(ابن آدم الجديد) في عالم ما بعد كورونا

إنسان ما قبل كورونا الأناني الراغب في امتلاك كل شيء ربما أدرك أنه في الحقيقة لا يملك شيئا وأن الفيروس قد ألزمه بيته ومكانه وعرفه حجمه الطبيعي ككائن حي وسط مليارات الكائنات الحية.

تحدثنا في المقال السابق عن السلوك الرسمي الغربي عموما، الأوربي منه والأمريكي في مواجهة وباء كورونا كوفيد-19، وهو سلوك اتسم بالجشع والأنانية والرغبة في الاستحواذ والنجاة ولو على حساب الشعوب الأخرى.

اليوم نحاول أن نفهم كيف سيكون شكل (ابن آدم) في عالم ما وراء كورونا أو ما بعدها.

لقد فرض علينا التزام البيوت سواء كنا أصحاء أو مرضى في مراحل المرض الأولى أو مشتبه بهم على طريقة القاء التهم في العالم الثالث، وبالتالي فابن آدم الذي حبس مع جميع أفراد أسرته طوال الأشهر الماضية وربما يستمر حبسه جزئيا لأشهر مقبلة، لا أحد يعلم ولا أحد لديه اليقين كيف سيكون شكله وسماته في (عالم ما بعد كورونا) وهو العالم الذي لا نعرف متى سيأتي لأننا ما زلنا في (عالم كورونا) وقد يطول معه المقام بعض الشيء. دعوني هنا ومن خلال المتابعة اليومية لأهم المظاهر الحياتية للإنسان في عالم كورونا أن استنتج شكل وطريقة حياة (ابن آدم ما بعد كورونا) وسأتحدث هنا عن مظاهر ربما تتطور للأحسن أو تتدهور للأسوأ أو ربما تزيد من حيث العدد والكيف.

 * ظاهرة ( البيتوتية)  أي المكوث مدة أطول مع أفراد الأسرة والحوار معهم ومشاركتهم أفكارهم وطعامهم ومشاعرهم ، والحقيقة أن الغرب قد تخلص بطريقة مقصودة أو غير مقصودة من فكرة الأسرة والعائلة واستحدث نظام الاستقلالية والصحبة خارج إطار الحياة الزوجية ما انعكس سلبا  على الأسرة التي بدأت في الذوبان والتلاشي  في الغرب على نحو مخالف لما فيه في عالمنا العربي .
* إن اعادة الاعتبار للأسرة أمر غاية في الأهمية لابن آدم ما بعد كورونا، ورب ضارة نافعة، فابن آدم قد أدرك، أو لعله أدرك، أنه لابد له من حاضنة اجتماعية يعود اليها عند الأزمات والمشكلات والكوارث، وهي حاضنة فطرية جبلت عليها النفس البشرية عبر مؤسسة الزواج والإنجاب والنفقة على أفراد الأسرة.

 * إعادة النظر في مسألة الحرية الفردية المطلقة وأن كل ابن آدم يعيش لنفسه ويفعل ما يريد، وأن الإنسان لا يحتاج الى حاضنة أسرية يلجأ اليها وتلجأ اليه ربما يساعد الغرب او المتغربين في عالمنا العربي على فهم أهمية تكوين الأسرة.
 * قد يخلق عالم ما بعد كورونا نموذجا آدميا أكثر اعتمادا على نفسه في إعداد طعامه وشرابه، وغسل ملابسه وكيها وتطوير مهاراته وأدواته وطريقة تفكيره في كيفية كسب عيشه بعد أن تعطلت الحياة بشكلها الراهن ولو جزئيا.
* لقد خلقت الليبرالية نمطا استهلاكيا وحولت بني آدم إلى آلة استهلاكية وشهوانية غير منضبطة وشكل الشارع بما فيه من إغراءات فرصة له لكي يفرغ هذه الشهوات بطرق مختلفة ليس فيها أي ضابط أخلاقي. اليوم لعل (بني آدم ما بعد كورونا) يدركون أن الشارع ليس هو كل شئء وأن ضبط الشهوة والرغبة أمر ممكن جدا، صحيح أن الإنسان لن يتغير بين عشية وضحاها، ولكن التفكير في التغيير أزعم أنه قد بدأ ولو على استحياء. فالحياة ليست مادة والرغبات والشهوات والاستهلاك ليس كل شيء.
 * لو تم استثمار فترات الحظر واستمرار الوضع على ما هو عليه، فمن المؤكد أن الوضع الاقتصادي المتضرر حتما من كورونا سوف ينعكس على الوظيفة وكسب العيش وما صاحب ذلك من تحول في انماط وأشكال الأعمال وطريقة أدائها ، وكما عبر رئيس وزراء سنغافورة في فيديو شهير له قبل أيام فإن قطاعات بأسرها سوف تختفي من اقتصاد العالم ووظائف وهياكل وظيفية سوف تختف وتتبدل على أفضل تقدير.
* ربما ينتبه بني آدم ما بعد كورونا إلى الآخرين من حولهم بعدما جربوا مرارة الحرمان والمنع بعد المنح، والانضباط بعد الفوضى، فإنسان ما قبل كورونا الأناني الراغب في امتلاك كل شيء ربما أدرك أنه في الحقيقة لا يملك شيئا وأن الفيروس قد ألزمه بيته ومكانه وعرفه حجمه الطبيعي ككائن حي وسط مليارات الكائنات الحية في عالمنا. هل سيتم تهذيب سلوك بني آدم؟ لا أعلم ولكنني أتوقع أن يكون ذلك ممكنا.
* لعل الكسل في التعامل مع المستجدات التقنية هو أبرز معالم إنسان ماقبل كورونا خصوصا في عالمنا العربي، وهذا الكسل ليس على مستوى الأفراد بل على مستوى الدول والحكومات التي لم تسعَ لاقتناء التقنية الحديثة وتدريب وتطوير شعبها وكوادرها على استخدامها لمحو أمية الشعوب التي تعيش في القرن الحادي والعشرين وهي لا تعلم عن العالم السيبراني شيئا. فما زال الناس يقفون في طوابير استلام المعاشات والرواتب أحيانا بينما العالم اليوم يستخدم التطبيق الرقمي عبر الإنترنت والموبايل وهذه الطريقة تجعل حياة الناس سهلة وبسيطة ولا تعرض حياتهم لخطر المرض والعدوى وغيره .
 * إنسان ما بعد كورونا رغم أنه كما أزعم سيكون بيتوتيا أي يميل للبقاء أطول في البيت إلأ أنه سيكون اتصاليا من الطراز الأول أي قادرا على التواصل والتفاعل مع أجزاء عدة حول العالم وعلى التعاطي مع الخدمات بشكل أفضل وأسرع هذا بالطبع لو سعت الحكومات خصوصا في عالمنا الثالث إلى ذلك.
*أزعم أن بقاء الرجل بين أفراد أسرته في عالمنا العربي ربما ساعده بصفته عائل الأسرة على فهم أكبر لطبيعة الحياة وطبيعة الدور الذي تقوم به الزوجة ومعاناتها مع الأبناء ومع متطلبات الحياة ، ولعل ذلك يساعدهعلى تحمل مسؤولياته وتهذيب سلوكه تجاه زوجته وأولاده خصوصا وأن الغالبية العظمى كانت تقضي معظم وقت النهار خارج مؤسسة الأسرة وبالتالي ليس لديها فكرة كافية عما يدور داخلها. واتصور أن ابن آدم ما بعد كورونا سيكون ابن آدم أكثر وعيا وأكثر رأفة ورحمة وتحملا للمسؤولية في ظل ما توفر لديه من معلومات ومعايشة حقيقية داخل جدران البيت . قد يقول قائل إنه ربما يسعى للهروب من جحيم البيت لأنه غير مؤهل لذلك، وهذا بصراحة أمر يعتمد على قدرة الزوجة على تطويع الزوج وإشعاره بأنه مرغوب في بيته.
* ما أخشاه في (بني آدم ) ما بعد كورونا هو التوحش. فقد جاء في الأخبار أن بعض السكان في مصر يتعاملون بشكل سيئ مع مرضى كورونا، ووصل الأمر ببعضهم أن رفض مساعدة أسرة في العزل الصحي في المنزل وضغط السكان على البقالات والسوبر ماركت كي لا تقوم بتوصيل طلبات هذه الأسرة لأنها تعتبرها مصدرا للعدوى وهذا سلوك غير آدمي أصلا وهناك من يغذيه خصوصا في المناطق الشعبية، ومن قبل هذا كلنا قرأنا وتابعنا قصة الطبيبة المصرية التي رفض أهالي قريتها دفنها في مدافن القرية حتى لا تصيبهم بالعدوى . وعلى فكرة هذا حدث في بعض المدن أو الضواحي الامريكية، إذ قامت الجرافات بدفن موتى كورونا بعد أن رفض ذوو الموتى استلام الجثث والإشراف على الدفن. هذا لا يدخل في السلوك الإنساني أصلا لأنه وفي جميع الشرائع هناك حث وحض على إكرام الميت ودفنه بطريقة تليق بجلال الموت .
* ربما تخلق مثل هذه الحالات التي تنم عن جهل حالة من الحقد المجتمعي والكراهية بين أبناء الشعب الواحد بل بين أبناء الحي والقرية الواحدة، وتكرار مثل هذه التصرفات يجعلني أتوقع أن بعض بني آدم ما بعد كورونا قد يحتاجون إلى عقود حتى يصبحوا آدميين حقيقيين.

* أشياء أخرى لا أعلمها وربما تكون أنت عزيزي القاريء تعلمها أو قمت برصدها فيما يدور حولك، وربما تشهد الأيام والشهور المقبلة تطورات نتمنى أن تكون إيجابية وليست سلبية .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه