استحضار الحسين نكوس حضاري واستنبات للشقاق

 

 

 إنّ تهافت النخبة الإسلامية المثقفة والرأي العام في عاشوراء _على غير العادة_ نحو محاولة التفعيل الاجتماعي لذكرى مقتل الحسين في أزقة البيئة الإسلامية السنّية حصراً أمر خطيرٌ وفي غاية الغرابة ويستدعي الوقوف برهة! فهذا السلوك الشعبوي والنخبوي المفاجئ والناشئ في رحم الإسلام السّني، لا شك أنّه ليس مصادفة ولا بذات الوقت مؤامرة ذاتية!. بل يدل على بداية تحوّلات اجتماعية وفكرية تعتري البيئة الإسلامية السنّية المضطربة والقابلة آنيّاً للتغيّر لدرجة الانقلاب على الذات!، جرّاء حالة عدم الاستقرار والرهاب والاكتئاب الاجتماعي والسياسي والديني الذي تكابده بسبب غزو الثالوث السياسي والديني والطائفي الساعي لاستهداف الحاضنة الاجتماعية والفكرية للدين الإسلامي. لكن بذات الوقت لا يعني ذلك خلو الساحة من إرادة سياسية تسعى بالتوازي مع الواقع المساق أعلاه لتعزيز استحضار كوارث التاريخ _كحادثة مقتل الحسين أنموذجاً_ بغية استنبات الخلاف والتشتت والانقسام واستثمار مناخ الاضطراب والاستعداد الاجتماعي داخل بيئة الإسلام السنّي، وبذلك تساعد السياسة والآلة الإعلامية المسيطرة بدفع العجلة الاجتماعية بالاتجاه المطلوب والمتقاطع مع مصالحها الذاتية.

     لكن يبقى السؤال ما هو دافع الرأي العام وأغلب نخبه الفكرية في ممارسة اللطم الإعلامي والصحفي والفكري والثقافي على الحسين في ذكرى عاشوراء وكأنه قتل اليوم!، فقد اعتدنا سابقاً مشاهدة اللطميات الدموية لهذه الذكرى في إطار المحميّات الدينية الخاصة داخل الحسينيات والساحات العامة، هناك حيث يستلّ عوام ودراويش الشيعة سيوفهم وجنازيرهم بغية جلد أنفسهم أمام الملأ ندباً وندماً وسعياً إلى تكفير ذنبهم جرّاء غدرهم بسيد شهداء الجنة الحسين رضي الله عنه وأرضاه. لكن الغريب اليوم هو أننا نشاهد ذات المشهد ولكن في بيئة وأسلوب مغاير وأعذار مختلفة وشرائح اجتماعية وفئات دينية جديدة!.

الفئة الجديدة

 والأكثر غرابة هو أن الفئة الجديدة هي الإسلام “السّني” الذي يشكل الحالة المناقضة للواقع الشيعي،  وأما الأشخاص الجدد هم المثقفون وعوام ودراويش البيئة المنهزمة الواقعة في قبضىة القوى المسلحة الشيعية أو الأنظمة المدعومة من قبلها، إلّا أنّ لطم المثقف الإسلامي السني كان أكثر أناقة وجاذبية، فلم يكن في ساحات العوام مستخدماً سيفه وجنزيره!، بل كان في ساحات الصحف والمجلات والتلفزيونات والمنابر ومراكز الدين الرسمية، ما دفعه لرميّ جنزيره الحديدي واستلال قلمه وكاميرته وفكرته ولطم نفسه بهم ندباً على حادثة تاريخية لا يفيد استحداثها إلا استنبات الخلاف التاريخي وبعث الفتنة في صفوف الإسلام!، فإشعال فتنة الحسين مجدداً داخل البيئة الإسلامية هو لا شكّ قتل للحسين بل لما مات عليه ومن أجله الحسين لكن في عام 2019!. ومناصرة الحسين أو يزيد اليوم هي مناصرة افتراضية فيسبوكية وإعلامية منفصمة عن الواقع الحقيقي الخالي منذ آلاف السنين، فالأمر المهم الذي ما وعاه الكثير حتى اللحظة، هو أنّ بوصلتنا الفكرية والعاطفية يجب أن تكون باتجاه ما مات الحسين عليه ومن أجله وليس عين الحسين!

   وهنا لا يعني أني اعتبر قتل الحسين ليس بجريمة، ولا أن إدانة قتله يدلّ على الخيانة الفكرية والاجتماعية والجمود في الفكر الإسلامي، بل على العكس، فلو كان حيا لفديته ولكن ماذا بعد أن قُتل!، وماذا ينفع الندب إلا أنّه يكرس الشقاق دفاعاً عن ميت، وعن قضية أكل الدهر عليها وشرب دماً وحضارة!، لذا فإنّ الدفاع عن الحسين اليوم يكون بالدفاع على الطفل العربي والشباب المعتقل والنساء الثكالى والمهجرين من بيوتهم بغير حق.

الخاسر

     وسواء انتصر فريق الحسين أو يزيد في استدعاء البراهين من صفحات التاريخ، إلّا أنّ الخاسر هو الإسلام بكل الأحوال ولا معنى لأي برهانٍ أو حجة في الإطار البنائي للأمّة! وهذا بالطبع لا يناقض إمكانية البحث في هذه الحقبة التاريخية وتحليلها ولكن ليس في يوم ذكرى عاشوراء، لأنّ الأمر ينتقل بذلك من باب البحث العلمي والفكري إلى حيز التجييش العاطفي والاستنزاف الديني، فالرسالة لا تُقرأ برموزها بل بالرموز الموجودة في عقل المتلقي، وعليه فإنّ الخطورة تكمن في البعث العاطفي لحادثة الحسين أثناء تناول حادثته يوم عاشوراء بالتحديد، فبذلك نكون بصدد استنساخ التجربة التاريخية الكارثية لحادثة الحسين والتي ربما تأخذ الواقع لحالة من الإنقسام الإسلامي مجدداً داخل البيئة الاجتماعية “السنية” المضطربة والقابلة للتغير لدرجة الانقلاب على الذات كما أشرنا سابقاً، فالواقع الحديث مهيأ ومشابه للواقع القديم بكل تفاصيله فيما يتعلق بحادثة مقتل الحسين من حيث المتغيرات المحيطة والبيئة الإسلامية والاجتماعية المضطربة، والمعلوم حكماً أن ذات المقدمات تعطي ذات النتائج، والحاصل هو التشيع الفكري الذي من المؤهل أن يتحول لتشيع سلوكي مستقبلاً إذا توفرت له عوامل التمكين!.

    والمثير للدهشة أنّ بعث واستحضار الحوادث الخلافية بين الإسلام والشيعة لا تكون إلا في البيئة الإسلامية السنية!، في حين أنّ البيئة الشيعية مستقرة ولا يمكن أن تسمح في إعادة النظر بمثل هذه الخلافات البتة، لأنّ النتائج ستكون كارثية على وجودها واستمرارها بالتأكيد، لا سيما وأنّ البيئة الشيعية تتغذى في تمكينها على استنبات الخلاف وتغذية هذه الكوارث التاريخية القادرة على تجييش دراويشها عاطفياً!، وبذلك إنّ إعادة طرح حادثة الحسين في البيئة الإسلامية “السنية” دون الشيعية ليس عبثياً!، فالمستهدف هي البيئة الإسلامية أمّا الشيعة هي ضحية سابقة ونتاج استهداف البيئة الإسلامية السابقة، والمراد اليوم هو إعادة استنساخ الحادثة في ذات الشريحة ولكن ضمن متغيرات وبيئة جديدة!.

     وبذات الوقت تعزا دوافع طرح مثل هذه الحوادث داخل البيئة الإسلامية السنية فقط، إلى حالة الإنهزام الذاتي لدى العامة وبعض المثقفين المسلمين، خاصة بعد سيطرة التيار الشيعي المسلح على مفاصل العالم الإسلامي العربي، ما دفع الضحية العربية إلى الركون لجلادها والتماهي مع أفكار القوي. فيما تماهى البعض مع الطرف المقابل منطلقاً من فلسفة التطرف بالدروشة لحد الذوبان في ذات الغير، وعليه يسعى المثقف الإسلامي انطلاقاً من عقدة احترام الآخر وقبوله إلى الاستغراق في التبيان أنّه حيادي وليس بطائفي، ناسياً أن الحيادية لا تعني محاربة ذاتك وإعادة النظر بكل أمر وثابت بالتوازي مع التجاهل التام لاضطراب بيئته المنهزمة، ما يعني أنّ الأمر لن يكون في صالح قضيته بكل الأحوال، فالمسألة أكبر من كونها مناظرة فكرية وحوارية في ظلّ الحالة التخبطية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي والتي لا يعيشها الطرف النقيض بالمطلق!

الكف عن استخضار الكوارث

    وعليه أمسى لزاماً على المثقف العربي والإسلامي أن يكفّ عن استحضار كوارث التاريخ والعيش في جبتّها والدوران حولها كدرويش، فلا بدّ أن يصوّب بوصلته الفكرية نحو هدفه الحضاري محاذراً النكوس وتحويل المتغير لثابت والثابت لمتغير والمناضل والحادثة لدين والدين لتماتم وحالة درسية وإعلامية لا أكثر، حينها يتحول المسلم لقنبلة عاطفية قابلة للانفجار والاستثمار في برامج الغير، بدل أن يتحول لقنبلة عقلانية قادرة على البناء والتمكين وإدارة الواقع الجديد. لذا قد آن الأوان للبدء بعقلنة الواقع الحضاري وتحطيم قضبان الذكرى والعيش في جلابيب العاطفة الحضارية!

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه