الإسلاميون ومعضلة السياسة.. رؤية مغايرة

في مقاله بموقع الجزيرة مباشر فتح الكاتب الصحفي قطب العربي النقاش حول معضلة ممارسة “الإسلاميين” السياسة في مقال حمل عنوان:” الإسلاميون ومعضلة السياسة بعد تجاربهم المريرة”

إذ طرح سؤالا مهما عن “كيف يتعامل الإسلاميون مع السياسة مستقبلا بعد أن ظهر لهم أن منظومات الحكم الحالية لها قوانينها التي تفرض عليهم الالتزام بها”

ومن خلال استعراض تجارب “الإسلاميين” في الحكم خلال الفترة الماضية خلص إلى وجود ثلاثة خيارات أمامهم بعد تلك التجارب:

الأول: “العمل وفق الهوامش المسموح بها في منظومات الحكم الحالية مع ما يترتب على ذلك من الاستعداد لتقديم تنازلات للبقاء ضمن المنظومة”

الثاني: “رفض سياسة الهوامش أو العمل من خلالها، والاستمرار كجماعات ضغط تتحرك لتغيير قواعد اللعبة السياسية من خارجها وليس من داخلها”

الثالث: “استخدام القوة المسلحة للوصول إلى السلطة”

تفاصيل أخرى ذكرها كاتب المقال يمكن الرجوع إليها، لكن ما يهمني هنا عدة أمور سواء من حيث الشكل التأسيسي للمقال، أو من حيث التفاصيل والنتائج المترتبة عليها.

فشل الإخوان المسلمين وليس “الإسلاميين”:

مقال الزميل قطب العربي، شكل جزءا من حديث أوسع، اتسع نطاقه منذ فترة عن فشل “الإسلاميين” في السلطة، والذي تجدد بقوة عقب الانقلاب الناعم الذي قاده الرئيس التونسي قيس سعيد والخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية في المغرب، وبات هذا “الفشل” محور العديد من المقالات والحلقات الحوارية خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.

بداية نحن إزاء خطأ توصيفي فادح، فالفشل هنا لا يمكن نسبته بحال من الأحوال إلى عموم الإسلاميين بل إلى جماعة الإخوان المسلمين وحدها، خاصة بعد الربيع العربي فهي التي آلت إليها السلطة في مصر وليبيا وتونس والمغرب واليمن وإن بدرجات مختلفة حيث وصلت أعلاها في مصر، ولم يكن عموم التيار الإسلامي بتنويعاته واختلافاته شريكا للتنظيم في الحكم حتى يتحمل اليوم فاتورة الفشل معها!

بل إن العلاقة بين الإخوان ومكونات التيار الإسلامي الأخرى لم تكن يوما على وفاق ووئام بل كانت مثار شد وجذب واتهامات متبادلة، ودائما ما نظرت الجماعة إلى “الآخر” داخل الحركة الإسلامية نظرة شك وارتياب باعتباره جزءا من مؤامرة كونية لضرب الجماعة “الأم”!

ففي رسائل وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون – التي سمح بالكشف عنها منذ فترة -، شهادات أو انطباعات أمريكية مهمة عن علاقة الإخوان بغيرهم من الإسلاميين عقب الإطاحة بمبارك، ونشرها موقع الجزيرة نت على أجزاء بعنوان: “الرواية الأمريكية السرية للثورة” ورد فيها:

“وبحسب الرسائل الأمريكية فإن الجيش قدَّم مستوى (غير محدد بدقة في الرسائل) من التمويل والمعلومات للجماعة لمنحهم أفضلية على الجماعات العلمانية المنافسة، وفي المقابل قدَّم الإخوان معلومات للمجلس العسكري حول أنشطة الأحزاب الإسلامية الأصغر والأكثر راديكالية.”

ولا أظن أننا قد نصل إلى إجابات واضحة من الجماعة عن هذه الأحزاب “الإسلامية” التي تم استهدافها، ولا عن طبيعة المعلومات التي أمدوا بها المجلس العسكري آنذاك!

علاقة الإخوان بغيرهم من الإسلاميين عقب الإطاحة بمبارك مليئة بالمفارقات والتناقضات، فقد أعطوا حزب النور السلفي كل ما يريد رغبة في احتوائه، رغم أنه كان أحد أهم من شدوا الحبل على عنق التنظيم بعد ذلك. في وقت عاملوا فيه حزب البناء والتنمية بمزيج من التجاهل والتعالي حتى أنهم خالفوا ما تم الاتفاق عليه في كيفية توزيع مقاعد مجلس الشورى التي كان يحق للرئيس محمد مرسي تعيينها، وكان حزب البناء والتنمية حينها قاب قوسين أو أدنى من الاعتذار عن قبول الاستمرار في مجلس الشورى، ثم ما لبث الإخوان أن سارعوا بالتحالف معه عندما شعروا بالخطر أواخر يونيو ٢٠١٣ ظنا منهم أن الجماعة الإسلامية قد تندفع للصدام بما يعفي الإخوان من فاتورة تلك المواجهة، لكن الذي حدث عكس ذلك.

هذه المأزومية استمرت حتى بعد الانقلاب حيث انفضت عرى المعارضة عروة عروة ولم يبق منها إلا أطلال!

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخسارة الأكبر التي منيت بها الجماعة ليست ضياع السلطة كما يظن كثيرون، بل فقدان الثقة فيها، ولا أتحدث هنا عن القوى السياسية التي ساندت الانقلاب بل أعني تلك التي تحالفت مع الجماعة ودفعت مثلها فاتورة ذلك التحالف، وفي مقدمتهم الإسلاميون. وهذه الخسارة قد تحتاج الجماعة إلى عقود لتعويضها وقد لا تنجح في ذلك!

وفي تقديري أنه إذا عاد الزمان بالكيانات وكثير من الشخصيات التي اصطفت مع الجماعة في يوليو ٢٠١٣، فلن تكرر ذلك الاصطفاف مرة أخرى، حتى وإن عارضت الإطاحة بالرئيس محمد مرسي.

إذن الإسلاميون لم يكونوا جزءا من الحكم كي يحاسبوا اليوم على فاتورة الفشل، التي يتحملها الإخوان وحدهم، والذين رفضوا الاستماع إلى كثير من النصائح التي أسديت إليهم من داخل الحركة الإسلامية.

أزمة الإخوان الحقيقية..

أزمة الإخوان ليست في اختيار التشدد في مكان، أو المرونة في مكان آخر، فهذه منهجيات متنوعة يتعامل بها السياسي لتحقيق أهدافه، فقد يتشدد في موقف، ويبدي مرونة فائقة في موقف آخر، ويقف بدون فعل في موقف ثالث. وهكذا

بل الأزمة أشد عمقا من كل هذا ضاربة بجذورها في عمق بنية التنظيم الفكرية والتنظيمية، والتي تمتد إلى الفضاء العام كلما انفسح المجال أمام التنظيم للاشتباك مع الواقع.

هذا الخلل حمل التنظيم على تكرار أخطائه، لأنه لا يتعلم منها لعدم وجود مشروعات نقدية فعلية ترتكز على مرويات صحيحة للأحداث، فلو روى الإخوان ما حدث في أزمتهم مع عبد الناصر بعيدا عن سردية الحرب ضد الإسلام، وهي سردية غير صحيحة، إذ لم يكن صراعهم مع عبد الناصر إلا صراعا سياسيا، لو فعلها الإخوان منذ زمن فلربما أمكنهم تجنب ما حدث في ٢٠١٣.

فالإخوان الذين وضعوا ثقتهم في عبد الناصر هم أنفسهم الذين وضعوا ذات الثقة في السيسي ليعصف الاثنان بالجماعة عصفا شديدا، الأمر الذي يحملنا على طرح ذات السؤال الذي طرحه المستشار طارق البشري -رحمه الله- منذ أكثر من خمسين عاما تقريبا عندما قال:

“كيف تكون اختيارات جماعة الإخوان السياسية وتحالفاتها هي السبب في العصف بها لاحقا؟”

إن المعضلة الحقيقية ليست في وجود رفض رسمي للجماعة، بقدر ما أننا أمام جماعة لم تكن تمتلك مشروعا سياسيا حقيقيا، وفجأة دهمتها ثورات الربيع العربي، ورغم وصولها إلى رئاسة أكبر دولة في المنطقة، وحيازتها الأغلبية النيابية، إلا أنها لم تسارع إلى بناء مشروع عبر شراكة حقيقية مع مكونات المجتمع المختلفة، ويبدو أنها اعتبرت ما حدث هدية السماء إليها وأن الجماعة “الربانية” التي ابتليت طويلا آن أن يُمكن لها في الأرض!! ثم استسلمت بكل غرابة إلى الانقلاب الذي كان يدبر وينضج على نار هادئة أمام أعين الجميع لشهور طويلة!!

الخيارات الباقية

ولكن هل ثمت خيارات باقية؟؟

لا يمكن وضع تجربة الإخوان في ذات الكفة مع محاولة الجماعة الإسلامية الاستيلاء على الحكم سنة 1981والتي فشلت عقب تصدي قوات الأمن لها ولم ينجح منها سوى اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، إذ لا يمكن اعتبار تلك التجربة نموذجا للتغيير فقد تكفلت الجماعة الإسلامية نفسها بنقدها وتبيان خطأ التغيير عبر الصدام المسلح.

أما الإخوان فقد وصلوا فعليا إلى السلطة ثم أخذت منهم نتيجة أخطاء كارثية ارتكبوها، ثم ضنوا على الرأي العام -الذي منحهم ثقته- في شرح حقيقة ما حدث، ولماذا حدث؟ ومن المسؤول عما حدث، بل عندما خرجت محاولات لتسجيل شهادات بعض من كانوا قريبين من مؤسسة الحكم آنذاك، قوبلت تلك المحاولات بالطعن والتشهير من قبل لجان الجماعة الإلكترونية!

لذا فمحاولة وضع تصور لخيارات المستقبل المتاحة، أراه هروبا من استحقاقات الواقع إلى محض تنظيرات منعدمة التأثير في الواقع الحالي.

ففشل الإخوان العريض قابله نجاح من الطرف المقابل في ترسيخ حكمه ودعم وجوده ما أدى إلى غياب الهوامش والمساحات المحدودة للحركة التي كانت متاحة من قبل.

كما فقد الإخوان قدرتهم على التأثير، وتراجعت بشدة مكانتهم الجماهيرية، وبالتالي فلا مكان للحديث عن تحولهم إلى جماعات ضغط

من هنا أري أن أفضل ما يقدمه الإخوان المسلمون – وخاصة في مصر- حاليا إزاء هذه المعضلة أمران:

الأول: نقد تجربتهم في العمل السياسي وما شابها من أخطاء قاتلة، نقدا أمينا وصريحا وإيداعه وثيقة للأجيال المقبلة لعلهم يتعلمون الدرس فلا يكررون ذات الأخطاء مرة أخرى.

الثاني: ترك الاشتغال بالسياسة والعودة إلى التربية والإصلاح، فقيمة الجماعة فيما تتقنه. وقد أثبتت حوادث السنوات الطويلة أن خوض الجماعة للسياسة أضر بها ضررا بالغا بل وأضر بالمجتمع نفسه الذي لا يزال يعاني من آثار انقلابي 1952 و2013 حيث كانت الجماعة عاملا مشتركا فيهما.

ولا جديد في ذلك الانصراف المطلوب عن السياسة، فمرشد الجماعة الأول الأستاذ البنا رحمه الله تمنى في أواخر حياته -وقد رأى مفاسد اشتغاله بالسياسة- أن يعود إلى التربية والدعوة مرة أخرى.

فلتحقق الجماعة الآن ما تمناه مؤسسها منذ عشرات السنين.

المصدر : الجزيرة مباشر