النساء وجوائز نوبل: ما علاقة الأنوثة بالعلم؟

 

“لم تفعل أي شيء للتأكيد على سماتها الأنثوية. وعلى الرغم من ملامحها الحادة لم تكن غير جذابة، وكانت حتى لتكون ساحرة لو كانت قد أبدت أدنى اهتمام بملابسها. لم تكن تفعل ذلك، حتى أنها لم تستخدم ولو لمرة واحدة أحمر الشفاه، الذي كان ليظهر التضارب مع لون شعرها القاتم. وفي سنتها الحادية والثلاثين، كانت ترتدي ملابس زرقاء، خالية من الابتكار، مثل ملابس مراهقة بريطانية”

يبدو هذا المقطع وكأنه مقتطع من رواية عادية، تتحدث عن امرأة عادية، ولكن هذا الوصف يرد في الحقيقة في رواية “الحلزون المزدوج”، التي ألفها عالم الأحياء الجزيئية جيمس واتسون، والتي يحكي فيها قصة “اكتشافه” للبنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي، رفقة زميله العالم فرانكس كريغ. وفي هذا المقطع تحديدا، لم يكن واتسون يصف امرأة عادية أبدا، بل كان يصف زميلته في المختبر، عالمة الفيزياء الحيوية روزاليندا فرانكلين.

نوبل لهما ورخامة القبر لها

ولكن حياة واتسون تبدو أقل شاعرية من روايته، وأكثر دراما منها بكثير، فهو وزميله كريغ لم يكونا ليتوصلا إلى بنية الحمض النووي، لولا سرقتهما لنتائج أبحاث الحمض النووي لزميلتهما “فاقدة الأنوثة” روزاليندا فرانكلين، والتي أدت أبحاثها على الحمض النووي، باستخدام أشعة إكس، إلى إصابتها بالسرطان، ثم وفاتها عام 1958، عن عمر يناهز الـ 37 عاما.

وبعد أربع سنوات من وفاتها، وقف الزميلان على المنبر لاستلام جائزة نوبل، وألقيا خطبة طويلة عن إنجازهما المدوي هذا، من دون أن يذكرا حرفا واحدا عن الدور العظيم الذي لعبته فرانكلين، للوصول إلى هذا الاكتشاف، والذي دفعت ثمنه حياتها. ولم يعترفا بذلك إلا لاحقا، بعد وقت طويل من الإنكار.

إن كتاب واتسون الذي وُصف بـ”غير الأخلاقي”، والذي عمل على تقديم صورة قاتمة مغايرة للحقيقة، عن شخصية زميلته فرانكلين، لا يعطي فكرة عن مجرد غيرة مهنية بين ندَّين عاديين، بقدر ما يعطي فكرة عن الجو الذي كان سائدا في مجال البحث العلمي في القرن الماضي، ومدى تمييزه ضد المرأة.

لم يكن قد مضى سوى بضعة عقود على السماح للمرأة بدخول الجامعات إذ ذاك، ولم تكن النساء مع ذلك يعتبرن طالبات “كاملات العضوية” في الجامعات، بل كن يحملن في الأوساط العلمية على سبيل المزاح الثقيل لقب “ذوات الثدي”. ولم يكن يُسمح لهن بحضور الاحتفالات المهمة للجامعة، ولا بالجلوس في المقاعد الأمامية في المحاضرات، وكان يتم التمييز ضدهن في أماكن الإقامة وقاعات الطعام، بل وفي ونوعه أيضا، وكن يُمنعن من السير على النجيل في حدائق الكليات، حيث لم يكن ذلك مسموحا إلا للأساتذة والطلاب الذكور، كما لم يسمح لهن بارتياد المكتبات إلا برفقة أستاذٍ رجل، أو برفقة خطاب توصية خاص منه.

تأثير ماتيلدا

إن حرمان روزاليندا فرانكلين من جائزة نوبل، ونسبة جهدها لزملائها الذكور، ومثلها زميلتها العالمة النووية ليز ماينتز، التي كانت عضوا في الفريق الذي اكتشف الانشطار النووي لليورانيوم، والتي تم تجاهلها تماما، ليتلقى عنها زميلها أوتو هان جائزة نوبل في الفيزياء، ليست إلا أمثلة لما يسمى بتأثير ماتيلدا.

