مصر والسودان وبينهما أمور مشتبهات

 

ليست هي الأزمة الأولي التي تتعرض لها العلاقات الثنائية بين الشقيقتين مصر والسودان عبر تاريخهما الطويل والمشترك، وليس هو الخلاف الأول في وداي النيل شماله وجنوبه منذ انفصال السودان عن مصر بناء على استفتاء معيب بعد محاولات انجليزية وضغوط أمريكية على النظام المصري بعد انقلاب يوليو 1952 وإن كانت المرة الأولى التي تحدث بناء على تباين المواقف حول الموقف من مياه النيل!

التلاعب:

لقد تعرض مجري النيل من منبعه لمحاولات عديدة عبر التاريخ للتلاعب بحصص المياه الطبيعية لكل الدول التي يمر بها حتى المصب ، وعلى مر العصور جيشت الجيوش وتحركت الحملات للدفاع عن حق البلاد في عدم تغيير مساره ، أو إقامة الحواجز والسدود التي تتحكم بكمية المياه به ، وتعتبر أقدم السدود التي أقيمت علي النيل ” سد قوشيه الذي أنشئ عام 2900 قبل الميلاد بجنوب مصر لحفظ البلاد من الفيضان ، وليس لحجزها عن البلاد وحرمانها منها ، وحديثا كادت الحرب أن تشتعل في عام 1856 ، بين الدولة العثمانية وإثيوبيا وحدثت مناوشات بالفعل بين الجيشين المصري والإثيوبي ، لولا تدخل البابا كيرلس الرابع ونجاحه في التهدئة بالفعل في عهد الخديوي سعيد . وانتهت الأزمة مؤقتا لتعود إلى الظهور مرة أخري لتبدأ القلاقل في الظهور بعد المحاولة الشهيرة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في 1995 بأديس أبابا توقفت علي أثرها العلاقات المصرية الإثيوبية، وتوقف نقل الكهرباء المصرية إلي هناك ، وانتهي التنسيق حول النيل والحقوق المصرية التاريخية حتى زيارة الرئيس الراحل محمد مرسي لإثيوبيا في عام2012  ولقائه برئيس الوزراء الأثيوبي ، ثم تلويحه بالحرب بعد شروعها في وضع قواعد سد لو نقص النيل قطرة مياه واحدة  لقد تعقدت الأحداث الآن وبدءا منذ 2015 ، ففي نفس العام وقع قائد الانقلاب المصري عبد الفتاح السيسي علي اتفاقية يتنازل بمقتضاها عن جزء من حصة مصر في مقابل الاعتراف الأفريقي بنظامه ، ثم يقف ضاحكا  ليدفع رئيس وزراء إثيوبيا إلى القسم في مشهد عبثي أضحك العالم وتغني به إعلام الانقلاب ، ومنذ ذلك الحين وقد شرعت إثيوبيا في بناء السد لتتطور لغة الحديث للتهديد المعلن والسخرية والاستهانة بالنظام ، بل والتلويح بالحرب والدفاع عن النيل كاملا فالأرض لهم ، والنيل لهم ، ولا حق لأحد في الأخذ منه دون أدنى رد ، ويصعر النظام خده أكثر ليوقع بالأحرف الأولي منفردا في الولايات المتحدة التي تتبني الأطماع الصهيونية في القارة الأفريقية منذ عشرات السنين ، وقررت الحكومة الإثيوبية بدء ملء السد في يوليو المقبل مما يهدد الوادي بالتصحر وتختتم المباحثات بخلافات مصرية سودانية علي غير المعتاد .

 توزيع مياه النيل دوليا

علي مر تلك العصور كان المصير المصري السوداني واحد ، والحديث عنهما يسير في إطار الحديث عن القطر الواحد ويجمع بين مصر والسودان وصف ” وادي النيل ” في أي حديث موجه عن مشكلة النيل ، مهما كان نوع الحكم الذي يظلل البلدين ، واليوم تقع مصر والسودان تحت مظلة الحكم العسكري من جديد ليفتت الخلاف حول النيل الطرف الواحد لطرفين ، ويتخذ عسكر السودان موقفا مغايرا للموقف المصري للمرة الأولى في مسألة تخص قضايا نهر النيل ، وتنحاز لدولة المنبع حفاظا علي حقوقها ومصالحها منفردة في الوقت الذي لا تتعارض فيه مصالح البلدين من الأساس ، لقد قام الشريك المصري مع الشريك السوداني ـــ الرئيس المعزول عمر البشير ـــ بالتوقيع وإرسال رسائل طمأنة للشعبين أن الحقوق لن تمس ، وكل منهما حاكم عسكري لبلده، ثم يأتي طرف عسكري ثالث يحكم السودان اليوم ليعيد المساس بالواقع التاريخي بينما الشعبان هما الضحية الأولى لكل الاجراءات العسكرية على كافة الأصعدة تصمت مصر العسكر على كافة التصريحات المستفزة ، وينحاز السودان العسكر للطرف المعتدي ، بينما لا يوجد قانون دولي يحمي أيا من تلك الحقوق ، ولا يوجد طرف محلي أو عالمي يملك القدرة علي فرض هيمنة علي الجانب الإثيوبي لإنقاذ مصر والسودان من مصير مخيف ، وفي هذا الوقت  يبحث النظام عن وسيط ومفاوض يحافظ له على حقوقه التي وقع بالتنازل عنها مختارا ليجد نفسه متورطا في مواجهة شعبه ، في مواجهة قوانين لا تحمي حقوق أحد وما عليه سوى المواجهة بالقوة كي يحافظ علي تلك الحقوق المحورية والأساسية ، وفي الجانب القانوني تقول د. جاسمين موسى، مدرس في قسم القانون بالجامعة الأمريكية بالقاهرة : “تعتبر القوانين الدولية الخاصة بنهر النيل واسعة للغاية، وغير واضحة المعالم وقديمة. وبالتالي، تفتقر هذه القوانين إلى القدرة على إيجاد حلول للمشكلات التي تتعلق بمياه النهر ودول حوض النيل.”.

 لقد وقع الشعبان المصري والسوداني ضحايا إجراءات ومراهقات سياسية يمارسها غير المتخصصين في السياسة وإدارة شئون البلاد، ليواجها ما هو أخطر من الجفاف وفقدان الأرض الزراعية ومقومات الحضارة التي تضرب بجذورها في التاريخ، إنه مصير الملايين من البشر التي تحيا على ضفاف النيل في الوادي الضيق على الزراعة وما يتعلق بها.

متعددة الجنسيات:

 مشكلة أخرى تواجه الشعبين وهي آلاف الأفدنة ومئات المزارع التي تقام على ضفتي النيل الأزرق تقوم بشرائها وبنائها شركات عالمية متعددة الجنسيات بها جانب كبير من أموال الخليج، تستهلك الملايين من الكيلومترات من المياه غير الكميات المهدرة بالتبخير، وهنا تواجه الشعبين إشكاليتان، الأولي هي حصة المياه الثابتة والتي لم تكن تكفي من الأساس، ثم تم تقليصها لتصل إلى النصف بعد حساب نسبة المهدر، والإشكالية الثانية هي كمية المياه المسروقة بشكل غير قانوني وهي محتسبة من الحصة المقررة للدولتين.

إن تاريخ وادي النيل القديم والحديث لم يترك فرصة لدول المنبع أن تصنع مشكلة تصل لهذا الحجم من التعقد ، بل كانت المشكلات تواجه منذ بدايتها وتوأد في مهدها ، فلم تتعرض البلاد يوما للجفاف بسبب منع جريان النيل في مساره ، بل ربما تحدث نتيجة شح الأمطار من الأساس ، واليوم وصل التلاعب بمصير البلاد ووجودها حد السفه والتعاطي المتعمد الفشل ، بعدما تغيرت عقيدة الجيش وصار همه الأول الحكم ولو على خراب البلدين بما عليهما من بشر ، لقد ظلت علاقة مصر بالسودان علاقة وجود وتكامل واستمرار أو عدم ، ولم تتوقف عند كونها علاقة جوار حتى أتى العسكر هنا والعسكر هناك لتضيع معالم المشهد ، ويختفي الغد في انتظار من يعيد الى مجراه.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه