“الميديوقراطية” أو حكم التافهين! (2-2)

في الكثير من الأحيان، تتغلب على المرء صفاته الوراثية الغالبة، ولأنني أعتبر أن صفتي الأساسية التي تطغي على شخصيتي هي سمة الباحث الأكاديمي، فإنني آثرت أن تكون كتاباتي على موقع “الجزيرة مباشر” هي كتابات الباحث لا الصحفي.

في الجزء الأول من هذا المقال تطرقنا لنظرية سياسية ظن صاحبها البروفيسور آلان دونو من جامعة مونتريال بكندا أنها جديدة وغير مسبوقة، وأثبتنا في الجزء الأول أن الفكرة الرئيسة لهذه النظرية وردت في حديث نبوي شريف منذ ما يزيد عن 1400 عام من الزمان.

ونستكمل اليوم استعراض كتاب البروفيسور آلان دونو (الميديوقراطية) الذي يرصد التفاهة (أو الرويبضة بالمصطلح الإسلامي) كنسق متغلغل ضمن تفاصيل الأوضاع السياسية والاجتماعية، تصنعه وتدعمه قوى عولمية وإمبراطورية عابرة للدول والمجتمعات، وبخاصة القوي الرأسمالية المتوحشة التي تتحكم التفاهات في أسواقها وصراعاتها باعتبارها بضائع رائجة.

وكما نرى في المجتمعات العربية يلجأ التافهون (الرويبضة) لتكريس قيم وأساليب وتصورات على ذات المستوى، ونتيجة نفاذ تلك القيم والأساليب طوال الوقت وسرعة انتشارها سياسياً وإعلامياً واجتماعياً، فإن الإنسان العادي يقع في أحابيلها ولا يجد مناصاً من تقليدها حتى يبلغ أهدافه البسيطة. عندئذ يعمل التافهون على تكوين ما يمكن تسميته بـأسلوب الحياة التافهة (paradigm of life) أو (Life style)، والذي تتقلص فيه المساحات الحرة أمام أية إرادة ترفض ذلك كما أنَّ مواقع المسؤولية تغص وتزدحم بالبلهاء والسطحيين والتافهين.

وعلى المستوي الدولي، تمكنت التفاهة من التغلغل داخل النظم السياسية في قوي عظمي مثل الولايات المتحدة لدرجة اختيار مسؤولي الأنظمة من قليلي الموهبة كإدارتي بوش الابن وترمب وغيرهما، رغم أن نظرية دونو ظهرت قبل انتخابات 2016 التي فاز فيها دونالد ترمب بالرئاسة الأمريكية ضد منافسته هيلاري كلينتون من الحزب الديمقراطي الأمريكي.

الذباب الإليكتروني

أما المنطقة العربية، وفقا لنظرية دونو، فإنها بمثابة الظلال الجغرافية لهذه السياسات التي تصنعها “التفاهة المعولمة”.

 ووفقا للفيلسوف الكندي، فإن التافهين لدى الأنظمة السياسية العربية مثل الجراد البري، ينتشرون في كل مكان، يتراقصون على كافة المسارح، يلتصقون بالكراسي التصاق الديكتاتور بحذاء السلطة وزيها الرسمي. لقد بلغ التافهون مدى كبيرا في التعليم والثقافة والسياسة والفن والإعلام بحيث أصبح الواقع مغطى بكم هائل من لعاب أو كلمات هؤلاء التافهين نتيجة تزلفهم للأبله الأعلى أو الرويبضة الأكبر وهو (الحاكم)!

نتيجة زحام التافهين فالمهمة الأولى أن يكرسوا النموذج الذي وضعوه، لا بسبب إمكانياته بل لكونه يشعر متابعيه بالامتلاء، وهو امتلاء يخطف الوعي اليقظ. فالسلطة المتولدة عندئذ هي سلطة واهية، ابنة اللحظة الطائشة، وهي الصورة التي تتلاعب بالإغواء، بحيث تترك لدى المتابع كماً زلقاً من الجاذبية. وهي نفسها جاذبية الهيمنة التي تطغي على كافة الأنشطة الأخرى.

التفاهة كسلطة تتسلل عبر الوسائط المتاحة لنظامها السياسي، إنَّها ديكتاتورية ناعمة نعومةً أشدَّ عنفاً، وهذا لا ينفي وجود تطورات وأسس في جوانب العالم المعاصر تدعمها وتؤكدها.”

يا بلهاء العالم.. اتحدوا!!

الرأسمالية- وفقا لدونو-لا ترتبط بحروب لنهب الثروات العالمية والسيطرة على الشعوب ومركزية السوق والاستهلاك بل لا يتم كل ذلك إلاَّ إذا جعلت الإنسان نفسه أحد السلع التافهة.

ويصل آلان دونو للقول:” شرط الرأسمالية المسيَّسة أنْ تغرق الإنسان في أوحال التفاهة، وأنْ تجعله ساعياً إليها بكل حرص ودأب دون وعي، وبالتالي ليست العقول الكبيرة هي التي تبنيها الرأسمالية بل العقول التي تستطيع مخادعة الآخرين وتوظيفهم كرأس المال بالضبط. أي أنَّ الرأسمالية حتى تجد لها منفذا للسيطرة على المجتمعات لابد من تكريس سلطة التافهين، إنَّ السوق الحقيقي في السياسة هي سوق التفاهات.

” حينها يصبح كلُّ شيء قابلا للبيع والشراء بدءاً من الإله وملائكته وجنته ونيرانه ومساجده وكنائسه ومعابده، مروراً بالهويات والمقدسات والقيم والأخلاقيات. نحن في المراحل المتأخرة من بيع كل شيء، لا قيمة هناك لثوابت، وهذا مهم بالنسبة لفهم صورة العالم سياسياً وكيف تتقلب على هذه الشاكلة.”

وبذلك تضمن التفاهة وجود عدة أشياء من بينها فتح أسواق جديدة للتافهين وأصحاب الكفاءات الأقل، كي يتحدوا ويتماسكوا لاجتياح جغرافيا الحياة والعالم.

” الشعار معروف: ” يا بلهاء العالم اتحدوا ” كي يكون الانتصار ساحقاً.”.

كما تضمن التفاهة استبعاد أصحاب الكفاءة والخبرة من مجالات التأثير العام. لأنَّ أكبر الأخطار أمام التافهين أنْ يدرك الناس القيم الحقيقية للفعل والإنتاج والإدارة والتنظيم. وهي معركة خفية لا تنتهي إلاَّ بإجهاز أحد الطرفين على الآخر.

اكذب ثم اكذب حتى تصدق كذبتك

تسعي التفاهة أو الرويبضة وفقا للنظرية الي قلب قوانين التطور المادي الجدلي، فإذا كان التراكم الكمي يحدث تأثيراً كيفياً، فالرأي الذي يراهن عليه التافهون أنَّ “التراكم الكيفي للخطابات الفارغة والقيم البلهاء قد تترك أثراً في الواقع وتكيفه بحسب منطقها.” ويقترن ذلك بنزع أية معايير عامة للتمييز بين الأشياء والأفكار.

التافهون أو الرويبضة يدركون ان “اللامعيارية” هي المناخ الخصب لنمو المتطفلين والتافهين وإعطائهم الرواج والسلطة. الحقيقة أنَّ اشتغال التافهين على هذا ليس سطحياً بل هم يضيعون الأسس ذاتها. بمعنى أنَّ كل حالة لا معيارية إنما تخلق معايير مائعة من جنس صانعيها. فقد يقولون الشعوب تريد ذلك (الجمهور عاوز كده)، كما أنَّ الصرامة في الحياة ليست مطلوبة بهذا القدر، ولذلك يقولون دوماً: كن تافهاً تحظى بكل المكاسب والأرباح!!

ومن مرتكزات نظرية الرويبضة أو التفاهة في الحكم والدولة أن تلك التفاهة لا تتطلع إلى مبررات، فالتبرير ليس موضوعياً في نظامها السائد، كما أن خطتها هي القضاء على التبريرات من خلال إشاعة التبريرات المعكوسة، (وهنا نجد تبريرات دول رباعي الحصار علي قطر مثالا نموذجيا في هذا المجال)!!

كله ماشي!

بالنتيجة يكون العمل مجرد مواصفات جوفاء من القيم والمبادئ، ويصبح كما يرى ألان دونو قالباً فارغاً للقيام بالمهام المطلوبة من الشخص، وهو بحالته السطحية ليس ضرورياً حتى كإنسان. من ثمَّ لا يختلف فرد عن آخر في هذه الوظيفة أو تلك. بحيث يصلح أي فرد للقيام بها من عدمه. على حد قول بول فييرآبند تسود مقولة: كله ماشي anything goes، أي في غياب جوهر الفكر وأصالته يمكن لأي شيء أن يسود.

ملمح بارز في نظرية سلطة التفاهة أو حكم الرويبضة هو أنها سلطة تقضي على التنوع، لأنَّ الأخير يعني فرصاً للإبداع والاختلاف.  المبدعون المبتكرون النابهون يهددون البلهاء الرويبضة، وينتقصون من سلطتهم. وهو ما يجعل التفاهة نمطاً يعيد التحكم في الحاكم مهما تكن مواصفاته، لأن الجاهل قد يكون تكنوقراطياً أو عسكرياً أو رجل دين أو خبيراً وفوق ذلك يتبع أساليب التفاهة في ممارسة السلطة.

التفاهة أفيون النخب

ولذلك كان على سلطات الحكم في بلدان ما بعد ثورات الربيع العربي أن تستعيد ذاكرة القهر والاستبداد سريعاً بلا تراجع. لأنَّ التفاهة هي الضامن الوحيد لبقائهم في مقاعد الحكم.

التفاهة، وفقا للباحث سامي عبد العال، هي أفيون النخب السياسية والحكام العرب. لدرجة أنهم أشاعوا مناخ الجهل والتعتيم، ويقول دونو في كتابه الميديوقراطية إن الشعوب الجاهلة هي التي تحمل البلهاء إلى قصورهم الفخمة بينما يزداد من حملوهم على أعناقهم الي كرسي الحكم هيمنة وتحكماً في مصائر من أوصلوهم الي مناصبهم الرفيعة.”

  والخلاصة التي يراها دونو هي أنه إذا كانت سياسات التفاهة وضعاً راهناً، فالتفاهة ليست أكثر من دورة ستؤول إلى الانزواء والاضمحلال والانقراض، لأن الإنسانية من الناحية التاريخية لم تبلغ مراحلها المستقبلية بنفس هذا الطريق. ويؤكد إن وراء كل تفاهة أسباب تدعو لغربلة المفاهيم الرئيسة في حياة المجتمعات. وهذا الوضع أدعى إلى ممارسة التفلسف بصوره أكثر راديكالية، بحيث نتعمق في فهم جذور التفاهات ونقوم بتفكيك تكلسها وأبنيتها تمهيدا لتعريتها أمام المجتمع ككل.

 التفاهة لن تنتهي بالضرورة لكنها ستتعرى، ستنكشف بالتأكيد، فالإنسان صانع عتيد للحماقات، لكن حينما تغطى التفاهة وجه الحياة السياسية ويسود الرويبضة، فإنه يتعين تحفيز الكثير من النشاط الفكري الذي يتمكن من تفكيك وإذابة وإزاحة أنماطها السائدة. وهذا في تقديرنا هو السبيل الوحيد لمواجهتها.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه