د. محمد البرادعي يكتب لـ “الجزيرة مباشر”: نحن والعالم.. والحكم الرشيد!

عندما أنظر الى تأثير غياب المساواة والعدالة على قضايانا المهدورة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية فلا يمكنني الا أن أتساءل بكثير من الحسرة كم سيتغير موقف العالم لو كانت نظرتنا لأمننا القومي تحكمها المصلحة العامة

البرادعي

استدعت ظروف عملي دبلوماسيا وموظفا دوليا أن أقضي فترات طويلة خارج الوطن، كما كان من حسن حظي أن تتاح لي فرصة السفر إلى معظم بلدان العالم والتعايش مع شعوبها والتعرف عن قرب على غالبية الثقافات الرئيسية.

ولعل أحد أهم الدروس التي استفدتها من تجربتي الحياتية والذي صقل تفكيري ورؤاي في أمور متعددة هو أننا -عكس الاعتقاد السائد- أسرة إنسانية واحدة، أمالها مشتركة وهمومنا متماثلة، فرحتنا واحدة وحزننا هو نفسه، وقيمنا الأساسية، من عدالة ومساواة ورحمة وغيرها لا تختلف أيا كانت العقيدة أو العرقية أو اللغة أو لون البشرة.

اسأل أي إنسان عن تطلعاته ومخاوفه ستجد الإجابة متطابقة بصرف النظر عن التفاصيل. حقيقة بسيطة وعميقة في نفس الوقت، لو استوعبناها لما عشنا العنف والاضطهاد والبؤس والمآسي التي لا تنقطع، وآخرها التفرقة الصارخة في توفير لقاح كورونا للدول الفقيرة. بمعنى آخر: أنه إذا فهمنا أن المساواة والتضامن هما طريق الخلاص لكانت الدنيا غير الدنيا سواء في العلاقات الدولية أو بين الشعوب والأفراد داخل كل دولة.

الجميع يحذر

ولكن ماذا تعني المساواة والتضامن على أرض الواقع؟
تعني على المستوى الدولي أن نتضامن معا في التصدي للأخطار التي تواجهنا والتي لا تعرف حدودًا سواء أكانت التغيرات المناخية أو الإرهاب أم كانت الأوبئة أو الجريمة المنظمة.
التعاون في عصر العولمة أصبح مصلحة مشتركة قبل أن يكون عملاً إنسانيًا إذ لا يمكن لأي دولة مهما كانت قوتها أن تتصدى لتلك الأخطار بمفردها.
ولكن المؤسف أن أقوالنا في معظم الأحيان على النقيض من أفعالنا.
الجميع يندد بمخاطر تغير المناخ على العالم بأكمله ولكن أقلية هي المستعدة للقيام بما يلزم لمجابهتها.
الجميع يحذر من خطر الوباء، ولكن في نفس الوقت نرى الأنانية والتفرقة الفجة في إنتاج وتوزيع اللقاح.
وزد على هذا بالطبع تعاملنا مع اللاجئين والفقراء الذين لا سند لهم. ويقيني أننا إن لم نقم بتغيير عقولنا الجمعي في المستقبل القريب ونجري تعديلات جذرية في النظام الدولي الاقتصادي والأمني ليكون أكثر عدالة ومساواة فإننا سنستمر على نفس الطريق الذي قد يؤدي بنا إلى تدمير أنفسنا!

القضية الفلسطينية والنووي الإسرائيلي

وعندما أنظر إلى تأثير غياب المساواة والعدالة على قضايانا المهدورة في عالمنا العربي، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والسلاح النووي الإسرائيلي فلا يمكنني إلا أن أتساءل بكثير من الحسرة: كم  كان سيتغير موقف العالم من قضايانا لو كانت نظرتنا لأمننا القومي تحكمها المصلحة العامة وليس الأهواء الشخصية؟ ولو كانت علاقاتنا مع بعضنا ثابتة لا تتغير بتغير الفصول ولو كانت أقوالنا في العلن هي نفس أفعالنا وراء الأبواب المغلقة؟
ولو كانت شعوبنا هي مصدر قوتنا، وليست مصدر قلقنا؟
ولو كنا ندرك أن الخلافات تنتهي غالبا بالمصالحة وأنه لا يجب أن  نَفجُر في الخصومة؟ وأتساءل بنفس القدر من الحسرة عما إذا كان الوضع سيتغير إن كانت قراراتنا مبنية على رؤية حقيقية متكاملة للمصلحة المشتركة والأمن القومي الواعي لما يمكن تحقيقه على ضوء قوتنا المتاحة الناعمة منها والصلبة والمدركة لحساسية عامل الوقت واغتنام الفرص؟

بالطبع يجب أن أكرر أنه لكي يهتم العالم بقضايانا ويتفاعل معها فلابد أن نتفاعل نحن أيضا مع باقي القضايا العالمية ولا ننغلق على أنفسنا، وما ألاحظه أنه في الكثير من تلك القضايا- سباق التسلح النووي، التغيير المناخي، ثورة التكنولوجيا، حقوق المرأة وغيرها- فإننا لا نشارك بفعالية في النقاش العالمي الجاري ما لم نتصور أن تلك القضايا تؤثر علينا بشكل مباشر، وإذا شاركنا فإنه في أحيان عديدة يكون من منطلق إقليمي ضيق وكأننا نكلم أنفسنا وبلغة لا يفهمها باقي العالم.

ولعل ما أقوله بالنسبة لعدم المساواة ينطبق بشكل أكثر وضوحاً على عالمنا العربي، فإذا تأملنا كل الثورات العربية في السنوات العشر الأخيرة لوجدنا أن المطالبة بالمساواة والعدالة كانت، ومازالت، محرك كل تلك الانتفاضات التي لم تجد سبلًا أخرى للتغيير.
وبالرغم من بعض المحاولات لإطفاء طابع المؤامرة والفوضى على ثورات الربيع العربي فلا شك لديّ أننا سنراها تعود أو تستمر بشكل أو بآخر طالما لم نتعامل بصدق مع الأسباب الرئيسية التي أدت اليها.

معنى المساواة

معنى المساواة كما عبرت عنه الثورات العربية بطرق مختلفة يمكن تلخيصه في الآتي: نحن متساوون في “الانتماء للوطن” ويجب أن نكون شركاء في حكم أنفسنا؛ ولابد من إرساء مبدأ العدالة ولابد من احترام حقوق كل إنسان دون تفرقة.

المشاركة في الحكم معناه نظام يضمن المساواة، التعددية، الشفافية، المحاسبة، تداول السلطة، مجتمع مدني مستقل، إعلام حر وغيرها الكثير من مكونات الحكم الرشيد أو الديمقراطي.
الديمقراطية بالطبع ليست نظامًا ” كامل الأوصاف”، ولكنها أفضل ما توصل إليه عالمنا المعاصر لتحقيق الكرامة الإنسانية؛ وهي بالتأكيد لا تختصر في صندوق انتخابي وإنما هي منظومة متكاملة تقوم على المؤسسات وليس الأشخاص وعلى مجتمع مدني فاعل ونشر ثقافة الديمقراطية وتكريس ممارساتها، وقبل كل ذلك وبعده على توافق وطني ملزم على القيم الأساسية للعيش المشترك يضمن الحرية والكرامة للجميع.
والديمقراطية هي دائما مشروع تحت الإنشاء قابل للتطوير والتعديل على ضوء التجربة، وهناك بالطبع نماذج مختلفة لتطبيقها وإنما في نفس الوقت هناك حد أدنى معروف لما يمكن أن يُطلق عليه نظام ديمقراطي، وفي مقدمته حرية التعبير والعقيدة ومساحة كافية من الحرية الشخصية وضمان ممارسة الحقوق السياسية من أحزاب وإعلام ونقابات وجمعيات.

كثيرا عندما نحاول في منطقتنا محاكاة الديمقراطية نقفز مباشرة إلى الانتخابات قبل بناء الإطار والمؤسسات التي تضمن حريتها ونزاهتها وتمثيلها الحقيقي للشعب بكافة أطيافه. وعادة ما نصبغها “بخصوصيتنا المتفردة ” والتي تؤدي بالضرورة إلى الهزيمة الساحقة لأي معارض. في هذا نحن نضحك على أنفسنا ولا ينطلي الدفع بخصوصياتنا على العالم. استمرار نظرتنا للاختلاف في الرأي أنه “خطر” يجب القضاء عليه والانتقام من المختلفين في الرأي هي معركة صفرية الجميع فيها خاسر. تصارع الأفكار هو السبيل الوحيد للتقدم واختلاف الرؤى في الوسيلة وليس الغاية أمر ضروري وصحي.

الحكم المدني

أما عن العدالة بمعنى حتمية أن تكون هناك قواعد عامةً مجردة صادرة من سلطة تشريعية منتخبة انتخابا حرًا وتطبق على الجميع دون استثناء، وأهمية أن يكون القانون مبنيا على ما تمليه العدالة وليس أداة في خدمة السلطة، فتجربتنا في معظم عالمنا العربي أن أمامنا طريقا طويلا قبل أن نصل إلى ما يمكن أن نسميه دولة القانون بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه دوليا.

كذلك بالنسبة لاحترام حقوق الإنسان: نحن ما زلنا في أغلب الأحيان غير قادرين على فهم الارتباط الوثيق بين الحرية والكرامة الإنسانية، وأنه لا وجود لأحدهما دون الأخرى، وكذلك إدراك أن تمكين الإنسان وتنمية قدراته هو أساس الأمن والاستقرار والتقدم.
مازلنا نجادل في أن كافة حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواردة في المواثيق الدولية، عالمية التطبيق وغير قابلة للتجزئة أو التفاوض، وأنه لا توجد فيها خصوصية لأي منطقة، ولا يجب أن تتشابك مع أو تكون أداة مقايضة في المصالح الجيوسياسية. هي في مجملها “حقوق إنسان” أي إنسان وكل إنسان.

ما تقدم هي بعض المفاهيم السياسية والمدنية الأساسية التي أخشى أنها في تراجع في أجزاء كبيرة من عالمنا العربي بالرغم من أن إحياءها هو ضرورة لنهضتنا. الرباط بين الحكم المدني الرشيد وبين تقدم المجتمع وازدهاره هو رباط شبه مقدس لا يمكن قطعه.
وعندما استرجع ما يحدث حاليا في دول عديدة داخل منطقتنا لابد أن أستذكر بعض القيم والبديهيات على أمل أن يؤدي إدراك أهميتها إلى تغيير في نمط حياتنا: لا أحد يملك الحقيقة المطلقة؛ لا شيء يعلو فوق قدسية الحياة؛ كل البشر متساوون في الحقوق والواجبات؛ حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة؛ العلم مفتاح التقدم؛ الفقر نوع من العنف؛ الرحمة والتسامح صلب الإنسانية وفي النهاية لا بديل عن العيش المشترك.

المصدر : الجزيرة مباشر