سياسة الرضا بالواقع

ومِن أسف أن بعض متصدري المشهد مِن الإسلاميين أصبحوا كهذه المسوخ البشرية يظل الواحد منهم يتكلم ويسهب في الكلام ولا أفهم ماذا يريد ولا كيف يريد  

 

في حوار تليفزيوني جمعني ببعض الساسة وبعض مدعي السياسة والذي أسهب واحد منهم عن غباء الواقفين عند نفس المربع الذي يزعمون أنه مربع المبادئ الذى يرفض الانقلابات كل الانقلابات ولا يفهمون الواقع حق الفهم ثم دلل على شرعية السيسي بأن مؤسسات الدولة اعترفت به وكذلك الدول كلها وعلينا أن نعطيه الفرصة ونفكر فيما بعد فترته الرئاسية الثانية، ثم اعتدل هذا الجهبذ في جلسته ومطّ رقبته ليلقي بحجته البالغة ودليله الدامغ في وجوه هؤلاء المدعين لنسبتهم إلى الإسلام، فقال –فُضّ فوه- إن النبيّ رضي بالواقع واعترف به، هنالك كان ينبغي التدخل الفوري لأنقذ المشاهد والمستمع من هذا الجهل المركّب

 فقلت له: أيُّ رضاً بالواقع!؟

ألم تعلم أن الإسلام أصلا جاء ثورة على هذا الواقع !؟ّ

ألم تعلم أن الإسلام جاء ثورة على كل أشكال الظلم والاستعباد والاستبداد؟!

ألم تعلم أن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تعني فك رقبة الناس من استعباد غيرهم لهم وليكونوا عبيدا لله وحده؟!

ألم تعلم أن هذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- قال له ربه “ودوا لو تُدهن فيدهنون” أي تتنازل شيئا ويتنازلون شيئا فتلتقون في المنتصف ويكون هذا الدين الجديد وفق مقتضيات الواقع –دين وسطي جميل يُرضي جميع الأطراف-؟!

ألم تعلم أن هذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- قد هاجر أو هُجّر من هذا الواقع لينشئ واقعا جديدا في مدينة جديدة تقوم على الحق والعدل؟!

ألم تعلم أنه لاقى من العنت والعذاب هو وأصحابه من أجل تغيير هذا الواقع البائس وتحرير الناس منه؟!

ويكأنّك لم تقرأ شيئا عن غزواته واستشهاد أصحابه من أجل تغيير هذا الواقع، أم أنك لم تطلع يوما على كتاب من كتب سيرته؟!

ألم تقرأ شيئا من القرآن الذي نزل على قلب هذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- وهو يقص عليه أحسن القصص عن الأنبياء والرسل الذين جاؤوا ليغيروا هذا الواقع؟!

لِمَ لم يرض موسى بفرعون وقد اعترفت به مؤسسات الدولة المصرية ودانت له بالولاء ورغم امتلاك فرعون كل أدوات القوة واعتراف العالم به وتعامله معه؟!

قوم لوط

ألم تقرأ يوما في القرآن الذي نزل على قلب هذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- وهو يحكي عن واقع قوم لوط وقد أصبح الشذوذ منصوصاً عليه في دستورهم الذي كُتبت كل مواده بمداد من النجاسة وقد حكموا على لوط ومن معه بالنفي مصرحين (إنهم أناس يتطهرون) فلِمَ لم يرض لوطُُ والأطهار بالواقع ويتعايشوا معه، ولم يكن مطلوبا منهم إلا أن يكفوا عن دعوة الناس إلى الطهر فقط مقابل ألا يتم نفيهم.

ثم ألم تقرأ حديثاً لهذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- وهو يقول (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُودّع منها)، أي فقدت أهلية الحياة، فلماذا يدعوها للتمرد على هذا الواقع الظالم؟

ألم تقرأ لهذا النبي –الذي تدعي رضاه بالواقع- قوله (سيد الشهداء حمزة رجل قام إلى سلطانِِ جائرِ فأمره ونهاه فقتله)

 لِمَ يدفعه لهذا المصير وبوسعه أن يحافظ على حياته تلك إذا رضي بالواقع.

إن كل الرسل والأنبياء ابتعثهم الله لتغيير الواقع الظالم المظلم ودعوة الناس لرفضه وعدم الرضا به

الخيانة:

أما بمنطقك هذا فكل الشعوب التي ثارت في وجوه الطغاة أخطأت وكان عليها أن ترضى بالواقع وكل الثورات ينبغي أن يتم الاعتذار عنها. فالثورة الفرنسية والبلشفية والإيرانية والتونسية والمصرية والسورية والليبية والسودانية وغيرها وغيرها كلها أخطأت.

وكذلك كان ينبغي على الناس أن يرضوا بنيكولاي شاوشيسكو ونيرويغا وشاه إيران ومعمر القذافي وعلى عبد الله صالح ولا يثوروا على بشار ولا مبارك ولا أي طاغية

هناك فرق بين الرضا بالواقع والخضوع له وبين التعامل مع الواقع لمحاولة تغييره والسعي لامتلاك أدوات التغيير، والواقع الظالم مهما طال لا يغير الحقائق

فدولة الكيان الصهيوني الآن واقع واعترفت بها الأمم المتحدة وتتعامل معها الدول فهل هذا يغير الحقيقة بأنها دولة محتلة وأن هناك شعب مظلوم وأرض مغتصبة ينبغي الجهاد بكل الوسائل لاستردادها أم يتم الرضى بالواقع بحجة اعتراف المنظمات والدول بها؟!

بعض مدعي السياسة يخون المبادئ التي يتشدق بها، والبعض الآخر من الساسة تراهم كالماء الفاتر لا هو بالساخن يستطب به ولا بالبارد يستمتع به، فلا يقولون قولاً فصلا يفهمه الناس ويسجله التاريخ بل يمسكون العصا من المنتصف، وإمساك العصا من المنتصف لا يتيح لها ضرب أحد ولا أن تهش على غنم بل لا تصلح والحال كذلك إلا للرقص بها.

ومِن أسف أن بعض متصدري المشهد مِن الإسلاميين أصبحوا كهذه المسوخ البشرية يظل الواحد منهم يتكلم ويسهب في الكلام ولا أفهم ماذا يريد ولا كيف يريد   

الطريق الصحيح:

إن الذكاء والفطنة والكياسة والتدرج في الخطوات والبحث عن المشتركات مع الآخرين وإعمال الأولويات واستخدام أفضل الوسائل وأقصر الطرق ودراسة هذا الواقع ومعرفة الممكن للتغيير حالاً  أو استقبالاً والاستفادة من أخطاء الماضي وتصويب المسارات وفق رؤية واضحة المعالم واستراتيجية بعيدة الأمد وتكتيك مرن يقبل المناورة، كل ذلك مع التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها بل العمل لأجلها هو الطريق الصحيح أما غير ذلك من دعوات الخضوع والخنوع والذل والهوان وتسويق ذلك على أنه السياسة واتهام الآخرين بالغباء إنما هو عين الغباء إن لم يكن عين الخيانة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه