الشيخ الكيني الذي أسلم على يديه آلاف الوثنيين

يتذكر الشيخ كريسا تلك الأيام بقوله: “كان أكثر ما يؤلمني أن يتم إجباري أثناء تعذيبي على أكل المحرمات من الطعام مثل كبد الكلب وغيره، ‏إمعانا في قهري للخروج من الإسلام وسط ضحكات قومي‎

 

في أحد أيام كينيا الحارة عام 1966 كان الداعية الأوغندي عبد الله حسين في جولة دعوية داخل أراضي قبائل “الجرياما” الوثنية بجنوب ‏كينيا، مصطحبًا بعض الهدايا لأطفال القرى التي يمر عليها، من بينها إزار وقميص أهداهما إلى طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره كان ‏يحترف صيد الفئران، ارتدى الفتى الزي من فوره، لكن يبدو أن الروح هي التي اكتسته وليس الجسد فقط، وأضحى الطفل وهو أشهر ‏صائدي القلوب في كينيا.‏

إنه الداعية الشيخ علي كريسا مدير المركز الإسلامي في جنوب ساحل كينيا، الذي يشرف على دعوة غير المسلمين ولاسيما من الوثنيين للإسلام، ‏وقد أسلم على يديه 32 ألفا من الوثنيين في غابات وأحراش أفريقيا.‏

علمت بقصة هذا الرجل منذ أكثر من عقد وتذكرته كثيرا ولم يغب عن بالي، خصوصا كلما تردى أمامي في حومة السلطة أو الشهرة رمز ‏دعوي أو ديني، حيث كان يتراءى لي طيف بعض الطوافين في أرض الله من المجهولين، مثل الشيخ عبد الله الأوغندي الذي أهدى فتانا زي ‏المسلمين، وقر في يقيني أن على هامش ذلك المتن الديني الصاخب الذي نعيشه، يوجد أمثال الشيخ عبد الله والشيخ كريسا. ‏

سر ثوب الشيخ عبد الله

يعتبر الشيخ كريسا أحد القلائل ممن يمتلكون الخبرة والمنهج اللازمين للحركة وسط الوثنيين، وأحد الأدلاء الذين يوجهون مسار وطريق الدعاة ‏من غير الأفارقة، الراغبين في التحرك برسالة الإسلام داخل تلك الغابات والأحراش الخطرة بكينيا.‎

روى لي الشيخ كريسا ملامح رحلته من أحراش الوثنية، فقد كان يعمل في صيد الفئران وعمره ثماني سنوات، وكانت والدته تحبه لإتقانه ‏تلك المهنة، حيث يعود كل يوم محملاً بالفئران التي تطبخ أمه نصفها وتبيع نصفها الآخر، أما والده فبدأ يلحظ حرصه عليه ارتداء الإزار ‏والقميص اللذين أهداهما إليه الداعية الأوغندي. ‏

ويحس الوالد الوثني أن المسألة أكبر من إزار وقميص، وأن ابنه يتحول عن آلهة القبيلة إلى الإسلام، الأمر الذي رفضه بشدة، إلا أن الفتى ‏كان أكثر تصميما.‎

وعن تلك الأيام يقول الداعية الكيني: “لم تكن علاقتي بالإسلام تتعدى ذلك اللباس الذي أعجبني، ورأيت أنني يجب أن أرتديه طوال حياتي، ‏ولا أعلم سببا لذلك الأمر، وأحار في تفسيره، والحقيقة أن ثوب الشيخ عبد الله كان بداية طريقي للإيمان”.‎

راقبه والده كثيرا وتأكد من تردده على المسجد، فانتظره ذات مرة حتى خرج، وأمسك به وراح يضربه ضربا مبرحا وسط صياح المسلمين: ‏‏“يا كريسا لا تقتل الولد”، فقرر أن يربطه بالسلاسل تحت شجرة، وأذاقه عذاباً طويلاً ما زالت آثاره على جسمه حتى اليوم.

يتذكر الشيخ كريسا تلك الأيام بقوله: “كان أكثر ما يؤلمني أن يتم إجباري أثناء تعذيبي على أكل المحرمات من الطعام مثل كبد الكلب وغيره، ‏إمعانا في قهري للخروج من الإسلام وسط ضحكات قومي”.‎

فقد كان الأب يخشى أن يخرج ابنه من طوعه، ولاسيما أنه كان من التقليد في تلك الأيام أن من يُسْلم من أهل تلك البلاد كان يتسمى باسم ‏الداعية الذي أسلم على يديه، ويغير اسمه كلية.‎

الفرار من المحنة

فر الشيخ كريسا من قريته إلى قرية أخرى، وأكمل تعليمه، ودرس حتى الثانوية العامة في المدارس الإسلامية، ثم سافر إلى أوغندا لممارسة ‏الدعوة.‎ ‏ وهناك التقى بشيخ يدعى آدم نصحه بالسفر إلى السودان لتحصيل العلوم الشرعية، وبالفعل التحق بأحد المعاهد السودانية ‏وحصل على دبلومة في التربية، ثم عاد إلى كينيا ليلتحق بإحدى الجامعات الإسلامية في مدينة مومبسا متخصصاً في دراسة الشريعة ‏الإسلامية.‎

وعن أول لقاء له بالدعاة العرب؛ يقول الشيخ كريسا: “في أحد الأيام جاءني من يخبرني بأن هناك داعية عربيا جاء للدعوة هنا، فاندهشت؛ ‏لأن العرب لا يأتون إلينا إلا لشراء الجمال”، وكان هذا الداعية هو الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله رئيس جمعية العون المباشر ‏التي تعمل على مساعدة مسلمي كينيا.‎

‏ قال الداعية كريسا: طرح الشيخ السميط سؤالا كان جديدا على مسامعي: من يتحمل مسؤولية موت هؤلاء الأفارقة وهم على الوثنية؟! ‏كان هذا السؤال مفصليا في حياة الشيخ كريسا، على حد قوله؛ حيث قرر أن يكون له دور في هداية القبائل الوثنية التي يعتبرها أكثر ‏استعداداً لتقبل الدعوة.‎

ويضيف: “القبائل لدينا متعددة الديانات، وما زالت الفطرة تسيطر على الكثير من الوثنيين، ولاسيما أن عقائدهم تدور حول عبادة ‏الأجداد وبعض الأشجار، ومن اليسير جدا أن يقبلوا فكرة أن الله واحد، فهم أكثر استعدادا للدخول في الإسلام، ولعل هذا يفسر ضخامة ‏العدد الذي يقبل على الدعوة”.‎

قولوا حسنا وافعلوا الخير

يؤكد الشيخ كريسا أنه وإخوانه من الدعاة الذين يجوبون الغابات، يتحركون بإمكانات محدودة، وأنهم ضد فكرة الإغواء بالمال أو ‏استغلال حاجة الفقراء لإقناعهم باعتناق الإسلام، ومع ذلك لا يتوانون عن الخدمة العامة ومساعدة الأيتام والأرامل، شعارهم في ذلك ‏‏“قولوا حسنا وافعلوا الخير”، على حد تعبيره‏.‎

ويتسم الشيخ كريسا بالحذر الشديد والقدرة على توقع السوء أثناء تحركه في الغابات الخطرة، ويستطيع التعامل مع الظروف الحرجة، ‏كما أن لديه مهارة تسلق الأشجار العالية، والجلوس فوقها لفترات طويلة، وهو ما ساعده في إنشاء مؤسسات دعوية وخيرية داخل القرى ‏النائية التي تعيش وسط الضواري.‎

ويوضح: “كثيرًا ما هاجمتنا أسود وثعابين واقتحمت المراكز الإسلامية، لكننا نستعين بالله على مواجهة الوحوش المفترسة، ونعتقد أن الله ‏يحفظ الدعاة ، ولدينا وسائلنا التي نحتمي بها”.‎

“‎وليست كل الخطورة سببها الضواري المفترسة” -بحسب ما يقوله الشيخ- الذي يضيف: “بل نعاني من مقاومة شديدة من بعض القبائل ‏الوثنية التي تراقب حركتنا في الأحراش ثم تهاجمنا، لكن بفضل الله صار للدعاة منعة وأبناء داخل القبائل والغابات يبسطون حمايتهم ‏عليهم، وأخذت هذه الظاهرة في التلاشي”.‎

صائد الفئران الذي تحول إلى صائد للقلوب متفائل بمستقبل أفريقيا الإسلامي، ويتوقع أن يشكل التوحيد ديانة الأغلبية في كينيا قريبًا، ‏إذ يؤكد أن الإسلام في رأيه يمتلك الكثير من المقومات القريبة من الفطرة الأفريقية، شريطة توافر الدعاة المدربين.‎

إسلام والده

وبعد سنوات عديدة من إسلامه؛ جاء والد الشيخ كريسا ليزوره في المركز الإسلامي الذي يرأسه في قرية ‏“‎دراسا”، فطلب من تلاميذه أن ‏يصنعوا له طعاما وأكرمه وسأله: “هل تتذكر يا أبي الطفل الصغير الذي ضربته وعذبته؟ هل كنت تعتقد آنذاك أنك تعذب مسلما فقط؟ ‏لقد كنت تعذب ابنك”، فقال له والده: “لقد تبادلنا الأدوار.. صرت أنت الوالد وأنا الابن، ولك الطاعة.. إذا أردت أن أسلم الآن فسأفعل”؛ ‏فكبر الشيخ كريسا وهلل تلاميذه.‎

رجع بعدها الشيخ مع والده إلى القرية التي عذبته وفر منها فأسلمت أمه وكل أفراد القبيلة، ومات أبواه بعد ثمانية أشهر من إسلامهما، ‏الذي يعتقد الشيخ أنه كان من تمام فضل الله عليه.‎ ‏ ولا يزال الشيخ علي كريسا يتذكر الداعية الأوغندي الذي كان سببا في هدايته، ولا ‏ينقطع تفاؤله بالإزار والقميص اللذين يحرص مسلمو تلك المناطق على ارتدائها.‎

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه