قيس سعيّد وتحديات الانطلاقة الثورية في الفضاء الخارجي

 

“الكل سيمرّ ويمضي، والدولة يجب أن تستمر وتبقى”

بنبرة هادئة واثقة رصينة، ولغة فصيحة مخلوطة بمصطلحات من معجم الثورة، بعيدة كلّ البعد عن قاموس النخب السياسية، استهل الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد خطابه تحت قبة البرلمان، بعد قسمه الدستوري في الثالث والعشرين من أكتوبر.

مزيجٌ بين ثورة الياسمين وعقلانية الدولة لاح في كلمة رئيس قرطاج، وشيءٌ آخر أشبه بالوثيقة السياسية المكملة للشرعية الانتخابية، وفي ثناياها حملت أطر سياسة الداخل والخارج، وقبلها جملةً من اللاءات التطمينية: لا للمساس بالحريات، ولا للمساس بحرية المرأة، ولا للمساس بالقضايا العادلة.

ربط سعيد الحفاظ على المعاهدات الدولية بمصالح بلاده، وفي تقدير المراقبين ستتضح أكثر حدود سيادة الدولة وسياستها في عهد قيس وفق تعاملاته مع الخارج، سواء مع الدول الجارة أو الاتحاد الأوربي أو مع سوريا ودول  الخليج وغيرها.

جزائر وليبيا الجوار

الجزائر أولى محطات قيس المزمعة، وزيارة ليبيا في صدارة أمانيه، وفق خطابه إلى أنصاره عقب فوزه الساحق برئاسيات تونس، ولتصريحه هذا دلالات رآها المراقبون مساعي كامنة للرئيس تجاه إنعاش مشروع اتحاد المغرب العربي، والوقوف مع حكومة الوفاق المعترف بها دوليا في الجارة ليبيا.

ليس لافتا لدى كثيرين الهوى الجزائري في خطابات سعيد قبل فوزه، فلطالما كانت الجارة أوّل الواقفين في محن تونس، فهي الأسبق لتضميد جراحها بعد الهجمات الإرهابية على منطقة باردو ومدينة سوسة الساحلية عام 2015، في ذروة الموسم السياحي، ناهيك عن غيرها من المواقف المشابهة، والوفاء لها يبدو متقررا سابقا ولاحقا، فقد كانت الوجهة الأولى للرئيس الراحل السبسي عقب فوزه بالرئاسة عام 2014.

أمّا ليبيا، فوردت في أحاديثه غالبا في سياق طرحه بجعل تونس “قوة اقتراح” لحل معضلة جارتها، وسبق للرجل أن دعا إلى ضرورة الاحتماء بالشرعية الدولية فيما يتعلق بأزمتها، والمساهمة في تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، لافتا إلى الدور الأساسي التونسي في المسألة، شريطة أن يرفع الجميع أياديهم عنها، وفق تعبيره، والحديث عن التدخل الخارجي العابث بمقاسات المصالح الأحادية.

مساع تونسية ليست الأولى من نوعها، فالرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي سبق له طرح مبادرة لحلحلة أزمة الأشقاء في يناير 2017، بتنسيق جزائري مصري، ودعا حينها الأطراف إلى الإسراع في تحديد برنامج مشترك للحوار والمصالحة دون إقصاء، ومنذئذ صار ضوؤها يخفت مع المتغيرات  المتسارعة، دون نتيجة ملموسة.

فرنسا ودول أوربا 

أوربيا، حافظت تونس عبر عقود طويلة حتى بعد ثورة 2011 على دبلوماسية علاقاتها مع دول القارة المقابلة، وفي مقدمتها فرنسا شريكها الاقتصادي الرئيسي، والأولي في قائمة المستثمرين، وحتى في لائحة شركائها التجاريين.

باريس لتونس هي أكبر مانح للمساعدة الإنمائية الرسمية الثنائية، بما يعادل 25 مليار يورو، وفق أرقام وزارة أوربا والشؤون الخارجية الفرنسية لعام 2018، ناهيك عن التواطن المتبادل، ففي تونس 30 ألف فرنسي، وفي فرنسا 700 ألف تونسي، بينهم أزيد من 12 ألف طالب، وفق المصدر عينه.

ولا يستبعد دبلوماسيون مراجعة شكل العلاقات الأوربية عامة وفرنسا خاصة، بغية إعطائها أبعادا أخرى بطرق جديدة، دون كسر التزامات تونس أو إلغائها، ويطرح آخرون استعانة سعيد بوسائل أحدث، كالبحث عن أسواق بديلة تحول دون عزل البلاد، خاصة أن لها أيضا مصالح مع أمريكا، يمكن التفاعل  معها بنمط أنجع.

“التطبيع خيانة عظمى”

“الحق الفلسطيني لن يسقط، لأنها ليست قطعة أرض مقسمة في سجلات الملكية العقارية، بل ستبقى في وجدان كل التونسيين، منقوشة في صدورهم، والمنقوش لا تقدر على فسخه الصفقات.”

لا تسقط القضية الفلسطينية بالتقادم، يؤكد السعيد، ويكرر مرارا “شعبنا في فلسطين”، ويستعمل ضمير الجماعة بالمعنى الأخلاقي، ويرى محللون إمكانية انعكاس خطابات سعيد إلى التزام بشكل ما في المحافل الدولية بالدفاع عن القضية وحتى داخل الجامعة العربية.

تحمل كلمات سعيد أنفة وعزة تُذكّر بخطابات عربية سابقة، ما زال هو وفيا لمضمونها، وحديثة ينعش جزءا من الذاكرة، ويحرج أجزاء كثيرة من الأنظمة العربية المهرولة إلى التطبيع مع إسرائيل، المرغوب خفاء لدى تلك الحكومات، والمرفوض علنا عند شعوبها.

يقول سعيد إن موقفه ليس ضدّ اليهود بل ضدّ الاحتلال والعنصرية، ويرهن تطلعات بلاده بأهداف تنشد عالما جديدا، والمساهمة في تاريخ جديد، يغلب فيه البعد الإنساني على سائر الأبعاد الأخرى.

رئيس خارج النص 

أكثر الفترات الدبلوماسية التونسية قطيعة مع النظام السوري شهدها عهد الترويكا برئاسة المنصف المرزوقي وبقيادة حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، بين عامي 2012 و2014

فصلت تونس علاقاتها بالنظام السوري في فبراير 2012، وطردت حينها سفيره، وسحبت أيّ اعتراف بهذا النظام، كما دعا حينها المرزوقي بشار الأسد إلى التنحي عن السلطة.

وتوترت في حقبة الترويكا أيضا العلاقات التونسية مع مصر ودول الخليج، وسارع على إثرها الرئيس التونسي الراحل السبسي بعد توليه السلطة لإصلاحها، وكثفت تونس مساعيها الدبلوماسية المتاحة للمساهمة في تسوية الصراع بسوريا، واستعادة دمشق مقعدها المجمد منذ عام 2011، في جامعة الدول العربية.

لا تزال تونس ترأس الجامعة العربية، وفي تقدير المراقبين تبقى المسألة العربية وتوحيد وتقريب الصف العربي من الأولويات القريبة للرئيس الجديد، خاصة أن موقعها يمنحها قدرة لائقة للعب دور كهذا.

قيس سعيد رئيس خارج النص السياسي المألوف، جلبه شعب تونس بدوافع مشابهة لثورة الياسمين، وسمعوا منه لغة أخرى لم يتعودوها، وفي مستهل أدائه بمسار السلطة تلوح أدوات جديدة بملامح غير واضحة بعد، تتماشى مع خطابات الرجل وافتدائه لتونس وهتافه لفلسطين وتوعده للفساد ووعيده للفاسدين، أداء ينذر بقادم بعيد عن التكهنات المعتادة

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه