في الجزائر.. السلطة تفجر نزاعا حول الهوية لتصفية الثورة

 

 

خطاب قائد الأركان الأخير من الناحية العسكرية الثالثة ببشار أوقد نارا للفتنة لن يكون إطفاؤها من السهولة بمكان ما لم تلغ أسبابها، وتصحح السلطة هفوتها القاتلة. حديث قايد صالح عما أسماه” محاولة اختراق المسيرات، ورفع رايات غير الراية الوطنية من قبل أقلية قليلة جدا…” في إشارة واضحة للراية الثقافية الأمازيغية، وتأكيده “إصداره أوامر صارمة وتعليمات لقوات الأمن من أجل التطبيق الصارم للقوانين…” أجج نزعة التحدي لدى الكثير من شباب الحراك لرفع الرايات الأمازيغية في الجمعة الثامنة العاشرة الموالية للخطاب.

خطوة قائد الأركان في الاتجاه الخطأ صاحبتها وأتبعتها حملة تأييد وتبرير واسعتين من لدن أتباعه وأنصاره وما يسميه الناشطون الذباب الإلكتروني.. وفجرت معركة تنابز وشتائم وسباب حامية الوطيس على شبكات التواصل الاجتماعي بين معسكر قائد الأركان ورافضي قرار منع الرايات الأمازيغية، لتنتقل معركة التنابز بين الطرفين من العالم الافتراضي إلى الميدان.

سلطة هوجاء تمتحن حكمة الثورة الشعبية

في الجمعة الثامنة عشرة حادت مسيرات الحراك الشعبي عن موضوعها الأساسي المطالب بتنحية رموز الفساد وتغيير النظام، وانبرى الكثير من المتظاهرين إلى الرد على استفزازات قائد الأركان وتحديه برفع رايات رمز التيفيناغ الزرقاء والصفراء والخضراء.. وانضم للمتَحَدِّين الكثر من الذين كانوا يكتفون بحمل الراية الوطنية.

عناصر الشرطة التابعة للداخلية، استجابت لأوامر قيادة الأركان، وشرعت في مصادرة الرايات الأمازيغية. ولأنه لم يكن بمقدورها التصدي لآلاف المخالفين لأوامر القيادة العسكرية فقد عمدت إلى تجريد طلائع المحتجين من الرايات المعنية واعتقال العشرات منهم، وتحويل عدد منهم إلى قاضي التحقيق ليس بحجة حمل راية غير الراية الوطنية، إنما بتهمة التجمهر دون ترخيص وإهانة هيئة نظامية، وأودعوا الحبس الاحتياطي. ذلك لأن القانون لا يجرم حمل راية ترمز لثقافة فئة واسعة من الجزائريين ومعترف بها دستوريا..

ولم يقتصر تحدي الشباب ردا على تعليمات القيادة العسكرية، على حمل الرايات، بل تعداه إلى هتافات انتقامية تخوينية مُهينة ومسيئة لشخص قائد الأركان وتاريخه، واتهامه بأنه جزء من العصابة وحاميها إلى حد المطالبة بسجنه.. لكن وبالمقابل لم تخل مسيرات الجمعة الثامنة عشرة من أصوات الحكمة والدعوة إلى إخماد نار الفتنة، ونبذ الفرقة والتناحر العرقي، والتأكيد على روابط الأخوة وكل ما يجمع الجزائريين ولا يفرقهم، من وشائج الهوية والدين واختلاف التنوع الذي يثري الشخصية الثقافية الوطنية.

إذكاء نار الفتنة إعلان بالإفلاس

موجة حبس الناشطين أعقبتها هزات ارتدادية في عديد المدن والبلدات التي ينحدر منها الموقوفون وذووهم.. مسيرات غاضبة نُظمت في هذه المناطق تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، مستنكرة حملة القمع الممنهج التي تمارسها السلطة على الناشطين والمحتجين.. المتظاهرون رشقوا السلطة وقائد الأركان بعبارات الإدانة والانتقاد وانهالوا عليهما بوابل من التخوين والإهانات.

أزمة الراية التي فجرها قائد الأركان نكأت جرحا كان الجزائريون يعتقدون أن الحراك الشعبي بسماته السلمية الحضارية أبرأه ومحى آثاره، ما دفع عديد المحللين إلى اتهام السلطة بتعمد إثارة هذا الموضوع الحساس لشق صفوف الحراك واستدراجه للعنف ساحة السلطة المفضلة، ومن ثم تبرير البطش به أمنيا، بعد فشل كل محاولاتها السابقة لإنهاء حركة الثاني والعشرين من فبراير شباط الاحتجاجية.

السلطة الفعلية بذلت كل ما في وسعها لوقف الحراك بالتخوين في البداية بوصف المحتجين بالمغرر بهم، ثم بالتهديد والوعيد، والتضييق على المتظاهرين لتحجيم الحراك، ثم محاولة جره إلى المواجهة مع قوات الأمن بإثارة عمليات تخريب الممتلكات ورشق عناصر الأمن، سرعان ما اتضح أنها كانت مدبرة، ثم التشكيك في الحراك والادعاء بأنه مخترق من طرق مجموعات من الأجانب مجهزة بمعدات تجسس متطورة، وعناصر مسلحة..

أزمة الهوية المأساة الملهاة

عجز السلطة في محاولاتها تلك جعلها تنتقل إلى خطة أكثر خطورة بإجماع المحللين، تسعى عن طريقها إلى اختلاق نزاع وتفجير قنبلة أزمة هوية لا يُعرف أين ستصل شظاياها، وتحريض بعض الجزائريين ضد بعضهم بعضا. واستثمار هذا النزاع لشغل الناس بأزمة مفتعلة وتحويل اهتمامهم ونقاشاتهم عن الموضوع الأساسي الذي ثار من أجله الجزائريون.. وهكذا تخلو الساحة من الأصوات المطالبة بتغيير النظام ليتسنى للسلطة الفعلية استكمال مسار تجديد النظام بأدنى الخسائر.

حمل الراية الأمازيغية لم يكن ظاهرة دخيلة أو جديدة في مختلف التظاهرات في الجزائر سواء الاحتجاجية منها أو الثقافية أو الرياضية.. كما أنه رافق مسيرات الحراك الشعبي منذ انطلاقته ولم يكن يمثل انزعاجا لغالبية الجزائريين، باستثناء قلة قليلة من غلاة التطرف الآخر الرافض الاعتراف بالمكون الثقافي الأمازيغي للشعب الجزائري.

بين التغيير والإنقاذ.. النظام في قلب الصراع

تعمد السلطة إقحام المكون الثقافي الهوياتي في الأزمة السياسية وتوظيفه قي صراعها مع الثورة الشعبية لكسر شوكتها وتغيير طبيعة هذا الصراع وأطرافه، مغامرة غير محسوبة العواقب وتهور كبير، ينم عن استهتار كبير بالاستقرار الاجتماعي، ولحمة الوحدة الشعبية، والتعايش الثقافي. ويؤكد أن لا شيء تغير في جوهر النظام وممارساته وإن أكل بعض أبنائه..

ضعف مؤسسات الدولة، وهشاشة النسيج الاجتماعي، وتنافر الفئات الاجتماعية، وتناحر المكونات الثقافية لم يكن في أي يوم من الأيام في جوهر اهتمامات النظام وصلب انشغالات السلطة.. همهما الوحيد ومنذ السنوات الأولى للاستقلال أن تبقى المؤسسة العسكرية المؤسسة القوية الوحيدة في البلاد، والمنسجمة، هي النظام وهي الدولة والمالكة لزمام الأمور المتمكنة من كل أسباب الاستقرار ومقدرات الاستمرار، وكل ما دونها يهون. هذه هي المعادلة العرجاء التي تسعى الثورة الشعبية لتغييرها وتصحيح الوضع، ويأبى حراس المعبد نجاح هذا المسعى، ولإفشاله تجدهم مستعدون للتضحية بكل شيء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه