“فلسطين”.. كلمة سر الليل!

عندما أراد الرئيس السادات أن ينقلب على عقبيه، ويبرم صلحاً مع إسرائيل، كانت دعاية إعلامه، التي سرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم، أن الفلسطينيين باعوا أرضهم!

وعندما بدا وأن الفلسطينيين قد انشغلوا عن قضيتهم، وبدت غزة المحاصرة لا تستطيع ضرباً في الأرض، جرت معاملتهم على أنهم أيتام على موائد اللئام، واندفع هؤلاء اللئام يتحدثون عن صفقة القرن، التي تدور حول تخصيص “قطعة أرض” في سيناء، لقيام دولة فلسطين!

وعندما بدت قضية فلسطين كما لو كانت قد صارت ذكرى، وجدها المخلفون من الأعراب فرصة مواتية للاندفاع في التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وبدت هذه هي لغة العصر، والتفكير المنطقي، وبدا التعامل مع نتنياهو على أنه مانح صكوك الغفران، وزعيم المنطقة!

بيد أن الأيام القليلة الماضية نسفت كل هذه الدعايات، وأثبتت أن قضية فلسطين لا تزال حية، وأن الشعب الفلسطيني قادر على إحيائها، لا يضره من ضل، ولا يضعفه من خذله، وإذا بالفلسطيني -الذي أذاعوا ونشروا أنه باع أرضه- متمسك بتراب القدس، وإذا به يقاوم المستوطنين الذين أغاروا على البيوت، وبسبب هذه المقاومة يتم اللجوء للقضاء الإسرائيلي لإسباغ شرعية على عملية اغتصاب منازلهم، وإذا بالفلسطيني الذي باع أرضه يقف شامخاً دفاعاً عن هذه الأرض، التي بدأ دفاعه عنها منذ قدوم العصابات الصهيونية إلى بلاده، واستمر إلى الآن مقاوماً!

ولو كان ترمب حاكماً الآن، لعلم بهذا الحضور الفلسطيني المفاجئ، أنه كان يلهو ويلعب، وأن هذا الشعب المتمسك بتراب فلسطين، لا يمكن إجلاؤه عنه، باستبدال أرض مكان أرض

الشعب الفلسطيني هو الذي قاوم المخطط الخبيث بشراء البيوت القريبة من القدس بملايين الدولارات، وبأضعاف ثمنها الحقيقي، وهي المحاولة التي تم اللجوء إليها كمرحلة تالية لمحاولة اعتصاب هذه المنازل، وشاهدنا على الشاشات فلسطينيين بسطاء يعلنون أن كنوز الدنيا لا تساوي ثمناً لبيوتهم التي تبدو متواضعة، لكنها عظيمة بقربها من المسجد الأقصى!

لقد توافد الآلاف إلى المسجد الأقصى على مدى الأيام الماضية لحمايته، غير مبالين بالآلة العسكرية الإسرائيلية، وبالمياه القذرة التي يُغرقون المصلين بها، وذهبوا لحماية المسجد، الشيوخ، والشباب، والنساء، والأطفال، وكأن أرض فلسطين ينبوع كرامة، لا تبخل على الأمة بإغراق الأرض بهذا الطوفان من الأحرار، ومع كل فترة تبدو فيها قضية فلسطين وقد انتهت ويتصرف فيها المخلفون من الأعراب على هذا الأساس!

لقد غادر ترمب، الذي تبنى مشروع صفقة القرن، وانتهى هذا المشروع بنهايته، تماماً كما انتهى بما حدث في القدس مؤخراً، فقد ظن ترمب والذين معه من قادة عرب، أن القضية الفلسطينية ماتت، وأن الشعب الفلسطيني صار ذكرى ومن هنا وجدوا أنهم معنيون برسم تقرير مصيره، وبدا الفلسطينيون كما لو كانوا خارج دائرة الأمر، فلم يهتم أحد بوضعهم “في الصورة”، فهم من الضعف بمكان، إلى حد أن هناك من يتولى بالنيابة عنهم البحث لهم عن وطن بديل، في انتظار أن تتفق الدول الأطراف في المعادلة!

ولو كان ترمب حاكماً الآن، لعلم بهذا الحضور الفلسطيني المفاجئ، أنه كان يلهو ويلعب، وأن هذا الشعب المتمسك بتراب فلسطين، لا يمكن إجلاؤه عنه، باستبدال أرض مكان أرض، وبيوت مكان بيوت، فليست كل البيوت سواء، وليست كل الأرض، أرض فلسطين!

وكان مشهد الشبان والفتيات الفلسطينيين وهم في قبضة قوات الاحتلال ويوزعون ابتساماتهم للكاميرات، رسالة نصر، لم تزد المنبطحين إلا خبالا.

وهذا الحضور للشعب الفلسطيني، على مدى الأيام الماضية، قلب المعادلة، وأكد أن ما استقر عليه الحال من أن إسرائيل هي الرقم الوحيد الصحيح في المنطقة، وأن لغة العصر هي في التقرب إليها بالنوافل، كلها أوهام في قلوب عليها أقفالها، وهواجس في نفوس ضعيفة وأقوام يخافون من خيالهم، وقد أغراهم صمت شعب فلسطين، فلما تكلم إذا به يجعل عاليها سافلها، وأنه متمسك بتراب أرضه، وجدران منازله، وبأقصاه حتى وإن غاب العرب، وصارت فلسطين قضيته هو، وحتى وإن تقاعس المسلمون عن نصرة المسجد الأقصى، فقد تعاملوا على أن المسجد يخصهم وإن لم يخص أحداً غيرهم!

وعلى مدد الشوف، يبدو هذا الزحام لا أحد، فالشعوب العربية ترزح تحت وطأة حكام يستمدون شرعيتهم من نتنياهو، فحتى التظاهر لنصرة قضية فلسطين والمسجد الأقصى لم يعد مسموحاً به، لكن الشعب الفلسطيني، نجح في أن يرسل رسالة للجميع، أنه ليس هو من يفرط في مقدساته، وليس هو من يتنازل عن أرضه، وليس هو من باع أو لديه استعداد لأن يبيع أرضه، وكما قالت مقدسية في شموخ: ولا بكنوز الدنيا!

وبهذا الإصرار العجيب، نجح الفلسطينيون في أن يفرضوا أنفسهم على العالم الغربي، فارتفعت أصوات هناك وهناك منددة بالإجرام الإسرائيلي، وهي أصوات ما كان لها أن ترتفع لو أن الفلسطينيين يقومون بدور الضحايا، الذين يستعذبون العذاب، والذين يقدمون أنفسهم للمعتدين على أنهم لقمة سائغة، وأداة سهلة الاقتلاع!

وكان مشهد الشبان والفتيات الفلسطينيين وهم في قبضة قوات الاحتلال ويوزعون ابتساماتهم للكاميرات، رسالة نصر، لم تزد المنبطحين إلا خبالا.

ولا يمكن أن نختم هذه السطور، دون التطرق لموقف قناة الجزيرة، المحطة التلفزيونية الوحيدة، التي نقلت للعالم هذه المواجهة، وهذه الغطرسة الإسرائيلية، وفي المقابل هذا الصمود الفلسطيني العجيب، في وقت تعاملت قنوات تلفزيونية لدول عربية على أنها ليست طرفاً فيما يجري!

لقد أخطأ من ظن أنه قادر على أن ينوب عن الشعب الفلسطيني في إقرار مصيره من “المجموعة إياها” الخاصة بصفقة القرن.

وأخطأ من اعتقد أن العزة عند نتنياهو، فها هو نتنياهو يعترف بأنه رغم التفافهم حوله لكن مشكلته في حصار الجماهير العربية ويعترف بأنه يواجه “عدواً كاسراً”.

وأجرم من قال ومن روَّج ومن صدَّق أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، فها هو الفلسطيني يدافع عن أرضه تحت تهديد السلاح، وغيره من فرَّط في الأرض بغير حرب أو مواجهة!

وها هي الأحداث تثبت أنه عندما تضيع البوصلة، فينبغي أن نولي وجوهنا إلى فلسطين فهي بوصلتنا!

وعندما تخور قوانا فيجب أن ننظر لشعب فلسطين لنستمد منه قوتنا!

وعندما نفتقد للنور، فينبغي أن نعلم أن الشمس والقمر تشرقان من هناك!

وعندما يضيع معسكرنا، فإن الاهتداء إليه يكون بذكر كلمة سر الليل!

ففلسطين هي كلمة سر الليل.

المصدر : الجزيرة مباشر