أمريكا وتحولات الإقليم.. والدور التركي الجديد في المنطقة!

بايدن

في كل مرة يأتي فيها رئيس جديد إلى البيت الأبيض: يحبس العالم أنفاسه، ويعاد طرح نفس الأسئلة من جديد، حول توجهاته للسنوات الأربع القادمة، وحول سياسته الخارجية؛ تثار المخاوف هنا وترتفع الطموحات هناك، إذ بمقدور القائد الجديد للبيت الأبيض تغيير السياسة الخارجية تجاه الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

في مقابلة مع مجلة “فورين أفيرز” تحت عنوان “لماذا على أمريكا أن تقود من جديد”: تحدث الرئيس الأمريكي الجديد “جون بايدن” عن الملامح العامة للسياسة الخارجية الأمريكية للأربعة أعوام القادمة، ندد بايدن بنهج سلفه في التعامل مع حلفاء الولايات المتحدة معتبرا أن ترمب قد قللَّ من قيمة هؤلاء الحلفاء وفي أحيان أخرى تخلى عنهم، لم يخلو المقال من إشارة عن ضرورة أن تجدد الولايات المتحدة ديمقراطيتها وتحالفاتها التي وضعت على المحك خلال السنوات الأربع التي خلت، فسَّر البعض هذه الإشارة باعتبارها رسالة للأنظمة السلطوية والمستبدة في منطقتنا بل والعالم بأسره، وأن أمريكا لن تتسامح مع إهدار الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

حاول بايدن ترميم تمثال الحرية ونموذج الديمقراطية الأمريكية الذي تعرض لتشوهات كبرى بفعل ما جرى في السابع من يناير/كانون الثاني ٢٠٢١ نتيجة الهجمة البربرية على الكونغرس الأمريكي.

يدور حديث بين النخب عن تفاهمات مهمة حدثت بين الجانبين التركي والأمريكي قبيل تسلم بايدن السلطة بشكل رسمي -سبقتها بأيام قليلة- حول عديد من الملفات

سبق مجيء بايدن حديث في الشارع السياسي حول العلاقة المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة، أو بين أردوغان وبايدن، وأن خلافات حول العديد من الملفات هي من أشعل فتيل الأزمة المتوقعة على رأسها صفقة ال S 400 التي أبرمتها تركيا مع روسيا، رغم اعتراض واشنطن على هذه الصفقة، بالإضافة لملفات أخرى.

في الماضي نادرا ما أتى ظهور قوى جديدة من دون تصادم، لكن غالبا ما تلعب المصالح المشتركة دوراً مؤثرا في ردم الفجوات وتقريب وجهات النظر، حتى في ظل التباينات التي تنشأ عن تعارض المصالح بين القوى الناشئة والدول المركزية، وهذا ما حدث بالفعل بين تركيا والولايات المتحدة، في العلاقات الدولية قد يكون مد اليد إلى صديق قديم “تركيا” لا يقل أهمية عن كسب صديق جديد، وهذا بالضبط ما قامت به إدارة بايدن، والذي عرف عنه علاقته المتوترة بتركيا “أردوغان”.

يدور حديث بين النخب عن تفاهمات مهمة حدثت بين الجانبين التركي والأمريكي قبيل تسلم بايدن السلطة بشكل رسمي -سبقتها بأيام قليلة- حول عديد من الملفات الحساسة التي تشغل بال صُنَّاع القرار في البيت الأبيض، وأن ثمة تسويات فرغ منها الطرفان.

جاء بايدن إلى الحكم في وقت اعتقدت فيه بعض الدول العربية أنه بإمكانها إعادة رسم خريطة السياسية للمنطقة في غياب الإدارة الأمريكية وبتفويض من رئيسها السابق دونالد ترمب، فتدخلت السعودية في اليمن، وقادت الرباعية العربية لحصار قطر، وتوسع الدور الإماراتي في كل من ليبيا واليمن، وتحولت المنطقة إلى حالة من الفوضى غير الخلَّاقة.

يبدو أن الإدارة الأمريكية تعول على دور تركي “أوسع مما كان عليه في السابق” لضبط الإيقاع في المنطقة؛ من هنا يمكن أن نفهم طبيعة التحولات السريعة التي تشهدها السياسة الخارجية التركية من تقارب مع كل من مصر والسعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة لاستدعاء أمريكي لتركيا للدخول على الخط مع قطر فيما يتعلق بالأزمة الأفغانية بين طالبان وحكومة كابل.

يقرأ البعض هذه التحولات في السياسة الخارجية التركية في إطار سياسة المحاور، فيتم تفسير السلوك التركي باعتباره الانتقال من محور الممانعة “وفق تعريف استقلال الإرادة الوطنية” إلى المحور الآخر المعادي لخيارات الشعوب.

 أثر التقارب الأمريكي التركي على إيران

اتسمت العلاقات الإيرانية التركية بالصراع الدائم والمستمر، إذ شهدت الحُقَب التاريخية الماضية تنافسا سياسيا واقتصاديا بين البلدين أنتجته عوامل عدة بعضها بطبيعة نشأة الدولتين، وبعضها مرتبط بموقعهما الجغرافي فضلا عن العوامل الأيديولوجية المرتبطة باعتناقهما مذهبين مختلفين كمبرر لحالات الصراع بينهما أحيانا.

لا يمكن التقليل من أهمية الصراع حول مناطق تعد مجالا حيويا لكليهما في محيطهما الإقليمي “الشرق الأوسط”، فالتنافس السياسي بينهما أوجد تجاذبا ومحاور سياسية شكَّلت علاقات مميزة للسياسة الخارجية لكلا الطرفين.

ظلت تركيا ولفترة طويلة من أكثر الدول التصاقا بسياسات الولايات المتحدة على عكس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذه الأفضلية التركية في العلاقة مع الأمريكان ساعدتها على الاستفادة من سياسات الحظر والعقوبات على إيران، من خلال لعب دور الوسيط والسوق الخلفية للاقتصاد الإيراني، وقد عادت هذه السياسة بالنفع على كلا البلدين، نجحت هذه السياسة في تجاوز العقوبات المفروضة على إيران، وتم التحايل عن طريق سياسة إعادة تصدير الكثير من المواد والصناعات، حتى الحساسة منها، عن طريق تركيا عوضا عن استيرادها مباشرة من المصدر.

في هذا التوقيت لعبت الإمارات دور المركز المصرفي الأول لإيران للتعامل مع بقية دول العالم، وعندما ضغطت الولايات المتحدة عليها لوقف هذه التسهيلات البنكية، تولت تركيا وبقوة هذا الدور ولم ترضخ للضغوط الأمريكية.

تدرك كلا من تركيا وإيران أن استقرار كل منهما هو استقرار للآخر، لذلك متى ما توترت العلاقات بينهما سعى كلاهما لاحتواء الأزمة في أسرع وقت ممكن، لذلك ظل تطوير علاقات قوية مع إيران على قائمة الأولويات التركية، وتحتل إيران وموارد الطاقة فيها أهمية تفوق تقديرات حلفاءها من العرب.

تركيا والثورات العربية

تراقب الشعوب العربية وقواها الحيَّة إشارات التقارب المتبادلة بين الحكومة التركية والحكم العسكري في مصر، بالإضافة لمحاولات التقارب مع المملكة العربية السعودية راعية الثورات المضادة في المنطقة، تدرك الشعوب جيدا بأن مصيرها وتغيير أوضاع سيكون بيدها وليس بيد غيرها كما حدث في السابق، وأنه ومنذ ٢٠١١ لم تستقر أوضاع الثورة المضادة في عالمنا العربي، وأن موجة جديدة لهذه الثورات هي نبوءة حتمية.

مهمة الحالة الثورية المعارضة في الداخل والخارج، الذين يعتقدون أنهم أصحاب رؤية إنسانية توحيدية جامعة تحمل قيم الحرية والمساواة والعدالة الإنسانية: هي أن لا تترك الأحداث التي غالبا ما يكون العامل الخارجي فاعلا ومؤثرا فيها، ليصيغ نيابة عنهم خياراتهم وتحيّزاتهم تجاه أوطانهم، وبالتالي عليه أن يلعب دور المُوَجِه، حتى لا تصيغ القوى المعادية للثورة الوعي الجَمْعِي لشعوبنا.

تتجلى في هذه اللحظة أهمية طرح المشروع السياسي البديل، الواضح المعالم والأطُر والمفاهيم، الراسم لوجهة المستقبل، الذي يمكن من خلاله رسم المصالح الجامعة والتي تعود بالخير والنفع على الجميع.

على القوى الثورية تحديد خياراتها بشجاعة، ووفق المصالح العليا لشعوبها وأوطانها، عوضا عن المصالح الضيقة لبعض الفئات أو الرموز أو حتى الدول التي تحتضنهم.

ما تمر به أوطاننا يطغى عليه صفة الانتحار الجماعي، ومع غياب المشروع الجامع الواضح المعالم، تُترك الأمور لريادة المشاريع الوهمية.

المصدر : الجزيرة مباشر