سر هبوط الليرة التركية!

انخفاض سريع لـ "الليرة" التركية أمام الدولار

 

وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانخفاضات القياسية المتواصلة لسعر صرف الليرة التركية بأنها حرب استقلال اقتصادي، وأن تركيا ستخرج منتصرة من هذه الحرب، مبيناً أنه كان يمكن الارتكان إلى مجاراة النظام العالمي والإبقاء على سعر الفائدة المرتفع للحفاظ على استقرار العملة المحلية، لكن ذلك لا يصب في مصلحة الليرة أو الاقتصاد التركي.

وحقيقة فإن تداعي الليرة خلال الأيام الأخيرة كان مقلقاً للغاية ليس فقط للشعب التركي، ولكن أيضاً لكل من يعول على استمرار نجاح التجربة الاقتصادية التركية التي مثلت بادرة أمل للكثير من الشعوب الرازحة تحت الحكم الاستبدادي والذي قتل طموحات الشعوب في التعافي والتقدم الاقتصادي.

ملامح خطة غير معلنة

وما زاد من القلق الشعبي هو صورة التخبط التي طبعت السياسة النقدية التركية في الآونة الأخيرة والتي ظهر فيها جلياً تدخل الرئيس ومحاولاته المتكررة بخفض معدل الفائدة، وهي المحاولات التي واجهت معارضة شرسة من ثلاثة محافظين للبنك المركزي، اضطر الرئيس إلى اقالتهم في النهاية، بل وإقالة العديد من نواب المحافظين كذلك، حتى بدا الأمر ظاهرياً أنه عشوائي بامتياز.

ولكن المدقق سيري بوضوح ملامح خطة اقتصادية غير معلنة، والدليل هو تكرار انخفاض الليرة مع كل إزاحة لمحافظ البنك المركزي، والتصميم على تكرار الأمر لثلاث مرات متوالية، ثم قرار المركزي بخفض الليرة بمعدل 2% ثم تخفيض آخر بقيمة 1% في الشهر التالي، وهو الذي تسبب في الهبوط الأخير، ولا يمكن وصف هذا التصميم بالعشوائية، وغياب التخطيط.

وطبقا للتصريحات الأخيرة للرئيس أردوغان فإن معدل الفائدة هو المتسبب الرئيس للتضخم، وتثبيط الاستثمار، وبالتالي فإن استهداف خفض معدل الفائدة المحلية أسوة بالاقتصادات المتقدمة سيعمل على شحذ الاستثمار المحلي بما يعمل علي زيادة الإنتاج والتوظيف.

كما أن خفض الفائدة سيخفض قيمة الليرة وبالتالي سيعمل على إكساب الصادرات التركية المزيد من التنافسية في الأسواق العالمية، وهو الأمر المشاهد بعد قفزة الصادرات من 168 مليار دولار في العام السابق إلى ما يزيد عن 215 مليار دولار في العام الحالي، بالإضافة إلى المزيد من التنافسية للقطاع السياحي التركي الذي حقق تعافيا ملحوظا بعد أزمة كورونا، ويستعد لاحتلال مقعد من بين العشر الدول الأكثر جذبا للسياح خلال العام القادم.

ومن بين فوائد خفض الليرة التركية كذلك انخفاض أسعار أسهم الشركات التركية مقومة بالدولار، الأمر الذي يشجع المستثمرين الأجانب على شراء الأسهم التركية، علاوة على الاكتتاب في توسعات الشركات القائمة، كما أن هذا الانخفاض يعني خسائر ضخمة لحاملي أذون الخزانة من الأجانب والذي سيدفعون زيادة ما يقارب 100% لشراء دولارات تعادل نفس المبلغ الذي دخلوا به السوق، وهو الأمر الذي قد يؤخر خروجهم من السوق التركية، ويمنع المزيد من الضغط على الليرة.

اغتنام الفرص

تشير الفوائد السابقة والتي يهدف صانع القرار التركي إلى تحقيقها جراء خفض سعر الفائدة وبالتالي العملة المحلية بوضوح إلى استهداف توفير المزيد من فرص العمل في السوق التركية، وهو ما يبشر بانخفاض غير مسبوق في معدلات البطالة، بل ومن الممكن أن يسمح باستيعاب الأعداد المتزايدة من اللاجئين ضمن قوي العمل التركية.

وكانت إشارة أردوغان إلى أن أنقرة مصممة على اغتنام الفرص التي أتيحت خلال هذه الفترة الحرجة التي يمر بها العالم، إشارة شديدة الوضوح على تخطيط تركيا لاحتلال موقع اقتصادي أكثر أهمية في النظام العالمي الجديد، والذي فضحت أزمة كورونا خطورة اعتماده علي المصنع الصيني ومصانع جنوب شرق آسيا، الذي فشلت في تزويد العالم باحتياجاته في بداية الأزمة، ولا يزال العالم يعاني من تبعات الأزمات المتلاحقة حتى الآن.

ومن المرجح أن هذا التخطيط التركي يأخذ في اعتباره كذلك السلبيات الهامة جراء تلك الاجراءات، وأهمها المزيد من تآكل القوة الشرائية للمواطن التركي، وزيادة الضغط علي جودة حياته التي تتراجع باستمرار خلال السنوات الأخيرة، والتي من المؤكد أن تزيدها أوضاع التضخم العالمي وأزمات سلاسل التوريد والرقائق الإلكترونية وغيرها من الأزمات العالمية سوءا.

وقد بدأت مواجهة تركية فعلية مع تلك الأزمات، حيث أعلنت الحكومة عن حملات تفتيشية واسعة للرقابة على الأسواق والأسعار، كما أعلنت عن إنشاء 1000 متجر للتجزئة موزعة على عموم الولايات التركية، تنافس سعريا احتكارات سلاسل التجزئة الكبري في البلاد، واعلنت أيضا عن غرامات بمليارات الليرات على عدة سلاسل تجزئة كبري، عقوبة على تلاعبها بالأسعار، بالإضافة إلى مضاعفة قيمة الدعم المقدم للمواطنين خلال العام المالي القادم.

ولا يزال قيمة الحد الأدنى للأجور للعام الجديد محلاً للمناقشة حتى الآن، ولكن طبقا لتصريح الرئيس أردوغان فإنه سيكون التعويض المناسب للمواطنين الأتراك عن تخفيض قدراتهم الشرائية الناجم عن انخفاض قيمة العملة المحلية.

من المهم التنويه أن كل الاستعراض السابق هو محض تحليل وليس معلومات، وهو الأمر الذي قد يختلف معه البعض، الذي يري وجود مؤامرة علي الدولة التركية الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً، وهو الأمر الذي يدحضه إصرار الرئيس على خفض معدل الفائدة وبالتالي انخفاض الليرة، وهي التجربة التي حققت نفس النتائج لثلاث مرات سابقة.

وهناك من يرون عدم وجود خطط تركية وأن انخفاض الليرة التركية محصلة لسياسات اقتصادية خاطئة واقحام السلطة نفسها في السياسات النقدية، ويكفي فقط أن نشير في ذلك إلى استمرار ارتفاع الاحتياطي النقدي التركي، وإهمال البنك المركزي التركي استخدام أي نسبة منه في هذه المواجهة، وهو ما ينفي العشوائية بامتياز.

وكذلك من المهم التنويه أن تخطيط الإدارة التركية لكل ما سبق يعد مغامرة كبري لا سيما في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد عام ونصف عام تقريبا، وأنها تجربة تواجه سياق النظام المالي العالمي الذي يعتبر معدل الفائدة عماده الرئيس، وأن محاربته هو حرب علي النظام المالي العالمي، سيسطر المنتصر فيها آليات جسورة ومبتكرة للانتصار على الهيمنة والتبعية.

المصدر : الجزيرة مباشر