكتة ضعيفاً، إذ كان درعمياً، ولم يكن أزهرياً ينتج الفكاهة ويتذوقها!

وربما تطبع بهذه الطريقة الآمرة من مهنته، فقد كان مدرساً يشعر بالاضطهاد ولا يمل من الإعلان من أنه على الرغم من كل هذا فلا يزال “وكيل مدرسة بجدول”، و”كل هذا” معروف، وهي النجومية، لكن لا نعرف ما إذا كان سجله الوظيفي يعطيه درجة أعلى وأنها منعت عنه أم لا؟ ولم يكن هذا مما يشغلنا، ربما لأن تكرار هذا منه، كان سبباً في فقدنا الإحساس بغرابته، إن كان فيه ثمة غرابة!

وربما كانت الخشونة عند الاستقبال وبصدور الأمر بخلع النعال، هو حتى لا يعطي مجالاً للأخذ والرد أمام هذه الأمر المهم، فلا مانع من أن يكون أمراً على الطريقة العسكرية، أو أننا تلاميذ عنده في المدرسة!

وهكذا طال اللقاء أم قصر، والذي يطول في الغالب بإلحاح منه، فلا زيادة على “مشروب الاستقبال”

وفي الفترة التي عرفته فيها منذ أن كان وكيلاً لحزب الأحرار، ثم عضواً في البرلمان، إلى آخر لقاء بيننا في سنة 2004، راعني فيه أمران مختلفان، الأول: هو الكرم الشديد بدعوة الناس إلى بيته وكأنه حاتم الطائي، والثاني: عندما تجد نفسك مخيراً بين مشروبين لا ثالث لهم، “حُلبة” بضم الحاء، أو “ينسون؟، والمشروبات المتداولة لدى المصريين هي الشاي أو القهوة.

يشير لكل واحد في الحاضرين بذات الطريقة المدرسية الآمرة: “حُلبة” أم “ينسون”؟، ولسان حاله يقول انجز، وفي المرة الأولى لزيارته في منزله، قلت له: لا حلبة (حرصت على تشكيلها) ولا ينسون.. “كراوية”، وهو مشروب مخصص للأطفال، فضحك الحاضرون، وظل هو بذات طريقته المدرسية حاسماً ومتجهماً، وهو يكرر الأمر مرة أخرى: “حلبة” أم “ينسون”؟، اختار لي هو “حُلبة”!

وهكذا طال اللقاء أو قصر، والذي يطول في الغالب بإلحاح منه، فلا زيادة على “مشروب الاستقبال”، وذات ليلة وكلما هممنا بالانصراف، أمسك فينا بكل كرم، ثم لا شيء، وذات مرة امتد اللقاء لفترة طويلة، وكان معنا زميل قاهري، ربما لا يتسم بخجل أبناء الريف من أمثالنا، وربما وصل لدرجة إعياء لم يكن معها بد من الخروج على المألوف!

رفع يده كتلميذ في الفصل، وقال متوسلاً: سندوتش جبنة. وبسرعة كان سندوتش الجبنة أمامه بالعدد، وظلت هذه من المفارقات، نتندر بهيئة زميلنا في الوضع متوسلاً، ثم يحدث الشيخ جلبة وهو يستجيب للطلب بسعادة ويدخل علينا بصينية لا تحمل سوى سندوتش واحد في حجم عقلة الإصبع، ولم يعزم على بقية الضيوف ولو من باب “عزومة المراكبية”، ولغير المصريين، فهي مثال للعزومة غير الجادة باعتراف طرفيها؛ العازم والمعزوم!

وقال لي بإلحاح: تعالى وستجد ما يسرك، وذهبت وأسرف في تقديم المشروبات

واقترحت ذات مرة إجراء حوار صحفي معه، وعرضت عليه أن يزورني في مقر الجريدة، لكنه كان في حالة اندفاع وهو يطلب زيارتي له في بيته، وقلت له على الأقل عندنا سنجد من يقوم على خدمتنا، فلا يقتصر اللقاء على مشروب واحد، وذكرته بحالة زميلنا الذي أوشك أن يغمي عليه!

وقال لي بإلحاح: تعالى وستجد ما يسرك، وذهبت وأسرف في تقديم المشروبات: ليمون، يتبعه ينسون، ثم حلبة (بضم الحاء)، ثم ليمون، وعندما اتصلت به لأخبره بموعد نشر الحوار، قال لي في فخر عظيم: أرأيت كيف استقبلتك في المرة الفائتة؟ ألم أقل لك ستجد ما يسرك؟!

لقد أوعد الرجل فأوفى، ولم أشأ أن أتركه للشعور بالانتصار، فقررت أن أحبطه، بقولي: وهل تعدد المشروبات ما بين بارد وساخن، هو ما يسرني، هناك اختراع توصلت اليه البشرية اسمه تقديم الطعام للضيف، ولم يعلق على الأمر، ولم أنجح في وضع حد لحالة الفخر التي انتابته!

ومهما يكن حال الشيخ يوسف البدري، فهو أفضل من استقبال فهمي هويدي، والذي يروى عنه زملاء تعاملوا معه “قصائد” في هذا الصدد، لكن لم تكن لي معه سوى واقعة واحدة، عندما ذهبت لإجراء حوار معه في منزله في ضاحية مصر الجديدة قبل ثلاثين عاماً، وكان الجو حاراً، وأثار هذا واضحة على وجهي، واستمر الحوار لساعة كاملة، فلم يطلب لي كوباً من الماء، وهو ما فسرته حتى لا يكون هذا بمثابة فاتح شهية لمشروب ساخن أو بارد، لذا فقد أخذها “من قصيرها” فلم يفتح مجالاً لذلك ولو بمبادرة مجانية لن تكلفه شيئاً.

أما مكرم محمد أحمد فقد كانت حكايته معي حكاية، فقد ذهبت اليه في مكتبه بدار الهلال في أزمة ندوة حقوق البهائيين بنقابة الصحفيين، وكان هو قد أعطى الجهة المنظمة لها الموافقة على عقدها، وتزعم جمال عبد الرحيم عضو المجلس الحشود التي منعت عقدها، فأحاله مجلس النقابة للتحقيق، وهو موضوع شرحه يطول، وكان هدفي أن يعدل عن هذا القرار بالإحالة والتحقيق، وبعد أخذ ورد، وقد احتفى بي احتفاء شديداً، اعتذر بأنه مضطر للمغادرة الآن، لأنه مرتبط بموعد مع رئيس مجلس الشورى، وعبثاً حاولت الانصراف فقد أصر على أن نبقى في مكتبه، حتى أشرب قهوتي، فلا يصح أنها في المرة الأولى التي أزورها فيها وأخرج هكذا!

ورضخت لهذه الضغوط، لاسيما وأنه استدعى بالفعل عامل البوفيه ليعرف قهوتي!

مضبوط!

وغادر عامل البوفيه، وكان عنده صديقنا المشترك سليمان الحكيم، وظللنا نتجاذب أطراف الحديث، وقد أخذنا الكلام فلم أنتبه إلى أن القهوة لم تحضر رغم مرور نصف ساعة، إلا و”حمدي رزق” مدير تحرير “المصور” يدخل علينا ويصافحني ثم يمسكني من يدي:

–  تعالى اشرب القهوة في مكتبي!

–  لقد طلب لي النقيب قهوة.. وأنا في انتظارها!

وضحك “حمدي رزق”، وهو يقول الأستاذ مكرم طلب لك قهوة؟! دا عمره ما عملها. ونظر إلى سليمان الحكيم وهو صديق لمكرم لسنوات طويلة.

–   قل له يا سليمان!

وقال سليمان: ما يقوله حمدي صحيح!

وسألت سليمان: ألم تكن شاهداً على إصراره؟ وأجاب: لقد أدهشني هذا حقاً، وقلت ربما تغير على يديك، لكن عدم وصول القهوة إلى الآن، يؤكد أنه لم يتغير!

ولأن ما لا يؤخذ كله لا يترك كله، فقد تعاملت بمنطق عصفور في اليد ولا عشرة فوق الشجرة، فقد ذهبت مع حمدي رزق!

إنما لم أتوقف عن السؤال: ولماذا كان هذا الإصرار الغريب؟!  فعالم البخلاء قد يضن عليك بفنجان قهوة، لكنه يجود بكل ما هو غريب في السلوك والتصرف!

يقولون: “المجانين في نعيم”.. ونقول: والبخلاء أيضاً.

المصدر : الجزيرة مباشر