ثكنة عسكرية اسمها الجامعة!

 

ليس الانتحار أمرا عاديا يقدم عليه طلاب الجامعات كل يوم، لكن “الأفكار الانتحارية” قد تكون جزءا يوميا من حياة كثير من الطلبة في عالمنا العربي. ولن نستطيع تأكيد ذلك بالطبع، فلكل طالب تجربته الخاصة، لكن ما نستطيع تأكيده، هو أن جامعاتنا في العالم العربي، بيئة خصبة لنشوء مثل هذه الأفكار وترعرها.

دكتاتوريات صغيرة:

إن قاعات الجامعات ومختبراتها هي أشبه بالثكنات العسكرية للأسف، وإن أساتذتها ومدرسيها هم أشبه بضباط الجيش والمخابرات، الذين لا يتورعون على التصفية النفسية للطلاب بوابل من الشتائم والإهانات، دون أن يراعوا أن لكل طالب ظرفه الخاص، سواء تأخر عن الحصة، أو تأخر في تقديم الواجب، أو رسب في الامتحان. فجامعتنا ليست إلا دكتاتوريات صغيرة في قلب دكتاتورياتنا الكبيرة.

وإن شغف الطالب بفرعه الدراسي قد يهون عليه كل هذه الممارسات التي لا بد منها، أما إذا فُقد هذا الشغف، فتصبح التجربة الجامعية جحيما لا يطاق. وثمة الكثير من الأسباب، التي تجعل المرء يجد نفسه ذات يوم، في فرع دراسي لا يطيقه، فاختيار الفرع الدراسي غالبا، ليس إلا جزءا من لعبة القمار الكبيرة، التي تلعبها بنا الحياة السوداء في دولنا العربية. ولذا فلا عجب إذن أن نرى كل الأمراض النفسية، تتسرب إلى أرواح طلبتنا، وهم يصارعون مواد دراسية يكرهونها، في جو جامعي مسموم، لا يخلو من ضيق مالي، وتشتت عاطفي، وكبت جنسي، وانسداد في آفاق الأمل.

وقفة مع النفس:

ولأننا مصلوبون إلى عدد من مفاهيم النجاح والفشل السطحية الضيقة، ولأننا نعيش حياتنا وحول أعناقنا تلتف مشنقة “الوقت” الذي لا يرحم، فإن أية وقفة مع النفس أثناء المشوار الدراسي لمراجعة هذا القرار، تعتبر بمثابة ركلة لمصطبة المشنقة، تودي بالمرء في غياهب الفشل الذريع، دون أن يجد أي تفهم من أي طرف لحاجته إلى هذه الوقفة الضرورية.

ولكن رغم كل شيء، تبقى هذه الوقفة مع النفس هي أكثر القرارات حكمة، التي يجب أن يتخذها الطالب، إذا وجد نفسه صريعا لاكتئاب مرير في حياته الجامعية، دون أن يلتفت للوم اللائمين. وهي ليست وقفة لالتقاط الأنفاس، وليس وقفة للتمدد والاسترخاء على الأريكة، ولكنها وقفة للنظر إلى خارج الدائرة المرسومة له. فإيقاف التسجيل في الجامعة، ثم تخصيص سنة لاكتشاف الفروع الجامعية الأخرى، ولحضور محاضراتها، ولزيارة أماكن العمل المختلفة، ولمعايشة الحياة المهنية عن قرب، ولاكتشافات الميول والمهارات الشخصية، قد تكون أنجع طريقة ليعرف المرء إن كان يسير على الطريق السليم في حياته أم لا، وإن كان إنهاء المعاناة تغيير الفرع الدراسي، قرار حكيما أم لا.

“لا تضيع سنوات حياتك”:

إن هذه العبارة المغلوطة ضيعت حياة الكثيرين بأكملها، لا سنوات منها فقط. إن تصورنا عن الحياة على أنها ماراثون كبير، فيه حارات متشابهة يركض فيها الأنداد، هو تصور بالغ السذاجة. فهل على خريجي الثانوية نفسها أن يدخلوا الجامعات في الوقت نفسه؟ وهل عليهم بالفعل أن ينهوا الحياة الجامعية في العمر نفسه؟ وهل يعتبر من تأخر عن زملائه سنة أو سنتين في الدراسة قد خسر هذه السنوات من عمره؟

إن أي يوم يمر، يتم اكتساب خبرة حياتية فيه، هو بمثابة إضافة لحياة المرء، سواء كان ذلك في حرم الجامعات أم خارجها، وسواء كان ذلك ممهورا بختم الجامعات أم بسواها!

لذا فإن وقفة مع النفس في منتصف المشوار الدراسي، لجمع خبرات جامعية وحياتية وعملية أخرى، بل وحتى التحويل من فرع دراسي إلى فرع دراسي آخر، بعد عدد من السنوات، لا يعتبر تضييعا للعمر، بل يعتبر تصحيحا ضروريا للمسار. وتلك السنوات “الضائعة” سيحتفظ منها المرء طوال حياته بخبرات ومعارف، تضيف لشخصيته، وتوسع آفاقه.

وعند اتخاذ هذا القرار سيواجه الطالب عواصف من الرفض، واتهامات جارحة بالفشل أو العبث أو التهور، وابتزازات عاطفية أو حتى مالية من الأهل. ولكنها معركة لا بد من خوضها مهما كان الثمن، فبدونها سيظل المرء يمشي في حياته معصوب العينين.

النظام الجامعي في الغرب تجربة تستحق الاستيراد:

يعد النظام الجامعي في العالم العربي حاضنة حقيقية للأمراض النفسية، بسبب طول سنواته، وجفاف مواده العلمية، وافتقاره إلى ربط العلم بالجانب التطبيقي في غالب الحالات، إضافة إلى اضطراره الطالب إلى الاعتماد المالي على الأهل، وحرمانه من ممارسة حياة عاطفية وجنسية صحية، في إطار علاقة زواج أثناء دراسته، مما يكلفه الكثير من الطاقة النفسية في كبت حاجاته الطبيعية.

وإن تجارب الدول الغربية في نظامها الجامعي، تجارب تستحق الاستيراد والتطبيق، ففي ألمانيا مثلا ثمة لكل طالب فرصة الحصول على قرض دراسي، يكفي لتغطية نفقات سكنه وتأمينه الصحي وطعامه وشرابه ومصروفه الدراسي، ليسدد لاحقا نصفه فقط، وبالتقسيط المريح، عندما يدخل الحياة المهنية، بالإضافة إلى وجود عدد كبير من التسهيلات والتخفيضات للطلاب في المواصلات النوادي وكل نواحي الحياة الأخرى.

كما توجد الكثير من فرص العمل بدوام جزئي للطلاب، التي تسمح لهم بزيادة دخولهم. وثمة خيار الدراسة أيضا بدوام جزئي، لأصحاب الظروف الخاصة، كالأمهات أو معيلي الأسر، ناهيك عن التعامل الأخوي الحقيقي بين الأساتذة وطلابهم، والذي يكون فيه الهدف الأهم فيه للأستاذ، هو تقديم المساعدة للطالب، بعيدا عن كل العقد الدكتاتورية وما تفرزه من سلوكيات مريضة.

أما أجمل ما في هذه الجامعات، هو التعامل المرن مع الوقت، بحيث تجد من الشائع جدا إيقاف الدراسة مؤقتا للذهاب في رحلة لمدة سنة إلى سواحل إسبانيا مشيا على الأقدام، أو التحول من فرع إلى فرع آخر بكل بساطة، أو حتى بدء الحياة الجامعية في سن الأربعين أو الخمسين أو الستين، دون أن يكون ذلك مدعاة لأية دهشة، بينما لا نزال نحن نخوف طلابا في مقتبل العمر بفزاعة “لا تضيع سنة من عمرك!”، ونتركهم وحدهم صرعى “أفكار انتحارية” واكتئاب مرير.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه