القمح المصري والقمح الأجنبي

تستورد مصر من القمح نحو 13 مليون طن، وهي المستورد الأول والأكبر له في العالم على الإطلاق

كشفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، عن أن مؤشر الأسعار العالمية للأغذية الأساسية ارتفع مجددا في شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بنسبة 3% عن مستواه المسجّل في سبتمبر/أيلول السابق عليه. وعلى أساس سنوي، ارتفع المؤشر بمقدار 31.3 % عن مستواه في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2020، ليبلغ أعلى مستوى له منذ يوليو/تموز 2011، محذرة حكومات المنطقة بأزمة الغذاء التي سبقت الربيع العربي.

وعزت المنظمة الزيادة الكبيرة في المؤشر إلى استمرار ارتفاع الأسعار العالمية للحبوب الرئيسية، وعلى رأسها القمح، المادة الأساسية في صناعة الخبز، وتستورد مصر منه نحو 13 مليون طن، وهي المستورد الأول والأكبر له في العالم على الإطلاق. وحذرت المنظمة من استمرار أسعار القمح في الارتفاع المطرد للشهر الرابع على التوالي، بعد أن سجلت زيادة إضافية في أكتوبر/تشرين الأول قدرها 5% عن الشهر السابق، ولتصبح أعلى بنسبة 38.3 % عما كانت عليه في السنة الماضية، ومحققة أعلى مستوى لها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012.

وفي تقريرها الإسبوعي، أعلنت مؤسسة القمح الأمريكي، وهي منظمة معنية بتسويق صادرات القمح الأمريكي بدرجاته الست حول العالم، عن تنبؤات مستقبلية سلبية لأسعار القمح الدولية التي وصلت لأعلى مستوى منذ ديسمبر 2012. وكشفت عن تراجع الإنتاج والمعروض من السلعة الإستراتيجية في السوق العالمي، وعن زيادة كبيرة في الطلب حتى منتصف العام القادم. وتوقعت المؤسسة أن ينخفض ​​إنتاج القمح الكندي بنسبة 38% عن العام الماضي بسبب أحد أكثر فصول الصيف حرارة وجفافًا على الإطلاق في تاريخ البلاد، ما أدى إلى ارتفاع أسعار القمح إلى أعلى مستوياتها في 13 عامًا.

المؤسسة، التي لديها إمكانية الوصول للبيانات الموثوقة، أكدت أن المخزونات العالمية من القمح في أدنى مستوياتها في 6 سنوات، وأن روسيا، وهي أكبرمصدر للقمح في العالم، فرضت ضريبة لتخفيض صادراتها من القمح بنسبة 32% لتلبية حاجة السوق المحلي باعتبار أن ما يعوزه المواطن الروسي يحرم على غيره من البشر.

بعد إسبوع من تقريري الفاو ومؤسسة القمح الأمريكي، أعلن مجلس الوزراء المصري عن تحديد سعر توريد أردب القمح المحلي لموسم 2021/2022 بقيمة 820 جنيها للأردب، الأردب يعادل 150 كيلو غراما، وبزيادة قدرها 95 جنيها أو 13% عن سعر توريد العام الماضي. وهي المرة الأولى الذي تعلن فيه الحكومة السعر مبكرا عن موعد الحصاد الذي يبدأ في منتصف شهر أبريل من كل عام.

القمح المصري في ذمة الله!

واعتبر المتحدث باسم الحكومة زيادة السعر رسالة إلى المزارع بأن الدولة المصرية تقف بجانبه وتدعمه. وبين أن السعر الجديد جاء بعد دراسة وزارتي الزراعة والتموين “متوسط” الأسعار العالمية وتكاليف زراعة الفدان. واعتبر وزير الزراعة القرار تاريخيا، ويعطي المزارع الحرية في مقارنة الزراعات البديلة واختيار زراعة القمح الذي سيحقق له أفضل الأرباح لأن متوسط إنتاجية الفدان في مصر بلغت 18 أردبا، وسيشجع المزارعين على زيادة المساحات المزروعة بـالقمح إلى 3.7 مليون فدان مقارنة بالموسم الماضي التي كانت 3.4 مليون فدان، فضلا عن زيادة كميات محصول القمح التي سيتم توريدها من قبل المزارعين.

القرار يوحي بتغيير الحكومة سياستها السلبية تجاه الفلاح المصري وخصوصا مزارعي القمح والتي اتسمت في كثير منها بالبخس والإفقار، وربما يكشف تداركها أخيرا أهمية القمح كمحصول استراتيجي بعد أن قامت بإلغاء الدعم المخصص له منذ 2016، وعرقلت عمليات الشراء من الفلاحين حتى كتبت صحيفة الأهرام التعاوني، وهي صحيفة قومية، بالمانشيت العريض على صفحتها الأولى: “القمح في ذمة الله.. وزيرا الزراعة والتموين يعلنان نهاية عصر زراعة المحصول في مصر” وزاد معدل الاستيراد حتى وصل إلى 13 مليون طن.

وشجبت الصحيفة تصريح وزير التموين السابق، خالد حنفي، بأن مصر كأكبر مستورد للقمح في العالم تعتبر “نقطة قوة” تستطيع أن تتحكم في السعر العالمي، وقوله إنه لا يجب أن يكون لدى مصر اكتفاء ذاتي من القمح، وليس من مصلحة مصر أن تكتفي ذاتيا من القمح! ونقلت عن وكيل أول وزارة الزراعة الأسبق حمدي العاصي، قوله إن هناك خطة ممنهجة لضرب زراعة القمح في مصر.

امتصاص الغضب

ولكن هل السعر الجديد يدعم الفلاح فعلا، ويشجعه على زيادة المساحة المنزرعة بالقمح؟! أم إن الحكومة رفعت سعر القمح بنسبة 13% قبل زيادة أسعار الأسمدة الكيماوية بمعدل 50% لامتصاص غضب المزارعين؟
إن قراءة للمشهد تقول إن الحكومة رفعت سعر القمح 95 جنيها للأردب قبل موسم الزراعة لتشجيع المزارعين على زراعة المحصول ثم رفعت سعر الأسمدة 1500 جنيه للطن قبل الزراعة أيضا لإبطال مفعول القرار الأول.

أما تحديد سعر استلام القمح بمبلغ 820 جنيها للأردب على أساس “متوسط الأسعار العالمية”، وفق تصريح متحدث الحكومة، فهو أساس خاطئ ومجحف بحق مزارع القمح المصري. ذلك أن جودة القمح المصري، الذي يتميز بالمحتوى الرطوبي المنخفض ونسبة البروتين العالية وخلوه من فطر الإرجوت السام وغيره من السموم الفطرية المسببة للسرطان، وهي صفات فريدة قلما توجد في مثيله من الأقماح، وتسويته بالأقماح الأجنبية هو إجحاف بحق المزارع المصري الذي ينتج هذا النوع من القمح الفاخر.

وقد اعتادت الحكومات المصرية استيراد الأقماح الرخيصة بغض النظر عن جودتها. وقبل أربع سنوات قامت الحكومة بتعديل المواصفة القياسية المصرية لتستورد قمح عالي الرطوبة وملوث بفطر الإرجوت. تقوم بشراء القمح من الدرجة الرابعة لأن سعره يقل عن سعر القمح من الدرجة الأولى بحوالي 40 دولارا لكل طن.

وفي التاريخ القديم والحديث قصص ومغامرات لإستيراد ما لا يصلح للبشر تناوله. على سبيل المثال، في شهر ديسمبر سنة 2003، استوردت شركة تابعة لوزارة قطاع الأعمال العام شحنة قمح مقدارها 31 ألف طن من القمح الفرنسي منخفض السعر. وأرسلت عينة من الشحنة إلى معامل معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية التابع لوزارة الزراعة لاستصدار تقرير مطابقة المواصفات والصلاحية..

وقام باحثان بتحليل العينة، وكتبا تقريرا يفيد بأن القمح لا يصلح لإنتاج الخبز وإنما مخصص للعلف الحيواني. وكان مدير المعهد في مهمة رسمية خارج البلاد، وكان المفوض للقيام بمهامه وكيل المعهد، وهو أستاذ يشهد زملاؤه وتلاميذه بنزاهته، وقام باعتماد نتيجة التحليل دون تلاعب.

غضب يوسف والي، نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة في هذا التوقيت، وعزل وكيل المعهد من منصبه لنزاهته ورفضه تغيير التقرير، وحول الباحثين للتحقيق بعد أن رفضت الباحثة التي شاركت زميلها في تحليل جودة العينة تغيير نتيجة التحليل وتمسكت بمبادئها.

ولحسن حظ الشعب المصري الطيب أن أعضاء معارضين في مجلس الشعب قدموا استجواباً عاجلا لوزير قطاع الأعمال مختار خطاب، لكنه امتنع عن الحضور. وقدم يوسف شهادة من وزارة الصحة تفيد سلامة الشحنة. ولكن لسوء حظ الشعب الطيب أيضا أن القضية تسربت لوسائل الإعلام وكشف أعضاء المجلس أن الرقابة الإدارية تجري تحقيقا آخر في القضية لأن الشحنة تم توزيعها على المخابز التابعة لوزارة التموين بمحافظة الفيوم وتناولها المواطن الغلبان.

وفي سنة 2006، اشترت مصر شحنة قمح أوكراني لا يصلح لصناعة الخبز ويتم بيعه كعلف حيواني لأنه يحتوي على أقماح مصاب بحشرة البق التي تسبب سيلان العجين وتمنع تكوين قوام رغيف الخبز وسبب أزمة في مصر.

حاولت الحكومة المصرية طلب تعويض من الشركة المستوردة، واعترضت أوكرانيا وهددت بطلب تعويض للإساءة لسمعة القمح الأوكراني، لأن الحكومة المصرية تبحث عن السعر المنخفض وتفرط في مواصفات الجودة وتطلب شراء القمح منخفض الجودة، وأغلقت القضية قبل أن تبدأ. وقامت وزارة التموين بتوزيع العجين على المواطنين ومربي المواشي وأصحاب مزارع الأسماك في الريف وقرى الصعيد لصعوبة عملية الخبيز. وتكررت القضية في سنة 2006، وفي سنة 2008.

بين القمح المصري والقمح الأمريكي

لو أردنا تقييم القمح المصري فلنقارنه إلى جودة القمح الأمريكي المتقارب معه في الجودة. وهذا الإسبوع أعلنت مؤسسة القمح الأمريكي عن أسعار القمح الأمريكي المستخدم في صناعة الخبز وهي 435 دولارا للطن، فوب، يعني دون احتساب تكاليف الشحن والتأمين. وتوقعت المؤسسة أن يستمر السعر حتى منتصف سنة 2022. وإذا أضفنا 40 دولارا لكل طن مقابل تكاليف الشحن إلى مصر، يصبح السعر 475 دولارا للطن، وهو ما يوازي 1120 جنيها للأردب.

وإذا أضفنا قيمة الدعم الحكومي لمزارعي القمح في الولايات المتحدة وكل الدول الأخرى، وهو في حدود 100 دولار للطن، يصبح الثمن الفعلي لطن القمح في السوق العالمي، الذي لا تزيد جودته عن جودة القمح المصري بل تقل، حوالي 580 دولارا للطن، بما يوازي، 1350 جنيه مصري للأردب، بزيادة قدرها 530 جنيها عن السعر الذي أعلنته الحكومة مؤخرا.

ولو سمحت الحكومة للفلاحين بتصديره فلن يقل سعر القمح المصري في السوق الدولية عن هذا السعر. أما سعر القمح الأمريكي الديورم والمخصص لصناعة المكرونة فيزيد 50 دولارا أخرى عن سعر القمح المخصص لصناعة الخبز، ولا تزيد جودته عن أصناف قمح بني سويف وسوهاج المخصصة لذلك الغرض.

أما عن توقيت تحديد سعر توريد القمح وأنه سيشجع المزارعين على زيادة المساحات المنزرعة بـالقمح، ورغم أنه قرار تاريخي يحدث لأول مرة، لكنه جاء متأخر جدا ولن يحقق هدفه. ذلك أن الفلاح في الوجه البحري ومصر الوسطى يقرر زراعة المحصول الشتوي في شهر سبتمبر، وقام بالفعل بزراعة البرسيم، وهو المنافس الأكبر لمحصول القمح وصاحب العائد المالي الأعلى، في شهر أكتوبر الماضي.

أما المساحة التي قرر زراعتها بالقمح فقد قام بتجهيزها وحرثها وريها في شهر أكتوبر الماضي ليزرعها في شهر نوفمبر الحالي والأسبوع الأول من ديسمبر. وكذلك يفعل المزارعون في الصعيد ومصر العليا، ولكن متأخرين 15 يوما عن الوجه البحري لارتفاع درجات الحرارة. ولن يقوم الفلاح بحرث محصول البرسيم وزراعة القمح مكانه من أجل 100 جنيه في الأردب، لأن عائد الأول يساوي ضعف عائد الثاني ببساطة يا حكومة! لذلك لن يكون لزيادة سعر أردب القمح 100 جنيه، ولا لتوقيت إعلانه تأثير كبير على زيادة المساحة المنزرعة بالقمح هذا العام.

جدية الحكومة تتطلب تطبيق سياسة التحفيز السعري، كما هو معمول بها في كل دول العالم، متضمنة قيمة الدعم، بما يحقق هامش ربح حقيقي يحفز الفلاح لزراعة محصول القمح المكلف فعلا، والذي يجهد التربة ويمكث في الأرض شهور طويلة. ويتم الإعلان عن سعر الموسم القادم في وقت حصاد العام الحالي، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار عائد المحاصيل المنافسة لمحصول القمح، مثل البرسيم، والكنتالوب وبطيخ اللب الذي أقحمه يوسف والي في الزراعة المصرية وعمت به البلوى، حتى تصل المساحة إلى 5 ملايين فدان، 3 ملايين فدان منها في الوادي القديم، ومليون فدان في الساحل الشمالي الغربي، ومليون فدان في شرق وغرب الدلتا، وهو هدف ممكن لو خلصت النية والخطط جاهزة لتحقيقه.

المصدر : الجزيرة مباشر