“ربيع الشيخ”.. مئة يوم من الاعتقال!

ربيع الشيخ

اليوم الأربعاء الموافق 10 نوفمبر، الخامس من شهر ربيع الآخر، يكون قد مر مئة يوم على اعتقال زميلنا ربيع الشيخ، الصحفي المصري، ومنتج المقابلات بقناة الجزيرة مباشر، من دون أن يكون قد ارتكب جرماً يستحق عليه هذا العقاب القاسي، لكن ما يبرره أن القانون في إجازة، ولا نعرف الجهة التي أصدرت الأمر باعتقاله، فربما لو توصلنا إليها لوقفنا على “الجمعية السرية التي تحكم مصر”!

المقال الذي حمل هذا العنوان: “الجمعية السرية التي تحكم مصر”، كتبه إحسان عبد القدوس، بعد الانقلاب العسكري الأول، ولم يمنع قربه من الضباط الأحرار، ومن عبد الناصر على وجه التحديد، من اعتقاله، رغم أنه كان “الكاتب المعلم” لجمال عبد الناصر، الذي كان يزوره في مكتبه بمجلة روزا اليوسف، ومثلت حملة “عبد القدوس”، على ما سمي بالأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، مادة للقيام بالانقلاب وتبريره، وخرج “إحسان” من المعتقل، وقد تغيرت لغة خطابه مع الزعيم الملهم، فكان يخاطبه بـ “سيادة الريس”، بعد أن كان “جيمي”، لكنها سنة الانقلابات العسكرية، التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، ولن تجد في طول التاريخ وعرضه لسنتها تبديلاً!

ربيع ليس “إحسان”:

ولم يكن “ربيع الشيخ” في حكم “إحسان عبد القدوس”، من حيث قربه من رأس الانقلاب، ولكن اعتقاله بهذه الطريقة ذكرنا بمقال “الجمعية السرية التي تحكم مصر”،  وإن كان “إحسان” خرج من تجربة السجن واستمر مقرباً من أهل الحكم، ربما لأن “جيمي” كان يستهدف من هذه التجربة أنه على رأس الجمعية السرية، وكان لابد أن يظهر “البرادعي” في الوقت المناسب، وجيل “ربيع الشيخ”، لا يعرف “البرادعي” في مسلسل “وتوالت الأحداث” لحسام الدين مصطفى، الذي حير ضابط الشرطة “رشدي”، فكلما ألقى القبض على من اعتقد أنه المجرم “البرادعي”، تلقى اتصالاً هاتفياً ممن يقول له: “أنا البرادعي يا رشدي”، ولكن كعادة المسلسلات القديمة فلابد أن يقع “البرادعي” وكل برادعي في قبضة العدالة؛ فالجريمة لا تفيد. فجيل “ربيع” لا يعرف سوى “محمد البرادعي”، الذي انتهى به المطاف مناضلاً من أجل استمرار حصوله على جواز سفره الدبلوماسي، فيتجاهل اعتقال أكثر شباب الثورة قرباً منه وهو “زياد العليمي” حتى لا يعكر صفو النظام فيحرمه من الميراث. يا له من مقلب شربناه!

لا أسلم تماماً بأن عبد الناصر كان هو رئيس الجمعية السرية التي تحكم مصر، وإن أصدر أمره باعتقال “إحسان عبد القدوس”، ليتنفس من ضلوعه وأستاذه السابق يخاطبه بـ “سيادة الرئيس”، وهو يقول “لقد غيرك السجن كثيراً يا إحسان”، فيشبع إحسان نازيته بقوله: “طبعا ياريس”، والدليل على أن “الريس” ليس هو رئيس هذه “الجمعية السرية التي تحكم مصر”، أن اعتقالات طالت صحفيين في “الأهرام”، يعملون مع محمد حسنين هيكل الرجل القوي في هذا العهد، مثل لطفي الخولي، بل وصل الأمر لاعتقال مديرة مكتب هيكل نفسه، صحيح أنه تمكن من الإفراج عنهم بعد ذلك، لكن أن تمتد اليد لاعتقالهم من الأساس، فهذا كاشف عن أن الحاكم مهما كانت قوته، فإنه لا يسيطر على تفاصيل البلد وأطرافه، بل إنه في الوقت الذي يعتقد فيه أنه “سبع الليل”، فإن هذا إشارة إلى نشأة جيوب وجمعيات سرية تحكم من وراء ظهره! وعلى ذكر هيكل، فقد قال في منتصف الثمانينات “لا أعرف من الذي يحكم مصر الآن”؟!

نشر أخبار كاذبة:

وعندما تنشأ مثل هذه الجيوب في الحكم، فإنه ليس -فقط- من الصعب أن نعرف من يحكم؟ لكن أن نعرف ما هي جريمة معتقل مثل “ربيع الشيخ”، وقد وجهوا له تهمة من ابتذالها، أصحبت تضحك الثكالى؛ فتقريبا كل المعتقلين يوجه لهم الاتهام بنشر أخبار كاذبة، وكنت في السابق أقول إن الأخبار الكاذبة يُرد عليها بالأخبار الصحيحة، وليس باعتقال المنسوب إليه نشر هذا اللون من الأخبار، لكن في حالة “ربيع الشيخ” صرت منشغلاً بمعرفة هذه الأخبار، وعندما ينقشع الغبار، فإن هذه الاتهام بنشر أخبار كاذبة، سيكون مادة مهمة لبحث أكاديمي جاد، للوقوف على تفاصيل القضايا في هذا السياق!

لا ينشر “ربيع الشيخ” أخباراً من الأصل، لتكون كاذبة أو صحيحة، وعندما وصلني نبأ الاتهام الموسيقي الموجه إليه، ذهب بصري تلقاء الأخبار التي نشرها حديثاً على صفحته عن المصالحة المصرية القطرية، ثم تذكرت أنه نشر أخبار اجتيازه لدورات عدة في معهد الجزيرة للتدريب، وصوره الكثيرة وهو ينظر في الفضاء اللامتناهي وبتعليق متكرر: “أحلم بغد مشرق”، فهل اعتبروا هذا الحلم إدانة للواقع، وكونهم جزءاً من هذا الواقع، فبمفهوم المخالفة فإن الواقع ليس مشرقاً، وبالتالي اعتبروا هذا من الأخبار الكاذبة؟!

لو قالوا لـ “ربيع الشيخ ” إن حلمه هذا يؤذي مشاعرهم الجياشة لتوقف ليس فقط عن الحلم بمستقبل مشرق ولكن أيضاً عن “الحلم” بشكل عام، وكلما رأى في منامه حلماً، قام فزعاً باعتباره “كابوساً”، ليهتف: “خيراً، اللهم اجعله خيراً”.

اعتقال بهاء وهشام:

لقد سافر ربيع الشيخ ليقضي إجازته السنوية هذا العام في مصر متحمساً، على وقع المصالحة المصرية القطرية، وكان من أكثر الذين احتفوا بها وبتفاصيلها على صفحته على “فيس بوك”، والحديث عن عودة مكتبها، ولم يكن قد امتنع وغيره من السفر إلا في السنة التي تم القبض فيها على “محمود حسين”، ابن التلفزيون المصري، والذي كان اعتقاله مفاجأة لكل من يعرفونه، و”محمود” ليس جزءاً من أي جدل سياسي، وعندما جاء للدوحة فلم تكن مصر ضمن عمله المهني، ثم حدث بعد ذلك أن اعتقل “هشام عبد العزيز”، زميله في “الجزيرة مباشر”، وكان عبثاً أن يتم توجيه الاتهام له بأنه ينشر أخبار كاذبة أيضاً!

وإذا كان من الجائز أن يوجه الاتهام لـ “ربيع الشيخ”، لأن له صفحة “فيس بوك” يحلم فيها بغد مشرق، وهو حلم يهدد الأمن القومي المصري، فإن “هشام” لا يحلم، ولا يملك صفحة على منصات التواصل الاجتماعي، وهو إنسان في حاله، وإذا كانت الرسائل من قبل السادة الضباط بأنهم يعرفون دبة النملة في الجزيرة، بما في ذلك “الروتا” وتقسيم العمل، فليس العلم هنا مما يُفخر به، والشموخ الأمني الحقيقي يكون بالتنبؤ بأن ثورة ستقع في 2011، وليس بعدد المقاعد في (النيوز روم) لأن الجزيرة ليست تنظيماً سرياً، يمثل التوصل لتفاصيل العمل فيها اختراقاً أمنياً يستدعي هذا الفخر غير المبرر!

ولو كان علمهم يتصل فعلاً بالجزيرة من الداخل، لما كان ينبغي أن يتم توقيف هشام عبد العزيز لدقيقة واحدة في مطار القاهرة، أثناء عودته إليها قادماً من الدوحة، لأن العلم كان يستدعي الوقوف على أنه إنسان منطوياً على نفسه ولم يكن حتى طرفاً في سجال الزملاء بعيداً عن السياسة، ولو في حديث المستشفيات والأطباء، أو في “القفشات” التي تميز غرفة الأخبار في “الجزيرة مباشر” عن الجارة بالجنب “الجزيرة الإخبارية”، لأن الروح المصرية هي السائدة!

فهشام عبد العزيز شخص منكفئ على عمله، وربما المشكلات الصحية في عينيه جعلته أكثر انطواء، وعندما يوجه له الاتهام بنشر أخبار كاذبة فإن هذه “نكتة الموسم”، ليس فقط لأنه لم يحلم بغد مشرق مثل “ربيع الشيخ”، ولكن لأنه لا يملك صفحة على ” فيس بوك”، وقد اعتقلوا أيضاً “بهاء إبراهيم” بعد أن سحبوا جواز سفره، وصفحته على “فيس بوك”، لم يكن فيها لا أخبار ولا سياسة!

محنة الولي الصالح:

ولماذا نذهب بعيداً؟ فشيخ المعتقلين “أحمد النجدي” ضرب اعتقاله كل ما كنا نعتقد أنه قواعد حاكمة لتصرفات أهل الحكم، فالرجل دائم التردد على مصر، لم يتوقف أبداً، حتى عندما امتنع الكثيرون عن العودة بعد اعتقال “محمود حسين”، وكان يسافر مصر تقريباً كل ستة شهور، حتى في فترة الحصار، وما يستدعيه هذا من المرور عبر طريق رأس الرجاء الصالح، وهو الذي يعاني من عدة أمراض، ثم إن عمله بعيداً عن التحرير الصحفي، فهو مدقق لغوي، فضلاً عن أنه ابن الإذاعة المصرية، وقد سافر لسنوات للعمل في الكويت، قبل أن يلتحق بالعمل في الجزيرة في غرفة الأخبار، بعدها كانت تجربته الأخيرة، وهو منذ أن يأتي للعمل لا يتحرك إلا للصلاة في “مصلى القناة” على كرسي، وكان يحدث أن نتحدث معاً، بعيداً عن السياسة، و عن تجربته الإذاعية ورواد الإذاعة المصرية من أمثال خالد الذكر صبري سلامة، وغيره من الأسماء التي ارتبطت بأسماعنا بينما كانوا أساتذة لـ “أحمد النجدي”!

ورأيي فيه أنه من أولياء الله الصالحين، وقد لمست كراماته، والأولياء بالمفهوم الصوفي لدي لا يجوز لهم أن يأخذوا إلى التجاذبات السياسية، وكنت أقول إن الجزيرة مباشر بخير ما دام فيها أحمد النجدي!

و”النجدي” ولأنه فوق الستين (مع الدعاء له بطول العمر ووافر الصحة)، ليس مثل “ربيع الشيخ” الشاب المقبل على الحياة بلا مبرر، فلا يشاركه الحلم بـ “الغد المشرق”، لأنه لا يملك صفحة على منصات التواصل يكتب فيها خواطره، ويمارس عليها أحلامه، ويتنفس بواسطتها من تحت الماء، فكيف يكون الاتهام الموجه له هو نشر أخبار كاذبة؟!

على موعد مع الغد المشرق:

وقد بدأ البعض بالسفر إلى مصر بعد المصالحة والحديث عن إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة بالقاهرة، ولعل “ربيع الشيخ”، اعتبر –بذلك– أن حلمه بدأ في التحقق، وأنه صار قاب قوسين أو أدنى من “الغد المشرق”، ونصحه الناصحون بألا يغامر بالسفر حتى يتم الافراج عن زملائه المعتقلين، وأمام إصراره تطورت نصيحتهم: انتظر حتى الإفراج عن الرجل الصالح أحمد النجدي، لكنه ركب رأسه!

فهو في الأخير ليس راسماً لسياسة الجزيرة، ولا يعمل في التحرير، فهو منتج مقابلات، دوره إقناع الضيوف بالظهور، وقد نجح في اختصاصه الوظيفي، ليس فقط على مستوى ضيوف القاهرة، ولكن على مسار الشأن السوداني، وجاء بكل ألوان الطيف السوداني لشاشة مباشر!

إنه دؤوب إذ وقف على رأس أحد فلا يجد أمامه من سبيل إلا أن يقبل دعوته، وأمام هذه القدرة على الإلحاح كنت إذا حالت ظروفي دون قبول دعوته لا أرد على اتصالاته، واتفقنا في النهاية على قبول الاعتذار مقابل ألا اتجاهل اتصالاته. وفي حضور التنوع المهني فإن علاقتي أكثر تميزاً بمن عملوا في الصحافة الورقية (أصل الصحافة)، وقد كان “ربيع الشيخ” من هؤلاء، قبل أن ينتقل للعمل التلفزيوني.

وكان “ربيع الشيخ”، يحرص على توسيع دائرة المشاركين من القاهرة، وبذل جهوداً خارقة بضيوف جدد، للدفاع عن موقف النظام، فهو يدرك أنه يعمل في قناة “الرأي والرأي الآخر”، وقد وجد في المصالحة فرصة لاستضافة آخرين، ليعبروا عن موقف سلطة الحكم من بعض القضايا.

ولأنه كان مهنياً وليس سياسياً، ولأن هناك مصالحة، فقد اعتبر “ربيع الشيخ” نفسه جزءاً منها، وبشر بها وفرح لها، ولم يقنعه من طالبوه بالتمهل، فلابد من مصر وإن طال السفر، ليتم اعتقاله هناك ويكمل في المعتقل مائة يوم بالتمام والكمال!

لعله يتوقف عن الحلم بالغد المشرق، فقد أزعج بحلمه السلطات!

المصدر : الجزيرة مباشر