محفوظ دياب لا يجد من يكتبه

أجواء المقال مأخوذة من قصة طويلة لتشيكوف تعكس أوضاع البؤس في روسيا أثناء حكم القياصرة.

 

(1)

بعد جولته اليومية للتسول في المدينة، ظهر المجنون (أبو طرطور) يجري نحو باب المستشفى الحقير، وتجري خلفه الكلاب وعدد من الصبية، وقبل أن يصل إلى باب المستشفى طار الطرطور من فوق رأسه فظهرت عظام جمجمته صلعاء بائسة، كما انفلت الشبشب المتهالك أثناء الجري، فأكمل طريقه حافي القدمين على الأرض المبتلة بالمطر.

في تلك اللحظة كان مدير المستشفى قد خرج ليودع صديقه مدير البريد، فرأى المجنون الأبله يقبض بيده على كيس صغير يحتوي على حصيلة التسول، وفوجىء به يقترب منه، ويمد يده إليه وهو يرتعد من البرد ويقول: أعطني قرشاً…

(2)

مد الطبيب يده في جيبه سريعا، واخرج عشرة قروش وأعطاها للمجنون البائس، فانصرف باتجاه العنبر، والطبيب يتابعه، متأملاً صلعته العارية في البرد، وجسده النحيل الذي يخيل إليه أنه على وشك أن ينكسر، وكان الحارس راقداً في الفناء على كومة من القش، فلما شاهد الطبيب هب واقفا، فقال له المدير بتودد: أرجو أن تصرف حذاءً لهذا المريض، حتى لايموت من البرد.

قال الحارس ببرود: حاضر يا صاحب السعادة، سأبلغ المشرف.

(3)

كان الطبيب المدير يعرف أن الحارس يعتبره «طرطورا» لا قيمة له، كالطرطور الذي طار من على رأس المجنون الأبله فلم يتوقف لالتقاطه، لذلك الحارس ألا ينفذ أوامر المدير إلا بعد مراجعة المشرف الذي يعتبره الجميع الحاكم الفعلي للمؤسسة «الخربانة»، لذلك عاد المدير ليوضح للحارس بلهجة مهذبة وصوت خفيض: من فضلك، أبلغ المشرف أنني بنفسي الذي طلبت ذلك.

(4)

كان الباب المؤدي إلى عنبر المجانين مفتوحا، فسمع أحد المجانين صوت المدير، وكان هو نفسه الطبيب الذي أوصى قبل سنوات بتحويله إلى المستشفى، فانتفض غاضبا من سريره القذر، ووقف وسط العنبر يخطب بأعلى صوته: “الطبيب وصل.. ظهر المدير أخيراً.. ها هاها ها.. أهنئكم أيها التعساء، لقد شرفكم الدكتور بزيارته.. الوغد الملعون يهتم الآن بأمركم”، وخبط بقدمه على الأرض بعنف وهو يقول: فلنقتل هذا الوغد، لا.. القتل وحده لا يكفي، فلنغرقه أولا في المرحاض.

(5)

اقترب الدكتور من العنبر، ثم توقف عند الباب وسأل المجنون الثائر برفق: لماذا تقول ذلك؟

– نظر إليه المجنون بتقزز كأنه يستعد للبصق عليه، وقال له بحدة: لأنك لص.. محتال.. طاغية..

* رد الطبيب وهو يبتسم: هدئ نفسك.. أنت تبالغ نتيجة الغضب، أؤكد لك أنني لم أسرق شيئا أبداً، فلماذا تغضب مني؟

– قال المجنون وبدنه كله يرتجف من الغضب: ولماذا تسجنني هنا؟

* لأنك مريض

– نعم أنا مريض، لكن هناك مئات المجانين في الخارج ينعمون بالحرية، لأنك (بجهلك) لا تستطيع أن تميزهم عن العقلاء، فلماذا تحتفظون بي هنا، وأنا وهؤلاء التعساء؟.. هل نحن كباش الفداء؟.. إننا أشرف وأعقل منكم جميعا، فلماذ تسجوننا، بينما أنت واللصوص الذين يعملون معك في هذه المستشفى أحرار؟.. أين المنطق؟

* لا دخل للأخلاق والمنطق باحتجازكم هنا، إنها صدفة.. أمسكوا بك فاحتجزوك، بينما مريض مثلك ينعم بالحرية، لمجرد أنه لم يجد من يقيده، ويأتي به إلى هنا.

– أنا لا أقبل هذا الهراء.. قالها المجنون بصوت مخنوق، وهو يتجه ناحية سريره، ويجلس منهارا على طرفه، وينخرط في البكاء.

(6)

تسمر الطبيب في مكانه، وهو يشاهد المجنون الأول (ابو طرطور) ينهض  من سريره، ويتجه ناحية المجنون الثاني (المضطهد)، وفي يده الكيس الصغير الذي أفلت هذه المرة من يد الحارس، فلم يصادره لنفسه لوجود الطبيب بالمصادفة أثناء حضوره، وأفرغ أبو طرطور محتويات الكيس أمام زميله المنهار، وربت على كتفه وتوسل إليه أن يقبل منه الطعام، الذي لم يكن إلا بضعة لقيمات وبقايا عظام وأوراق خضروات، لكن المجنون المنكسر، رفع رأسه ببطء ناحية الطبيب وسأله بأدب ودهشة لا تخلو من التحدي: إذا كنت بهذه الرأفة حقا يا دكتور، فلماذا لا تطلق سراحي؟

قال الطبيب: لأن هذا ليس في سلطتي، لو أنني أطلقت سراحك، سيقبض عليك الناس في الخارج ويعيدونك إلى هنا.

– مسح المجنون المنهار حبات عرق وهمية على جبينه، وقال بتأثر: هذا صحيح.. إنه أمر فظيع، وما العمل إذن؟

ما العمل؟

(7)

ما العمل؟

هذه الكلمة أدت إلى ثورة كبيرة، ليس لأن لينين اتخذها عنوانا لكتاب سياسي ساهم في الإطاحة بحكم القياصرة، وإنما لأنه صار سؤالاً يلخص مسيرة الفقراء في البحث عن سبيل للخروج من الأوضاع الظالمة التي دمرت حياتهم

ما العمل؟.. إنه سؤال يقود دائما إلى الثورة، وبما أننا ننشد الثورة، ونسعى للتخلص من أوضاع ظالمة دمرت وتدمر حياتنا، فلا سبيل لنا إلا البحث عن وسيلة للحركة والعمل، ولا أريد أن أحكم في هذا المقال على طبيعة العمل، أو أصادر حركة الناس وأدعوهم للتوقف حتى نتفق على تفاصيل الحركة، إذ يكفي الاتفاق على تغيير الحال كطريق يضم أصحاب المصلحة في التغيير، والطريق ذاته سوف يعلمنا الكثير، فكل خطوة تكشف ما بعدها، وكما يقولون: الطريق خير اختبار للرفيق.

فلنتحرك.

لا تجعلوا الزمن ضدنا، فالتوقف للخلاف لن يفيد إلا أعداء الشعوب.

فلنتحرك.

(توضيح)

أجواء المقال مأخوذة من قصة طويلة لتشيكوف تعكس أوضاع البؤس في روسيا أثناء حكم القياصرة، وقد وجدت أن حذف الأسماء يكفي للتعبير عن حال مجتمعاتنا المقهورة، وعن الظلم والبؤس في كل زمان ومكان، الفارق أن مجنون تشيكوف وجد من يكتب عنه، وفتى الصعيد الحر محفوظ دياب لم يجد من يكتبه، إلا أشباهه من البؤساء الذين يحملون أكياس الفتات والكلمات العابرة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه