لماذا تنهار الليرة التركية؟

تعيش تركيا حاليًا أزمة اقتصادية هي الأقسى في تاريخها المعاصر، ورغم ما تتمتع به من نهضة اقتصادية جعلتها من ضمن مجموعة العشرين الأقوى اقتصادًا في العالم، ومن ضمن عشر دول الأكثر إنتاجًا ونماءً في العالم، إلا أنه خلال الربع الأخير من هذا العام لاحت أزمة اقتصادية جديدة عصفت بالآمال.

التحديات الاقتصادية ليست جديدة بل هي ما اعتادت عليه حكومة الرئيس أردوغان وخاصة بعد محاولة انقلاب يوليو/تموز 2016، لكن أمام أردوغان وحزبه -حزب العدالة والتنمية التركي- وحلفائه تحديًا هو الأصعب قبيل الاستحقاق الانتخابي في 2023 كما أن المشهد هذا الأسبوع هو الأعنف مع معارضيه فالتظاهرات والدعوة لها مستمرة، كما أن التدهور ما زال مستمرًا في الليرة التركية، وهو إن كان منذ عدة سنوات، إلا أن وتيرته اشتدت هذا الأسبوع دون أن تتم معرفة السبب الحقيقي وراء هذا التراجع رسمياً، الإعلام في تركيا يتحدث عن “المؤامرات” في الخارج والبعض يتحدث عن سياسات نقدية فاشلة.

لكن السؤال الذي يمكن أن يجيب عليه الاقتصاديون وفق المؤشرات الاقتصادية هو: لماذا تنخفض الليرة التركية منذ فترة؟

ولعلنا في هذا المقال نطرح بعض الإجابات الاقتصادية

قرار الفائدة

من الجانب السياسي يتعرض نظام حزب العدالة والتنمية منذ سنوات لحصار اقتصادي غير معلن داخليًا وخارجيًا يظهر هذا جليًا في المؤشرات الاقتصادية، كما أن أزمات مثل جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة تلعب دوراً مضافًا من الضغوط على أردوغان وحزبه المقبل على انتخابات واستحقاقات نيابية ورئاسية بعد عام وعدة أشهر إن لم يكن أقل في حالة الدعوة لإنتخابات مبكرة.

ومع هذا الواقع قام الرئيس رجب طيب أردوغان بخفض سعر الفائدة بعدما وصل 18% قبل عدة أشهر، إلى أن بلغ  15% بعد قرار البنك المركزي خفض سعر الفائدة 1%.

بعد هذا القرار انخفض سعر الليرة التركية أمام الدولار ليصل إلى 13 ليرة ويستقر إلى 12 ليرة بعدها لتفقد الليرة خلال يومين 35% من قيمتها.

وقد استغربت كل المواقع والمؤسسات الاقتصادية الدولية موقف الرئيس أردوغان وهو رجل سياسي واقتصادي مخضرم،  فبدلاً من إعلان تصريحات وإصدار قرارات لتشجيع الأسواق على دعم العملة المحلية، ورفع قيمة الفائدة لجذب العملة الأجنبية، أعلن أنّه لن يتوقف عن معارضة أسعار الفائدة المرتفعة طيلة فترة بقائه في المنصب، معتبرًا أن الربا هو أساس المشكلة مستشهداً بآيات من القرآن الكريم.

لغة قد يعرفها الاقتصاديون الدوليون لكنهم قطعاً لا ينتهجونها، وهو أمر كما يبدو خلاف الحقيقة التى يظهر أنها استعدادات لإجراءات ينوي أردوغان اتخاذها، كما أن البعض ما زال يتحدث عن مؤامرة داخلية خارجية لحصاره سياسيًا.

الأزمة داخليًا على الصعيد الاقتصادي بدأت بصدام الرئيس مع البنك المركزي التركي ما انتهى إلى تناغم المؤسستين الرئاسية والاقتصادية مع اتهام المعارضة حالياً للبنك المركزي التركي بفقدانه الاستقلاليه والمصداقيه بسبب رضوخه لضغوط الرئيس من أجل خفض أسعار الفائدة، على حد وصفهم.

لكن الحكومة التركية ترى أنه لا بد من تناغم سياسات البنك المركزي مع رؤية الرئيس الأمر الذي تعمل به الكثير من الدول في العالم، فالرئيس المسؤول الأول عن الوضع الاقتصادي وهو من سيحاسب انتخابيًا.

لقد خاض أردوغان معركة صعبة ضد عدد من محافظي البنك المركزي السابقين وأقال عددًا منهم في طريقه لخفض سعر الفائدة لتحفيز الاقتصاد وللاقتراب من المنهج الاقتصادي الإسلامي الذي صرح به أردوغان، وليصبح الآن شهاب كافجي أوغلو رئيس البنك المركزي، وهو ممن يؤمنون بفكر أردوغان وسياسته اتجاه خفض سعر الفائدة.

أزمة عابرة

ووفق الأرقام فمن الصعب على أردوغان وكافجي أوغلو تقديم حلول سريعة، إلا أن المؤشرات تدلل على أن الأزمة تبدو عابرة إن استطاعت الحكومة استثمار ما لديها من مؤشرات في الاتجاه الصحيح.

وهنا نطرح ميزان السلبيات والإيجابيات في هذه الأزمة.