ويُعرف تأثير ماتيلدا، الذي تم وصفه عام 1993، بأنه الإنكار المنهجي المتعمد لمساهمات النساء في مجالات البحث العلمي، ونسبة عملهن لزملائهن الذكور. وهي ظاهرة قديمة قدم العلم نفسه، وتعد أشهر الأمثلة التاريخية عليه الطبيبة الإيطالية الشهيرة تروتولا، التي عاشت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، والتي أظهرت في مجال الطب نبوغا اعتبر في عصرها غير ملائم لأن يصدر عن امرأة، ولذا نسبت كل كتبها لزوجها بعد وفاتها، حيث أنكر الطبيب والمؤرخ الطبي كارل زودهوف، الذي وضع المؤلفات في تاريخ الطب في العصور الوسطى، اعتبارها طبيبة، بل كانت تروتولا في نظره مجرد قابلة!

لم يكن نسبُ أعمال النساء للرجال استثناء، بل كانت النساء يلجأن لهذه الطريقة أحيانا، لكي تتمكن أعمالهن من نيل فرصة التقييم الجاد، بلا تحيزات مسبقة. وليس في مجال العلوم فحسب، بل أيضا في مجال الأدب، وحتى وقت قريب، الأمر الذي دفع الكاتبة الشهيرة جوان رولينغ، مؤلفة سلسلة هاري بوتر، إلى التخلي عن اسمها الأنثوي الأول، والاكتفاء بنشر سلسلتها تحت اسم J. K. Rowling عام 1997 امتثالا لنصيحة دار النشر، حتى لا تؤثر هويتها الأنثوية على فرص تسويق الكتاب.

أنثى أقل من اللازم

ويبدو أن الهوية الأنثوية، تشكل عائقا للمرأة بالفعل، عند دخول المجالات العلمية، حيث اعتبر العلم دوما “غيرَ أنثوي” بطبيعته، واعتبرت المرأة غير قادرة على ممارسة العلوم، بالكفاءة التي يتمتع بها الرجل، حيث لا يزال يُتهم تفكيرها للآن بأنه حدسي عاطفي، بينما ينظر لتفكير الرجل على أنه عقلاني موضوعي. فإذا ما أبدت المرأة العقلانية الملائمة للبحث العلمي، كان لا بد لذلك أن يجرح أنوثتها في عين الرجل، لتبدو تماما كالصورة التي قدمها جيمس واتسون عن زميلته روزاليندا فرانكلين. بل إن أينشتاين، وبعد انفصاله عن زوجته الفيزيائية ميلفا ماريك، والتي كان يتبادل معها الرسائل والحوارات بشأن أفكاره العلمية، قال ممتدحا زوجته الجديدة: “إليسا طيبة القلب وأمومية. إنها لا تهتم بالفيزياء، وتطبخ جيدا”

إن الاهتمامات الفيزيائية للمرأة إذن، كانت تجعلها أقل جاذبية، في نظر الرجال، في ذلك الوقت، وحتى واتسون نفسه، اعترف في كتابه، أنه وجد صعوبة كبيرة في التعامل مع روزا ليندا في المختبر، في تلك الفترة التي لم يكن ينظر للنساء فيها، إلا على أنهن أداة لتشتيت التفكير الجاد للرجال حسب كلامه.

ولكننا لا نتحدث هنا عن الماضي الغابر فقط، لأن ممارسة المرأة للعلم لا تزال للآن تواجه عقبات عديدة، حتى في أكثر الدول تقدما، حيث يستمر استبعاد النساء بشكل هيكلي من المؤسسات العلمية، سواء عند التوظيف أو الترقي، كما لا تزال التنشئة الاجتماعية للمرأة تقنعها بأنها غير ملائمة – بيولوجياً- لممارسة العلم، ولا يزال  تقسيم الأدوار التقليدي بين الرجال والنساء، المترافق مع عدم وجود دعم وظيفي كافي، أو مراعاة كافية لأمومة النساء في المؤسسات العلمية، واقعاً قائما في كل المجتمعات، ما يؤدي إلى حرمان النساء من فرص المشاركة العادلة في مجالات البحث العلمي. ولعل استبعاد النساء من المؤسسات العلمية، ليس إلا أهون الشرور التي أتت بها هيمنة الرجال على الأوساط العلمية، لأن العين الرجالية الواحدة، التي نظر بها البحث العلمي للعالم بأسره، جعلت العلم ذاته، في كثير من الحالات، علما “ذكوريا” في جوهره!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه