الإسلاميون.. “جند الله” في المعارك الخطأ

تحول “التنظيم” إلى عبء بدلا من أن يكون رافعة للحركة الإسلامية، فأجيال تفنى وتضيع من أجل بقاء “التنظيم”

مع سيطرة حركة طالبان على جميع الولايات الأفغانية وفي مقدمتها العاصمة كابل، تذكر الجميع الكتاب المهم للكاتب الكبير/ فهمي هويدي “طالبان.. جند الله في المعركة الخطأ” الذي أصدره عام ٢٠٠١ قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إثر زيارته لأفغانستان ضمن وفد ضم عددا من العلماء لإقناع طالبان بعدم هدم تمثال أثري لبوذا.

لكن الربيع العربي وتطوراته، مرورا بالثورات المضادة وحالة الانكشاف الهائلة التي عاشتها المجتمعات العربية بمكوناتها السلطوية والسياسية والفكرية، أثبتت أنه لم تكن طالبان وحدها في المعركة الخطأ حيث كتب هويدي كتابه، بل خاض الجميع تقريبا المعركة الخطأ على حساب المعركة المطلوبة.

وكانت الحركة الإسلامية في القلب من هذا كله، باعتبارها الأكبر عددا والأكثر تأثيراً، فرغم أنها حققت منجزاً تربوياً وإصلاحياً ملموساً، إلا أنها ظلت لعقود تخوض المعارك الخطأ، ما كلفها أجيال متعاقبة دون أن تحقق أهدافها في إحداث التغيير المطلوب، واكتفت بالعيش على الهامش.

تنوعت تلك المعارك الخطأ التي جندت من أجلها أجيال، وأزهقت في سبيلها أنفس، وأهدرت من أجل خوضها سنوات وسنوات. ما بين معارك كلامية وفكرية إلى أخرى تنظيماتية وليس بعيدا عنها المواجهات العسكرية.

“جند الله” في المعارك الكلامية والفكرية

السجالات الكلامية بين المكونات الفكرية لأي مجتمع معروفة وانعكاس طبيعي لمساحات الحرية التي يتمتع بها ذلك المجتمع.

والحركة الإسلامية استغرقتها معارك كلامية وفكرية، احتاجت كثيراً من الجهد والوقت الذي امتد ربما لعقود، بدا بعضها في سياق طبيعي، فيما تحتاج أخرى إلى تفسيرات إذ خرجت عن المعقول.

فبزعم الحفاظ على عقيدة الأمة، قرر البعض جرّ الحركة للصراع مع الأشعرية وقرعت طبول الحرب، حيث تفرغ دعاة، وصنفت مؤلفات، وعقدت ندوات ومؤتمرات، تحذيرا من العقيدة الأشعرية! فكانت معركة نخبوية أكثر منها تعبيراً عن هموم المواطن الحقيقية التي سنعرض لبعضها لاحقاً.

حتى المعركة مع “العلمانية” التي يمكن تفهمها في إطار المواجهة الفكرية بين مشروعين متناقضين، إلا أنه غلب عليها الشعبوية على حساب المنهجية العلمية فاختلط فيها الحابل بالنابل، وتوارت مبادئ أساسية حرص الإسلام على تأكيدها في حياة البشر، وأوكدها إلغاء الواسطة بين الخالق والمخلوق، وإعلاء قيمة العقل، وترك مساحات كبيرة للبشر يشرعون فيها بحسب احتياجاتهم المتغيرة بتغير الزمان والمكان فيما لا يحل حرما أو يحرم حلالا في تفاصيل مهمة ليس مجالها الآن.

وكلما أوغل “جند الله” في المعارك الوهمية ابتعدوا عن المعارك الحقيقية التي كان يجب عليهم أن يواجهوها.

فأين كان الإسلاميون من معركة الحريات؟!

فالحرية هي بمثابة الفريضة الغائبة في حياة المسلم المعاصر، ولقد كان من المأمول أن يؤسس الإسلاميون مشروعا فكريا وحركيا يعمل على تحقيق تلك “الفريضة الغائبة” في حياة الناس

لكن رأينا من سعى إلى مصادرة تلك الحريات داخل تنظيمات وظفت الدين، لتمرير لون جديد من الاستبداد، عبر التوظيف المكثف لمصطلحات (الجندية – السمع والطاعة – الثقة.. إلخ) لسلب حرية الأتباع، وتسويغ طرد المتمردين على تلك السلطوية!

معركة أخرى لا تقل أهمية عن معركة الحريات، أهملها الإسلاميون، وهي معركة العدالة الاجتماعية، إذ تتصدر المنطقة العربية -ولا تزال- الإحصائيات الأسوأ في جميع التقارير الدولية المتعلقة بالفقر والجوع والبطالة والأمية، أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر:

وصول معدل الفقر المدقع إلى حوالي 5% أي الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولار للفرد في اليوم وهو ما يسمى بخط الفقر الدولي وهذه النسبة ترتفع إذا ما استخدمنا خط الفقر المحلي، كما وصلت نسبة البطالة إلى 12% وهذه النسبة تعتمد الأرقام الرسمية فما بالنا إذا ضممنا إليها اليوم اللاجئين والنازحين!!

أما نسب الأمية فقد أظهرت إحصائيات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” لعام 2018، أنها وصلت لـ21%، وهو معدل مرتفع عن المتوسط العالمي، والذي يبلغ 13.6%.

وبحسب اليونسكو فهناك 123 مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً لا يستطيعون القراءة أو الكتابة. ومن بين هؤلاء الشباب الأميين، هناك 76 مليون امرأة و54 مليوناً منهم في 9 بلدان فقط من بينها مصر، أكبر دولة عربية!!

ورغم أن المسؤول الأول عن كل هذا هو الأنظمة العربية، إلا أن السؤال لماذا لم تقم الحركة الإسلامية بدورها الأخلاقي تجاه تلك المجتمعات وحملت هذه الهموم في مواجهة الأنظمة السلطوية؟ بدلا من الهروب منها إلى معارك الماضي معدومة الكلفة والتأثير!

البعض قد يحتج أن الإسلاميين دفعوا فاتورة باهظة خلال العقود الماضية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنهم ومع ذلك كان يخوضون معركتهم هم، لا معارك الشعوب.

فليمت “جند الله” وليعش التنظيم!!

تحولت التنظيمات الإسلامية من مجرد وعاء لتنسيق الجهود لتحقيق أهداف معينة، إلى صورة مصغرة من الأنظمة الشمولية السلطوية. فلا مكان لحرية الرأي الحقيقية، ولا مساحات معقولة للاختلاف، بل كتب على الجميع السمع والطاعة للدولة العميقة المتنفذة داخل تلك التنظيمات المؤلفة من تحالف رأس المال وأصحاب المصالح.

والمؤسف أن كل ذلك كان يتم باسم “الدين”! فالجماعة ربانية، وقادتها ربانيون، ومسؤولوها لا يحاسبون لأنهم مجتهدون ولهم أجر في كل خطأ، حتى وهو يؤدي إلى مقتل واعتقال آلاف الشباب وضياع أجيال بأكملها.

وبدلا من المحاسبة والمساءلة يتحول الفاشلون إلى أيقونات للصبر والصمود، ثم يواصل “التنظيم” مسيرته في جلب أجيال جديدة من “جند الله” الذين يتحولون إلى وقود جديد لمعركة أخرى فاشلة.

فالإخوان المسلمون الذين خرجوا منهزمين في معركتهم السياسية ضد عبد الناصر، وفقدوا على إثرها جيلا بأكمله، يمموا وجوههم في سبعينيات القرن الماضي، شطر شباب الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية وتمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة منها، في مقدمتها أسماء بارزة كعبد المنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، ومحيي الدين عيسى، وحلمي الجزار، وإبراهيم الزعفراني.. إلخ ممن كانوا يمثلون قاطرة لمشروع تغيير فعلي وجاد في مصر، لكن التنظيم احتواهم ووظفهم لصالح معاركه الداخلية والخارجية وانتهى الأمر بأكثرهم مفصولين من الجماعة! وقد تعرضوا لعمليات اغتيال معنوية غير أخلاقية!

وعندما تقرأ في مذكرات هؤلاء “المبعدين” تجد اتفاقا غير مقصود بينهم في التأكيد على أنهم ظلوا لسنوات داخل التنظيم على أمل إصلاحه من الداخل لكنهم فشلوا فآثروا الرحيل، عقب شعورهم أنهم غير مرحب بهم!

تحول “التنظيم” إلى عبء بدلا من أن يكون رافعة للحركة الإسلامية، فأجيال تفنى وتضيع من أجل بقاء “التنظيم” الذي حولته الدولة العميقة المتنفذة داخله، في وعي “جند الله” إلى بديل عن الأمة الإسلامية فصارت نهايته نهاية للأمة، وخذلانه خذلان للأمة، والخروج منه تساقط على طريق الدعوة!

ومن يتابع المعركة المشتعلة الآن بين جناحي جماعة الإخوان، يجد أنصاراً متحمسين لكل فريق، يظنون أنهم ينصرون الدين والشريعة بانحيازهم لهذا الجناح أو ذاك، وما يدرون أنهم مجرد وقود لصراعات مكررة تاريخيا داخل التنظيم.

وكما فنت أجيال سابقة في سبيل تلك الصراعات، سيفنى الجيل الحالي، بل والقادم من أجل بقاء الجماعة ولو على ركام هائل من الخسائر!

“جند الله” يعلنون الحرب على البشرية كلها

في عام 1998 فوجئ العالم ببيان منسوب إلى تنظيم القاعدة يعلن تأسيس ما عرف بـ”الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين” لينفتح الباب على مصراعيه لمواجهات بين التنظيم ودول العالم بأسرها تقريبا.

فقد توالت التفجيرات في كينيا وتنزانيا وقبالة ساحل مدينة عدن اليمنية، وصولا إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ثم استكمل التنظيم مواجهاته الدموية بتفجيرات عشوائية طالت المدنيين في لندن ومدريد والدار البيضاء والرياض وبالي.

فوجدنا أنفسنا إزاء حرب كونية حشدت لها الولايات المتحدة آلتها العسكرية الجبارة، ورفعت شعار “من ليس معي فهو ضدي” لجلب الحلفاء إلى صفها ولم يكن من المتوقع أن يتخلف أحد بطبيعة الحال. هذه الحرب كان وقودها جيل كامل تقريبا من الشباب كان مصيره القتل أو السجن أو المطاردة.

ولم يتعلم تنظيم القاعدة من الدرس القاسي في أفغانستان، فعاد ليكرر الأخطاء بصورة أشد فداحة في العراق.

ثم عاد ليتم توظيفه ربما عن غير اتفاق في ضرب ثورة الشعب السوري، لكن هذه المرة لم يكن وحيدا، فقد انضم إليه تنظيم أشد وحشية وتطرفا وهو تنظيم “داعش” الذي كان بمثابة الفخ الذي استقطب آلاف الشباب المسلم من حول العالم بحثا عن دولة الخلافة وحلم الأرض الموعودة!

وبعد أن أخلوا لهم مساحات واسعة من الأراضي امتدت من الأنبار والموصل في العراق وصولا إلى الرقة في سوريا، كانت طائرات التحالف الدولي على موعد معهم لتحصد أرواح آلاف الشباب حصدا وتقضي عليهم مخلفين وراءهم مأساة إنسانية ممثلة في زوجات وأطفال لا يزالون حتى الآن، لا يجدون مأوى سوى معسكرات الاعتقال بالعراق وسوريا!

لقد أحدثت هذه التنظيمات تشويها وتدميرا لسمعة الإسلاميين بما لم يفعله خصومها وخلفوا مرارات في نفوس أهالي المناطق التي استولوا عليها حتى تمنى هؤلاء لو عاد حكم بشار الأسد، مرة أخرى لينقذهم مما هم فيه من ضيق وبلاء!

وبعد،

فلم يعد أمام الحركة الإسلامية سوى طريقين: إما المراجعة الشاملة والأمينة لمسيرتها خلال العقود الماضية، وإما التحلل الذاتي والنهاية.

المصدر : الجزيرة مباشر