واقعيًا: 1- خلف محافظو البنك المركزي السابقون نقصًا في احتياطيات النقد الأجنبي وفق السياسات المتبعة منهم مع أزمة جائحة كورونا وانخفاض التصدير مع استيراد تركيا للطاقة بشكل ضخم مع ضخ الدولارات من الباب الخلفي، كما كان منهج المحافظين السابقين للحفاظ على قوة الليرة دون سياسات حقيقية، وهذه السياسة جاءت بنتائج عكسية وتسببت في تصفية احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي بالكامل، بعدما كانت تركيا من أكبر الاحتياطات النقدية في المنطقة وكان يستقر عند أكثر من 125 مليار دولار وبلغ بعض السنوات أكثر من هذا الرقم، وستفزع عندما تعلم أن ضخ الدولارات في السوق من قبل البنك المركزي أوصل احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي كما تقول المعارضة إلى سالب 35 مليار دولار، وهو ما ينفيه البنك رغم اعلانه انخفاض الاحتياطي بسبب السياسات المتبعة سابقاً.

وبحسب وكالة بلومبرغ (Bloomberg) الأمريكية فإن على الحكومة والشركات التركية سداد ديون خارجية بقيمة 13 مليار دولار خلال آخر هذا العام، كما يجب سداد حوالي ثمانية ملايين دولار خلال نوفمبر الجاري.

2- ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسب بلغت 60‎%‎ إلى 70‎%‎  خلال الـ12 شهراً الماضية وفقاً للإحصاءات الرسمية، بينما ارتفعت أسعار السكن بنسبة أعلى من 30% مما أثار مشكلة كبرى في الإسكان في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير.

وفيما يخص خط الفقر فقد تجاوز خط الفقر الـ10 آلاف ليرة تركية في الشهر، مع ارتفاع الدولار وبات عدد من تحت هذا الخط متضاعفا حيث إن الحد الأدنى للأجور الذي ما زال أعلى بقليل من 2.800 ليرة تركية (250 دولاراً). ويتقاضى قرابة 40% من العاملين الأتراك الحد الأدنى الرسمي للأجور.

3- وصول معدل التضخم السنوي في تركيا إلى نحو 20%، وهذا بالطبع ينطبق مع الاتجاه العالمي، وقد قرّر البنك المركزي خفض أسعار الفائدة بنسبة 2% الشهر الماضي من 18% إلى 16% وفي اتجاهه إلى 14‎%‎ كما يصرح البعض وهذا طبعاً مما أسفر عن معدل فائدة حقيقية سلبية.

وهذا سبب عزوف المواطنين والمستثمرين عن العملة التركية والبحث عن اليورو والدولار في حين بدأ بعض المستثمرين سحب أموالهم من البنوك فعلاً.

3- على عكس سياسة أردوغان، فإن أزمة الأموال الساخنة قصيرة الأجل بسعر فائدة عال كاستثمار غير حقيقي كانت هي السياسة السائدة في الفترة الماضية مع سياسات البنك المركزي التركي ومحافظيه، وهذا في الواقع لا يضخ أموالًا حقيقية لتحفيز الاستثمار وتقليل البطالة وخفض التضخم وقطعًا لم يكن يستفيد منه المواطن التركي بل يستفيد المستثمر الأجنبي.

إيجابيًا: يملك الاقتصاد التركي التنوع والقوة الإنتاجية وعوامل قوة الاقتصاد واضحة رغم الأزمة فالاقتصاد التركي حقيقي وغير هش ومتنوع الموارد وعلى رأسها التصنيع والتكنولوجيا والزراعة والسياحة.

ويمكن للاقتصاد التركي أن يتعافى سريعًا، فالمؤشرات تقول إن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا ارتفع بنسبة 21.7% خلال الربع الثاني من العام الجاري، بعد زيادةٍ بنسبة 7.2% خلال الربع الأول.

وفي تصريحات الرئيس أردوغان الأخيرة أثبت أنّ الصادرات بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 181.8 مليار دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي بزيادة وصلت إلى 34% مقارنةً بالعام الماضي، بينما تراجعت معدلات البطالة بنسبة 1.2% في سبتمبر/أيلول الماضي، لتنخفض من 12.7% العام الماضي إلى 11.5% العام الحالي.

وعلى الدولة التركية زيادة الحد الأدني للأجور مطلع العام المقبل 2022، كي تحافظ على الميزان الاقتصادي في البلاد، وعليها استثمار زيادة التصديرالحالي مع رؤية أردوغان الاقتصادية بعد إعلانه مشروعات التنقيب والتصنيع الجديدة.

وختامًا: فإن اللعبة السياسية خلال الأسابيع القليلة ستكون حاسمة فمع زيارة ولي عهد أبو ظبي لأنقرة وإعلانه اتفاقيات اقتصادية مع تركيا، استبشر اقتصاديون أتراك بوقف حرب اقتصادية كانت مستمرة لسنوات بين البلدين، إلا أنهم يرون أن أمام أردوغان التحرك في اتجاه دول أخرى لدفع عجلة اقتصاده رغم صعوبة العقبات الخارجية، وأمامه تحدٍ أكبر داخليًا يخص إصلاح ما أفسده محافظو البنك المركزي وتعافي الليرة التركية سريعًا، فالوقت لا ينتظره قبيل استحقاقات انتخابية لا يرحم فيها المصوتون من لا يسعفهم اقتصاديًا ولو كان بتاريخ وقامة الرئيس أردوغان.

المصدر : الجزيرة مباشر